شكلت التطورات الهائلة فى مجال تكنولوجيا الاتصال والمعلومات، فى أواخر القرن العشرين وبداية القرن الحادى والعشرين، سياقات جديدة لنشوب صراعات حول ما بات يعرف بالنفوذ السيبرانى فى الفضاء الإلكترونى بوصفه ساحة واسعة للتفاعلات العالمية، وظهرت مفاهيم جديدة طوَّرها علماء فى مجال العلوم السياسية.

ويعد أستاذ العلاقات الدولية الشهير "جوزيف ناى" من أهم من تحدثوا عن القوة السيبرانية كشكل جديد للقوة، حيث يعرفها "ناى" بأنها القدرة على الحصول على النتائج المرجوة من خلال استخدام الفضاء السيبرانى لخلق مزايا، والتأثير فى الأحداث الجارية، وذلك عبر أدوات إلكترونية، فقد جعلت القوة السيبرانية بعض الفاعلين الأصغر فى الساحة العالمة لديهم قدرة أكبر على ممارسة القوة الصلبة والناعمة عبر الفضاء السيبرانى.

تعد الديمقراطية الرقمية فضاء مهما وأداة ووسيلة يمكنها أن تسهم بصفة كبيرة فى نشر قيم وممارسات المواطنة وعلى جميع المستويات الوطنية والعالمية؛ إذ أصبح الفرد اليوم يمتلك وسائل وأدوات رقمية كافية للتعبير عن آرائه السياسية والاجتماعية. ولقد أسهمت التكنولوجيا الرقمية فى تغير بعض جوانب الممارسة السياسية، والتى تعبر فى مضمونها عن توظيف أدوات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات الرقمية فى جمع وتصنيف وتحليل وتداول كل المعلومات والبيانات، وتعتمد هذه الديمقراطية على الحوكمة الإلكترونية فى استطلاعات الرأى، والتعبير عن الرأى بعيدا عن الضغوط، وتنظم الفعل السياسى عبر الفضاء الافتراضى.

ومع بروز الفضاء الإلكترونى أو السيبرانى كساحة للصراع العالمى، واجهت المفاهيم التقليدية، مثل: الصراع، والأمن والقوة، والسيادة، تحديات واضحة، فضلا عن تكيفها مع طبيعة التفاعلات فى الواقع الافتراضى، لذا برزت الحاجة إلى مداخل ورؤى نظرية أكثر قدرة على تفسير طبيعة المتغيرات التى ألحقتها الحقائق التكنولوجية بهذه المفاهيم.

ومن منطلق أن القوة (هى القدرة على التأثير فى الآخرين لفعل ما تريده)، نضج مفهوم القوة الناعمة Soft Powerعلى يد "جوزيف ناى" لتحقيق أهدف الدول ومصالحها؛ إذ لم تعد القوة الصلبة hard Powerكافية للحصول على النتائج المرغوبة، وأعاد التطور التكنولوجى والمعلوماتى تشكيل مفهوم القوة، وأعد ظهور فواعل جديدة مثل (المنظمات والجماعات والأفراد)، وبات جليا أن من يمتلك آليات توظيف القوة السيبرانية يصبح أكثر قدرة على تحقيق أهدافه والتأثير فى أداء الفاعلين المستخدمين لهذه البيئة، فكان لثورة المعلومات والاتصالات انعكاساتها فى ربط المصالح القومية للدول بالبنى التحتية الحيوية لها.

مفهوم السيبرانية: جاء مصطلح السيبرانية Cybernetic ،مشتقا من المصطلح الإغريقى Kyber netesويعنى الطيار أو قائد الدفة أو الحاكم، ويفيد الاشتقاق الحديث بأن كلمة سيبرانية تتضمن آليات تعقيب تتيح وظائف القيادة والتحكم فى الأنظمة المغلقة. والسيبرانية مأخوذة من كلمة (سيبر) وتعنى صفة لأى شىء مرتبط بثقافة الحواسيب أو تقنية المعلومات أو الواقع الافتراضى، وظهرت عدة تعريفات من منظمات بارزة، مثل وكالة الاستخبارات المركزية (CIA)،ووكالة الأمن القومى (NSA)، وقمة الأمن السيبرانى الروسية الأمريكية، ومعهد أمن المعلومات بجامعة موسكو الحكومية، ووفقا لوزارة الدفاع الأمريكية (Department of Defense Dictionary of Military and Associative Tetms,2010).

