فى ٢٤ فبراير من العام الماضى اندلعت شرارة الحرب الروسية ـ الأوكرانية، بعد تجهيزات عسكرية معلنة وغير معلنة، واعتراف روسيا بانفصال جمهوريتى «دونيتسك» و«لوجانسك» الشعبيتين عن أوكرانيا.
فى ذلك التوقيت أعلن الرئيس الروسى، فلاديمير بوتين، إطلاق عملية عسكرية تستهدف «تجريد أوكرانيا من السلاح، واجتثاث النازية منها».
منذ ذلك الحين بدأ القصف، ولم يتوقف بعد.
كان البعض يعتقد أن الأمر سوف يستغرق أياما معدودات، وربما أسابيع على أكثر تقدير، لكن «الفخ»، المعد بعناية، كان قد تم إعداده وتجهيزه لاصطياد الدب الروسى، و«جرجرته» إلى أفغانستان أخرى أو فيتنام ثانية، وربما ما هو أكثر من ذلك.
عام وبضعة أيام والعالم يقف على أطراف أصابعه بعد أن خالفت أحداث الواقع توقعات المحللين والمخططين والمتورطين فى الحرب، فالكل خاسر بامتياز إلا قليلا، وفاتورة الحرب باهظة ومكلفة على جميع الأصعدة، وانتقلت الأزمات من الحكومات إلى الأفراد، وانعكس ذلك على مستويات الأسعار والتضخم، ومعدلات النمو فى كل دول العالم بلا استثناء.
تحوّلت الحرب إلى «ساحة» لتجربة أسلحة جديدة، وتنشيط مبيعات مصانع الأسلحة القائمة، وتحفيز إنتاج نوعيات أكثر تقدما من الأسلحة المدمرة والفتاكة.
لم يخل الأمر من محاولات ومبادرات، ودعوات إلى إسكات البنادق فى ميادين الحرب، لكنها لم تتبلور بعد إلى مشروعات سلام قابلة للصمود.
أكثر من 60 دولة تحركت فى ذكرى الغزو من أجل الدعوة إلى سلام «عادل ودائم» فى أوكرانيا، ووقعت هذه الدول على مشروع قرار، لمناقشته وإقراره فى الجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن هذا التحرك جاء تكرارا لمحاولات سابقة تتبنى فيه الدول المقدمة لمشروع القرار وجهة النظر الغربية، مما يجعله فى النهاية مجرد قرار يضاف إلى القرارات السابقة للجمعية العمومية التى لا يتم تنفيذها، وإن كان لها آثار معنوية مهمة، وهو ماحدث بالفعل أول أمس الجمعة حينما تم التصويت على القرار «غير الملزم» باغلبية الأعضاء
وسط كل هذا يترقب العالم تحركا صينيا جادا، لإعلان مبادرة سلام قد تكون موضع اهتمام من مختلف الأطراف بحكم علاقات الصين القوية والمتميزة مع روسيا، وكذلك علاقاتها ومصالحها المتشابكة مع أمريكا ودول الغرب.
أعتقد أن المبادرة الصينية المتوقعة سوف تكون محل اهتمام من أطراف الصراع، بعد أن استنزفت الحرب جميع الأطراف، وأنهكت قواهم، والأهم من ذلك كله أن معاناة الشعوب بدأت تتزايد بشكل كبير وخطير، وتضغط على الحكومات بقوة، لوضع حد من أجل إنهاء هذا الصراع الذى دمر الأخضر واليابس فى العديد من دول العالم، وأسهم فى أزمة اقتصادية عالمية لم تحدث منذ «الكساد العظيم» فى ثلاثينيات القرن الماضى.
بغض النظر عن المبادرة الصينية المتوقعة، ومدى نجاحها فى إسكات أصوات القنابل والمدفعية والصواريخ، تظل الحرب الروسية ـ الأوكرانية حتى الآن مشتعلة ومتصاعدة، وتنذر بمخاطر هائلة قد تمتد إلى إشعال حرب عالمية ثالثة تنهى ما تبقى من القارة العجوز (أوروبا)، وتدمر الاتحاد الروسى وتفككه إلى دويلات صغيرة، وتنهى أسطورة القوة العظمى الأمريكية، لتصبح مجرد لاعب تاريخى على غرار وضع فرنسا وإنجلترا الآن.