الفضاء السيبرانى: إن الفضاء السيبرانى هو: مجال عالمى داخل بيئة المعلومات يتكون من شبكة مترابطة من البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات، بما فى ذلك الإنترنت وشبكات الاتصالات وأنظمة الكمبيوتر والمعالجات ووحدات التحكم المدمجة. من ناحية أخرى، تصف القمة الروسية الأمريكيةللأمن السيبرانى، الفضاء السيبرانى بأنه: وسيط إلكترونى يتم من خلاله إنشاء المعلومات ونقلها واستلامها وتخزينها ومعالجتها وحذفها.

علم النفس السيبرانى: علم النفس السيبرانى Cyber psychology هو دراسة العقل والسلوك البشرى وكيف تؤثر ثقافة التكنولوجيا –على وجه التحديد- الواقع الافتراضى، ووسائل التواصل الاجتماعى فيهم. تركز الدراسات البحثية السائدة على تأثير الإنترنت والفضاء السيبرانى فى نفسية الأفراد والجماعات؛ إذ تتضمن بعض الموضوعات الساخنة، مثل: الهوية عبر الإنترنت، وأنواع الشخصية فى الفضاء السيبرانى، والانتقال إلى أجهزة الكمبيوتر، والإدمان على أجهزة الكمبيوتر والإنترنت، والسلوك فى الفضاء السيبرانى، ويعد علم النفس السيبرانى تخصصا ناشئا وفقا لجمعية علم نفس وسائل الإعلام والتكنولوجيا الخاصة بجمعية علم النفس الأمريكية.

وسائل التواصل الاجتماعى والسلوك السيبرسيولوجى: على الرغم من أن علم النفس السيبرانى يتضمن منصات تكنولوجية أخرى، مثل العلاج السيبرانى وتداعيات الواقع الافتراضى، وتأثير وسائل التواصل الاجتماعى فى السلوك  البشرى؛ حيث إنها المنصة الأكثرانتشارا لاستخدام التكنولوجيا. توثرمنصة meta  الشهيرة بـ "فيسبوك " فى الحالة النفسية للمستخدمين بطرائق متعددة؛ حيث يتبع face bookنمط التواصل بين شخص وآخر،ما يسمح للمستخدمين بمشاركة المعلومات حول حياتهم، بما فى ذلك الأنشطة الاجتماعية والصور الفوتوغرافية، وقد تم تحسين هذه الميزة فى عام 2012، عندما تم تطبيق face bookmessengerللسماح للمستخدمين بدمج الميديا من الاتصالات الفردية مع ميزة face book chat،بينما يستمتع مستخدمو face bookبشعور الاتصال.

الفضاء السيبرانى و الذكاء الاصطناعى: يوظف الفضاء السيبرانى الذكاء الاصطناعى وتقنياته فى دمجها للمكان والذات الشخصية، وتعود الشفافية المكانية التى تتميز بها صورة هذا الزمان إلى عملية المصاهرة المقيمة بين الواقع الفيزيائى التقليدى والواقع الافتراضى وتداخلهما فى الكينونة التى نعيشها، ونتعامل معها فى أثناء تفاعلنا مع الفضاء المعلوماتى.

الذكاء الاصطناعى والسياسة:

يعد الذكاء الاصطناعى أحد أقوى الأدوات التى يستخدمها صانعو السياسات لاتباع نهج سياسى قائم على البيانات، مع التعلم الآلى وتقنيات التحليلات التنبؤية؛ حيث يستخدم السياسيون تقنيات الذكاء الاصطناعى فى التعرف على وجهات نظر المواطنين،ومن ثم تعديل وجهات نظرهم لكسب المزيد من المؤيدين.

وقد أسهمت تقنية المعلومات فى إدراج آليات الرقمنة (Digitization) فى بيئة المستخدمين الذين يقيمون فى بيئة افتراضية، وعمدت إلى إعادة تشكيل سمات البيئة الاجتماعية المستحدثة التى تضمهم، كما أعادت تشكيل عملية قولبة العلاقات التى تربط فيما بينهم على حد سواء. ويوفر التقدم التكنولوجى فى الوقت الحالى قدرا هائلا من القدرات لتحليل كميات كبيرة من البيانات فى غضون ثوانٍ ما يمكِّن صانعى القرار من التأثير.

تحليل البيانات فى الحملات السياسية:

يعد التحول للبيانات ظاهرة حديثة تعتمد على تصنيف وتقدير وتجميع الظواهر فى قواعد البيانات ومعالجتها عن طريق الخوارزميات؛ والاستهداف الدقيق هو "العملية التسويقية المباشرة التى تشير إلى عملية اتخاذ قرارات حول الشخص الذى يجب استهدافه برسالة الحملة". وفى مجال الحملات السياسية التى تبنى أفعالها على البيانات الشخصية، بينما لا يعرف المواطنون عادة أن الرسائل التى يتلقونها مصممة خصيصا لشخصيتهم. على هذا النحو يمكن أو يوصف الاستهداف السياسى الدقيق بأنه "تلاعب باستخدام تكنولوجيا المعلومات للتأثير سرا فى شخص آخر لصنع القرار، من خلال استهداف نقاط الضعف واستغلالها فى صنع القرار" . كما يمكن تعريفه أيضا بأنه "عملية استراتجية تهدف إلى التأثير فى الناخبين من خلال النقل المباشر للمحفزات، التى يتم تشكيلها بناءً على تفضيلات الشخص وخصائصه، حيث يقوم الاستهداف مسبقا على جمع كميات كبيرة من البيانات القادرة على تصويرالتفضيلات السياسية، وغيرها من الخصائص غير السياسية للناخبين التى يتم جمعها بمساعدة خوارزميات التعلم الآلى". وتكمن أهم مزايا استخدام تحليل البيانات والاستهداف الدقيق فى حملات الاتصال السياسى فى القدرة على تتبع ميول أو اهتمامات الناخب العامة جزئيا؛ وبناء عليها تعديل الصورة العامة للمرشحين بطريقة تتوافق مع آراء الناخبين.

التكنولوجيا ووسائل الاتصال:

أصبح التقدم فى وسائل وتكنولوجيا الاتصالات عاملا مهما فى نجاح الحملات الانتخابية الرئاسية، فالراديو والتلفزيون وسيلتان لا غنى عنهما فى الحملات الانتخابية، فمثلا خلال انتخابات 1992، كان للوعد الذى قطعه جورج بوش الأب فى دعايته الانتخابية الأولى،  التى لم يستطع الوفاء بها "اقرأ شفتى: لا ضرائب جديدة" (Read My Lips: No New Taxes)، تأثير سلبى فى حملته الانتخابية الثانية، فقد تم استخدامها على نحو واسع من جانب منافسيه، لاسيما الرئيس الأسبق بيل كلينتون،ماأدى إلى هزيمته فى تلك الانتخابات.

بعد تطوير الإنترنت فى منتصف التسعينيات، أصبح أداة لا تقدر بثمن فى خدمة الحملات الانتخابية، خصوصا بعد عام 2000، حيث قام كلا المرشحين للرئاسة آل غور وجورج بوش الابن بتدشين موقعين إلكترونيين خاصين بحملتهما الانتخابية. ولم تعرف إمكانات الإنترنت حتى عام 2004، فالمرشحون العشرة للرئاسة أحدثوا فى صيف 2003 مواقعهم لحملاتهم الرئاسية على الإنترنت، وعُدَّ الموقع الإلكترونى للمرشح الرئاسى هوارد دين (Howord Dean )، نموذجا يحتذى به لجميع مواقع المرشحين فى المستقبل، حيث كان لموقعه الإلكترونى دور مهم جدا فى استراتيجيته الانتخابية، وسمح لمؤيديه أن يقرأوا تفاصيل برنامجه الانتخابى، ويزوده بالمقابل بانطباعاتهم وتعليقاتهم وملاحظاتهم، كما جعلهم ينخرطون فى حملته الانتخابية، ويتواصلون مع مؤيدين آخرين لا يعرفونهم.