لا أحد يريد هذا السيناريو «الكارثى»، لكنه ربما، ونتيجة العناد، والإصرار على ممارسة أسلوب «حافة الهاوية»، سيصل الجميع إلى ذلك السيناريو الكئيب، فها هو ديمترى ميدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسى، يعلن التحدى الأربعاء الماضى، قائلا: «إذا لم تنتصر روسيا فلن تكون موجودة، وسيمزقونها إلى أشلاء»، مؤكدا فى منشور عبر «تليجرام» أن موسكو ستدافع عن نفسها بكل وسيلة، بما فى ذلك استخدام الأسلحة النووية، ومحذرا العالم أجمع من صراع شامل إذا أصرت واشنطن على هزيمة موسكو، لأنه «عندئذ يحق لنا الدفاع عن أنفسنا بكل سلاح، بما فى ذلك الأسلحة النووية».
وقبل ذلك بيوم، صدق مجلس النواب الروسى (الدوما)، بعد خطاب عنيف للرئيس بوتين، على مشروع قانون قدمه الرئيس الروسى، لتعليق مشاركة موسكو فى معاهدة خفض الأسلحة الإستراتيجية (ستارت 3)، وهى المعاهدة المعنية بخفض الأسلحة الهجومية الإستراتيجية، والحد منها، والموقعة بـ«براج» فى 8 أبريل 2010.
كل ذلك جاء فى أعقاب الزيارة الاستفزازية التى قام بها الرئيس الأمريكى، جو بايدن، إلى كييف، والتى أكد خلالها تضامن أمريكا الكامل مع أوكرانيا فى الحرب ضد روسيا، مقدما حزمة جديدة من المساعدات الأمريكية العسكرية والاقتصادية المتنوعة، لضمان صمود أوكرانيا فى المواجهة ضد روسيا.
هى إذن حالة من الشد والجذب بين الأطراف المتصارعة، والكل يصر على استكمال مهامه وأغراضه بعد مرور عام كامل على بدء الصراع الذى لعب فيه الرئيس الأوكرانى، زيلينسكى، دور «مخلب القط»، لتفجير الصراع الذى أراده الطرفان «الأمريكى والروسى»، وخططا له مع سبق الإصرار والترصد.
خطط الرئيس الروسى للصراع بهدف إعادة تشكيل خريطة القوى الدولية، وعودة النظام العالمى المتعدد الأقطاب، وتأكيد قوة روسيا كوريث شرعى للاتحاد السوفيتى، وتأكيد قدرتها على الهيمنة وبسط نفوذها خارج أراضيها.
أما الجانب الأمريكى فقد تمنى إشعال الحرب، وخطط لها من خلال الممثل المتواضع «زيلينسكى»، وتصرفاته الاستفزازية للجانب الروسى، والتهديد بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبى تارة، وإلى «الناتو» تارة أخرى، والتلاعب فى تطبيق «اتفاقية مينسك» التى تم توقيعها فى 2014، وما تبعها من «اتفاقية مينسك» الثانية فى 2015، وهما الاتفاقيتان اللتان لم يتم تنفيذ بنودهما بالكامل، ليكون ذلك بمثابة «قنبلة النار» التى أشعلت فتيل الحرب، لكن مع سبق الإصرار والترصد من كلا الطرفين.
الآن، وبعد مرور عام، يمكن رصد أبرز الملاحظات، والسيناريوهات التالية.
أولاً: استحالة تحقيق نصر حاسم ونهائى على أرض المعركة، سواء من الجانب الروسى أو الأوكرانى، فقد حققت القوات الروسية تقدما مهما وحيويا بالاستيلاء على ما يقرب من 20٪ من الأراضى الأوكرانية، خاصة فى إقليمى «لوجانسك» و«دونيتسك»، وهناك معارك عنيفة تدور الآن فى «باخموت». لكن على الرغم من كل ذلك، فإن هذه الانتصارات لاتزال محدودة جدا، مقارنة بما كان يتوقعه الروس من انتصار ساحق وخاطف، وإسقاط حكومة زيلينسكى فى عدة أيام أو أسابيع.