وفى عام 2008 أضحى الإنترنت وسيلة لا غنى عنها للتواصل بين الناخبين من جهة، ومع الحملات الانتخابية من جهة أخرى، مثلما عمل موقع دين فى عام 2004. وأنشأ كل المرشحين الأساسيين مواقع لهم على الإنترنت، واستخدموا بالأخص مواقع التواصل الاجتماعى مثل Face bookوقيست شعبية المرشح بعدد أصدقائه على مثل هذه المواقع، كما استخدمت قنوات الإنترنت مثل You Tubeلنشر الخطب السياسية، والدعايات الانتخابية، واستخدمت هذه المواقع أيضا كمنتديات لمؤيدى مرشح ما لمهاجمة المرشحين الآخرين ونشر مقاطع فيديو لأخطائهم وزلاتهم.

كامبريدج أناليتيكا تقود اتجاهات البيانات:

 تردد فى وسائل الإعلام الأمريكية اسم شركةCambridge Analytica) ) العالمية وهى شركة استشارية وتحليل بيانات، تم تمويلها من قبل الملياردير الأمريكى "ربورت ميرسر"(Robert Leroy Mercer) وترأسها "ستيف بانون" مؤسس Breibart قبل مغادرته كرئيس تنفيذى لحملة ترامب 2016. غطت التقارير كيفية استخدام Cambridge Analytica)) للبيانات لاستهداف الناخبين الفرديين واستهدافهم بهدف التنبؤ بقراراتهم الانتخابية والتأثير فيها. قامت شركة Cambridge Analyticaبشراء بيانات فيسبوك لعشرات الملايين من الأمريكيين دون علمهم لبناء "أداة حرب نفسية" التى أطلقتها على الناخبين الأمريكيين للمساعدة على انتخاب دونالد ترامب رئيسا. قبل انتشار الأخبار، قام FacebookبحظرCambridge AnalyticaWylie، وعلى الفور انخفض سعر سهم Facebookوتم استدعاء زوكربيرج للإدلاء بشهادته أمام الكونجرس، وبدأ عام من المناقشات الدولية المثيرة للجدل حول حقوق الخصوصية للمستهلكين عبر الإنترنت.

فى 2012، قبل ظهور كامبريدج أناليتيكا بعام، بدأ مجموعة من علماء جامعتى كامبريدج وستانفورد بالبحث عن رابط بين صفات الشخصية والصفحات التى يعجب بها الناس على فيسبوك. بهذا الهدف أنشأوا استطلاع رأى على فيسبوك، يسمح للمستخدمين بخوض اختبارات نفسية (سايكومترية) حقيقية، وهم يأملون فى إيجاد رابط بين حقيقة شخصية الفرد وشخصيته على الإنترنت. من قاموا بتحميل الاختبار قدموا بشكل واعٍ بياناتهم فى كلا الأمرين: تاريخ إعجاباتهم على فيسبوك، ومقاييس الشخصية الحقيقية من خلال الإجابة عن سلسلة أسئلة.

يسهل تخيل كيف يمكن أن تكون الإعجابات والشخصية ذات صلة بعضها بعضا، مثلما أشار الفريق فى الورقة التى نشروها فى العام التالى، مثل الأشخاص المعجبين بفنان ما، والتأمل أو خطب مؤتمرات تيد TEDيكاد يكون من المؤكد أن درجتهم فى الانفتاح للتجارب ستكون عالية . فى الوقت نفسه، الذين يفضلون الحفلات، يميلون إلى أن يكون أكثر انبساطية، نجحت الدراسة، وبعدها صار الرابط المرغوب موجودا، ثم بنى الفريق خوارزما بوسعه استنتاج شخصية الفرد بناءً على إعجاباته على فيسبوك وحده.

ومع ظهور دراستهم الثانية فى 2014، كان الفريق يدَّعى قدرة الخوارزمية على الحكم على صفات الناس الشخصية، إن استطعت جمع 300 إعجاب من ملف كل منهم على فيسبوك بدقة أكثر من أزواجهم ذاتهم. واليوم فريق البحث الأكاديمى- مركز القياسات النفسية بجامعة كامبريدج- نما الخوارزم ليستطيع تخمين الشخصية من الأكونت الشخصى على تويتر أيضا.

استطاعت شركة "أناليتيكا" إدارة معركة انتخابية محسوبة بدقة للرئيس "دونالد ترامب" وأثرت بهذا فى النتيجة غير المتوقعة بصورة حاسمة، وذلك استناداإلى تحليلات الملفات الشخصية على موقع "فيسبوك"، وقال "ألكسندر نيكس" الرئيس التنفيذى لشركة "كامبرديج أناليتيكا" فى فعاليته التى أقامها عام 2016 بمناسبة المعركة الانتخابية:إنه "لو تعرفنا على شخصية كل ناخب على حدة جيدا بصورة كافية، فإنه يمكن تفرقة الرسائل بصورة دقيقة وإثارة صدى أقوى فى المجموعات المستهدفة الأكثر أهمية. وقد دعت الوكالة الملايين ممن يحق لهم الانتخاب إلى الخضوع لاختبارات شخصية على موقع "فيسبوك" واستنبطت فى النهاية من النتائج اتجاه المعلومات التى تم إرسالها .

ليس دونالد ترامب الرئيس الوحيد الذى استخدم البيانات لدعم حملته الانتخابية، فالشركة التى اهتمت بالتسويق الرقمى لحملة ترامب هى نفسها التى خاضت حملة انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبى. سبقه إلى ذلك الرئيس السابق باراك أوباما خلال حملتيه الانتخابيتينالأولى والثانية. وكانت إدارة ترامب أشارت إلى أن الميزانية المقترحة للأمن الإلكترونى الأمريكى لعام 2020 نحو 11 مليار دولار.

 تلاعب دقيق:

فى 2013 أجرى موظفو فيسبوك دراسة مثيرة للجدل؛ إذ تلاعبوا بصفحات المنشورات لـ689.003 مستخدم دون علمهم (أو موافقتهم) فى محاولة للتحكم بمشاعرهم والتأثير فى مزاجهم، فقد حجب الباحثون أى منشورات من الأصدقاء تحتوى على كلمات سلبية، ثم كرروا الشىء نفسه بحجب تلك التى تحتوى على كلمات سلبية فى صفحة المنشورات، ذهبوا لينشروا بأنفسهم منشورات أكثر إيجابية، فى حين كان أولئك الذين تعرضوا لحجب المنشورات الإيجابية ذهبوا لينشروا كلمات أكثر سلبية بنفسهم. الاستنتاج: ربما نحسب أننا منيعون أمام التلاعب بالمشاعر، لكننا فى الغالب لسنا كذلك.إن مجرد ترتيب صفحات نتائج محرك بحث، بوسعه ترجيح كفة مرشح على آخر، ونعلم كذلك من العمل الذى أنجزه الأكاديميون أنفسهم الذين استخدمت كامبريدج أناليتكيا خوارزمياتهم بأهداف جديدة؛ أن الإعلانات التى تستهدف الصفات الشخصية أكثر فعالية. لم يكن إلا بعد ضجة كامبريدج أناليتيكا أن صار الأمر مثار اهتمام دولى مستدام فى الصفحات الأولى. عندما أثيرت تلك الفضيحة فى مطلع عام 2018، عرفت الجماهير لأول مرة كيف تحصد الخوارزميات ببطء بياناتهم، واعترفوا أنه دون إشراف وتنظيم، يمكن أن تصبح لذلك عواقب وخيمة.

قوة الرقمنة:

عام 2011، اجتمع عمالقة الإنترنت بدعوة من أوباما للعشاء معه فى البيت الأبيض، خلال اللقاء الذى أطلقت عليه الصحافة الأمريكية "عشاء الملوك"، روج أوباما لفكرة تعيين "إيرك شمدت"وزيرا للخارجيةحال تعيينه مرة أخرى رئيسا للبلاد. حينها، قال أوباما "نحن نمتلك الإنترنت"، مشيراإلى أن القوة التى ترتكز عليها بلاده تقوم على عمالقة الرقمنة.

فقد أتاح الإنترنت للولايات المتحدة فرصة خيالية ليس فقط للحفاظ على دورها القيادى وإنما لتعزيز هذا الدور، وظف أوباما المعلومات وقام بتحليلها خدمة لحملته الانتخابية عام 2008. فى دورته الثانية، تجاوزت الحملة الاستخدام الكلاسيكى لقاعدة البيانات الخاصة بالناخبين، التى تم تصنيفها وفقا للتقسيم الفرعى الكلاسيكى فى الفئات الاجتماعية والديموغرافية. بفضل الاستخدام الجاد للمعلومات، تمكن فريق أوباما من إجراء تقييمات على أساس التفضيلات والعادات المعبر عنها عبر الإنترنت لكل ناخب. فبفضل برنامج صممه مهندس فى الإعلام"رابيد غانى"، وكان متخصصا فى التحليل الاستشرافى ، سيكون بإمكان شركات وادى السيلكون صناعة انتصار المرشح السياسى. فعلى امتداد أشهر عديدة أغلق ما يقارب من 50 مهندسا إعلاميا على أنفسهم فى قاعة سرية لمركز قيادة حملة أوباما التى أطلق عليها "الكهف"، كان عملهم هو: معالجة ملايين المعطيات الأولية التى تم جمعها من الشبكة انطلاقا من تعليقات المبحرين، للتعرف على الأمريكيين الذين قد يصوتون على المرشح الديمقراطى. وهو استهداف سيمكن من التأثير فى كل مواطن متردد والسعى لاستمالته بخطاب يلائمه، يتعلق الأمر بـ"دق الأبواب" متقن وشخصى هو الذى خلق الفارق. خمس سنوات قبل ذلك كان أوباما قد أرسل، بمساعدة تكنولوجيا البيج داتا، 1.2 مليار من الرسائل الشخصية التى مكنته من الانتصار على خصمه الأمريكى.

فمنذ أكثر من قرن، يعيش رجال السياسة محاطين بمعاهد لاستطلاع الرأى العام التى تمدهم بتحاليل تمكنهم من صياغة حجج تستجيب لتوجهات الرأى العام فى الحملة الانتخابية، وقد انتقلنا من البيج داتا إلى مرحلة أخرى، قادرة على معالجة مليارات المعطيات واستخراج "البروفيل السياسى" الفردى يضاف إليه قدرتها على تحديد رد الفعل تجاه هذا القرار أو ذاك.

فى إبريل 2015 عندما بدأت الانتخابات الأولية الديمقراطية فى أمريكا، استعانت "هيلارى كلينتون" بستفانى حانون مديرة التجديد المدنى والواقع الاجتماعى فى جوجل، وكانت مهمتها تصور "أشكال جديدة فى العلاقة مع الناخبين فى عصر الشبكات الاجتماعية والرقمية"، وكان تحت إمرتها "جيش" من المصممين والمهندسين. كان على هؤلاء ابتكار تطبيقات من أجل تحسين الناخبين ومضاعفة عدد المناضلين والرفع من الدعم المادى، وكان النجاح حليفها.

وجمعت 45 مليون دولار فى ثلاثة أيام، وبذلك حطمت وزيرة الخارجية السابقة كل الأرقام، لم تقم البيانات الضخمة بتقديم الدعم الحاسم من أجل إقناع الناخبين فحسب، بل أسهمت، بالإضافةإلى ذلك، بفضل اللوجاريتمات، فى جمع المال، وهو دعم حيوى فى تغطية المصاريف الباهظة للحملات الأمريكية، وقد مثلت الحملة الرئاسية الأخيرة 2.6 مليار دولار بالنسبة للحزب الديمقراطى.

ختاما: إن الثورة التكنولوجية قادرة على التحكم فى الاتجاهات السياسية، وعليه أصبحت قنوات الاتصال التى توظفتقنيات الذكاء الاصطناعى ومعالجة البيانات الضخمة، قادرة على القيام بحشد الجماهيروتعبئتها، فضلا عنالتأثير فى القيم السياسية باستخدام القوة السيبرانية التى تعد سلاحا خارقا يحقق ما لا تحققه القنابل النووية، فقد أضحى الفضاء السيبرانى بفضل ثورة المعلومات والإنترنت أحد أهم العناصر التى تؤثر فى النظام السياسى، وهو ما نتج عنه من زيادة الوعى بأهمية الابتكار والتقدم التكنولوجى كأساس للاستحواذ على القوة، وهذا ما أكده الرئيس الروسى (فلاديمير بوتين) بقوله: "إن من يتحكم بالفضاء الإلكترونى فسيحكم العالم،فالحرب الجديدة هى حرب إدارة المعلوماتفى الفضاء السيبرانى".

قائمة المراجع:

• أحمد الكريدى، تحول مفهوم القوة فى عصر المعلوماتية، الدار العربية للعلوم ناشرون.
•  إيهاب خليفة، الحرب السيبرانية، الاستعداد لقيادة المعارك العسكرية فى الميدان الخامس، العربى للنشر والتوزيع، 2021.
•  إيهاب خليفة، القوة الإلكترونية وأبعاد التحول فى خصائص القوة، مكتبة الإسكندرية، وحدة الدراسات المستقبلية 2014.
• حيدر إبراهيم، الدعاية على الشبكات الاجتماعية، مركز الدراسات الإقليمية، 2020.
• ريتشارد هآتس، العالم بإيجاز، ترجمة، محمد الجندى، الدار الدولية للاستثمارات الثقافية، 2021.
• السيد بخيت، الإنترنت كوسيلة اتصال جديدة، دار الكتاب الجامعى، 2020.
• عبد المجيد أبو العلا، ردع الصين، التحالفات الأمريكية فى عهد إدارة بايدن، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية، العدد 335، المجلد 21، إبريل 2022.
• على فرجانى، اقتصاد الانتباه فى عصر المراقبة السيبرانية، دار بدائل للنشر والتوزيع 2022.
• ماجد محمد الحنيطى، تكنولوجيا الصراعات الدولية المعاصرة، الآن ناشرون وموزعون، 2021.
• مراد على عيسى، علم النفس السيبرانى، دار الفكر للنشر، 2022.
• مركز هردو لدعم التعبير الرقمى، الديمقراطية الرقمية، التكنولوجيا وظاهرة رقمنه السياسة، القاهرة 2017.
• منير مباركية، بين كل من الديمقراطية المعاصرة وحالة المواطنة فى الجزائر www.drKalkuari.net.
• ندى فاضل الربيعى، عباس الزبيدى، "العبودية مقابل الإنترنت، تكنولوجيا السيطرة على البشر، دار الرافدين للنشر والتوزيع 2020.
• نضال واز العبود، الانتخابات الرئاسية الأمريكية، الأبعاد التاريخية والسياسية والدستورية، مركز دراسات الوحدة العربية، 2017.
• هنرى كيسنجر، النظام العالمى، تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ، ترجمة فاضل جتكر، دار الكتاب العربى، 2016.
• لبنى خميس مهدى، تغريد صفاء، أثر السيبرانية فى تطور القوة، مجلة حمواربى، العدد 33- 2020.
• يسرا حسنى عبد الخالق، التحولات الجديدة فى آليات الاتصال السياسى فى البيئة الرقمية، المجلة المصرية لبحوث الرأى العام، يوليو 2021.

-Geoffrey L.Herrera "Technology and International Transfrmation: the Rairoad.the Atom Bomb and Politics of technological chang.state university of new York

-https://www.analyticssteps.com/blogs/how-artificial-intelligence-ai-can-be-used-politics-government