على الجانب المقابل، لن يتمكن الأوكران من إلحاق هزيمة قاسية وسريعة بالروس فى المستقبل القريب على الرغم من كل صفقات الأسلحة الهائلة والمجانية التى يقدمها الغرب لأوكرانيا، وأصبح الهدف الآن استنزاف روسيا على المدى الطويل، وتكبيدها خسائر فادحة، عسكرية واقتصادية، وإرهاقها، وعزلها سياسيا، بما يصب فى مصلحة الزعامة الأمريكية.
ثانيا: إيقاظ سباق التسلح المجنون، ودخول اليابان وألمانيا هذا السباق، وهو ما يصب فى مصلحة الخزانة الأمريكية، ومصانع الأسلحة هناك، بعد أن رصدت الدول الأوروبية ودول حلف «الناتو» ميزانيات ضخمة وغير مسبوقة، لتجديد ترساناتها العسكرية.
ثالثا: بزوغ أفكار تشكيل عالم متعدد الأقطاب، وانتهاء عصر القطب الواحد، وإن كان ذلك الأمر سوف يستغرق بعض الوقت من أجل تشكيل التعددية القطبية المتوقعة التى ستلعب فيها الصين دورا بارزا إلى جانب روسيا فى مواجهة أمريكا والغرب.
رابعا: عودة «الناتو» بقوة من جديد، بعد أن كان فى سبات عميق، والسير فى طريق توسعته مرة أخرى، وضم أعضاء جدد على غرار السويد وفنلندا، وهو الأمر الذى ربما يخلق محاولات لإحياء حلف آخر على طريقة حلف «وارسو»، وإن لم يكن بهذا الاسم أو الدول التى كانت أعضاء فى الحلف السابق «المنحل».
خامسا: عودة شبح «الكساد العظيم» الذى خيم على العالم فى ثلاثينيات القرن الماضى، بعد أن ضربت الأزمة الاقتصادية معظم دول العالم، وأربكت حساباتها، وأدت إلى اشتعال أسعار السلع الغذائية والطاقة، وزيادة معدلات التضخم، والتهديد بدخول الاقتصاد العالمى مرحلة جديدة وغير مسبوقة من الركود والتضخم.
بعد كل ذلك يبقى السؤال: كيف تنتهى الحرب؟ ومتى تتوقف أصوات المدافع وأزيز الطائرات؟ وما هى السيناريوهات المتوقعة؟!.
لا أحد يملك الإجابة على وجه اليقين، لأنه للأسف، وحتى الآن، لا توجد مؤشرات قوية من كلا الطرفين تؤكد رغبتهما فى إيقاف القتال، والجلوس على مائدة المفاوضات دون شروط أو إملاءات، وبما يجعل كل طرف يصور معركة النهاية على أنها انتصار «على مقاسه»، وحقق به أهدافه التى كان يسعى إليها، سواء من الجانب الروسى، والاكتفاء بما حققه من انتصار محدود، أو من الجانب الغربى، والاكتفاء بصمود أوكرانيا، وإفشال خطة «بوتين» التى كانت تستهدف احتلال أوكرانيا بالكامل، وإسقاط «زيلينسكى».
بعيدا عن ذلك السيناريو الواقعى، يبقى سيناريوهان آخران: الأول استمرار الحرب بشكل طويل الأمد، انتظارا لتغيير الرئيس الأمريكى أو الروسى أو كليهما معا، والسيناريو الآخر اللعين هو اشتعال الحرب العالمية الثالثة، وهو ما لا يتمناه أحد على وجه الكرة الأرضية، لأن خسائره هائلة، وحساباته غير مضمونة، ونهايتها لن تكون سعيدة على أى من الأطراف أو حتى غير الأطراف.
*نقلا عن جريدة الأهرام.
رابط دائم: