فى حياة الدول أوقات يمكن أن نطلق عليها وقت "رفع العلم"، أو كما يسميها الغرب "Raise the flag"، هذه الأوقات تظهر فيها قوة الدولة وتأثيرها فى محيطيها الإقليمى والدولى.
الدولة المصرية خلال الفترة الماضية "رفعت العلم" عدة مرات وظهر تأثيرها الإقليمى والدولى ليس فقط كدولة فاعلة وقادرة على صياغة رؤيتها وتنفيذ أجندتها الوطنية، ولكن حتى فى الأزمات كان العلم يرفرف بقوة ويؤكد تأثير الدولة المصرية.
نتذكر جميعا فى مارس من عام 2021 عندما جنحت سفينة الحاويات العملاقة "إم فى إيفرجيفن"، وسدت المجرى الملاحى فى قناة السويس، وقتها أصيب العالم بالشلل التام، رغم المحنة عرف العالم من جديد قدر مصر، تحدثت وكالة "بلومبرج" الأمريكية عن تقدير نسبى للخسائر الاقتصادية المتوقعة لمصر والعالم جراء غلق القناة، وقالت إن تكلفة الانسداد على مصر والعالم وقطاع الشحن البحرى قد تبلغ نحو 400 مليون دولار فى الساعة الواحدة، فيما تبلغ حركة الشحن البحرى المتجهة غربا نحو 5.1 مليار دولار فى اليوم الواحد، وحركة الشحن البحرى المتجهة شرقا نحو 4.5 مليار دولار تقريبًا.
أشد المتفائلين وقتها توقع أن عملية تعويم السفينة العملاقة البالغ طولها 400 متر وعرضها 59 مترا وحمولتها الإجمالية 224 ألف طن سوف تستغرق شهرا على الأقل، وأصيب العالم بالذعر وظهرت أزمات فى عملية توريد الغذاء والطاقة وصرخت أوروبا وأمريكا.
الدولة المصرية وقتها "رفعت العلم" ورفرف ليراه الجميع خفاقا مؤثرا، بعد مرور 7 أيام فقط استطاعت الإرادة والكفاءة المصرية تعويم السفينة وعاد المجرى الملاحى يعمل بكل كفاءة ليقف العالم احتراما وتحية للإرادة المصرية، ويتعلم درسا فى غاية الأهمية: مجرد توقف لجزء صغير فى مصر قادر على أن يصيب العالم كله بالشلل.
تكررت عملية "رفع العلم" أكثر من مرة وفى أكثر من موقف، آخرها مؤتمر المناخ cop27، الذى أقيم فى شرم الشيخ فى الفترة من 6 إلى 18 نوفمبر وامتد ليوم إضافى لصياغة أكثر تدقيقا للتوصيات.
أثبتت مصر للعالم قدرتها على تنظيم الأحداث الدولية الضخمة واحتضان العالم لمناقشة التحديات والقضايا المشتركة، وحقق المؤتمر نجاحا كبيرا على المستوى التفاوضى بإدراج الخسائر والأضرار لأول مرة على أجندة مؤتمرات المناخ.
وشهد المؤتمر إطلاق مجموعة من المبادرات ومنها دليل شرم الشيخ للتمويل العادل لاستخدام الدليل لدعم الدول النامية للحصول على التمويل لتنفيذ مشروعات لتغير المناخ، ومبادرة الغذاء والزراعة من أجل التحول المستدام FAST، ومبادرة حياة كريمة من أجل الصمود فى إفريقيا، وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائى، ومبادرة بشأن تغير المناخ والتغذية I-CAN، ومبادرة الاستجابات المناخية لاستدامة السلام CRSP، ومبادرة انتقال الطاقة العادلة والميسورة التكلفة فى إفريقيا AJAETI، ومبادرة تعزيز الحلول القائمة على الطبيعة لتسريع التحول المناخى (ENACT) SEforAll، IEA، IRENA، BCG، ومبادرة أصدقاء تخضير الخطط الاستثمارية الوطنية فى إفريقيا والدول النامية، ومبادرة تعزيز الحلول القائمة على الطبيعة لتسريع التحول المناخى (ENACT)، وخصصت الولايات المتحدة الأمريكية 25 مليار دولار أمريكى لتمويل خريطة الطريق لـNbS، وتستثمر ألمانيا 1.5 مليار دولار أمريكى سنويا للحفاظ على التنوع البيولوجى، ومبادرة المرونة الحضرية المستدامة للأجيال المقبلة، ومبادرة المخلفات العالمية بحلول عام 2050، والنقل منخفض الكربون من أجل الاستدامة الحضرية .LoTUS
حاليا وخلال الفترة من 29 نوفمبر وحتى 6 ديسمبر 2022، تعود مصر لـ "رفع العلم " لتعزز من دورها العالمى، باستضافة اجتماع اللجنة الاستشارية الثنائية لروسيا والولايات المتحدة BCC، لمناقشة معاهدة "نيو ستارت" للأسلحة النووية، لتسجل القاهرة نفسها العاصمة غير الأوروبية الأولى التى تستضيف هذا الحدث العالمى بالغ الأهمية.
وأعادت معاهدة ستارت الجديدة التى وقعت فى عام 2011 التعاون والقيادة المشتركة بين الولايات المتحدة وروسيا فى مجال ضبط الأسلحة النووية، وحققت تقدما فى العلاقات بين البلدين قبل توترها مع بدء العملية الروسية فى أوكرانيا. وهنا لابد من أن نشير إلى الدعوة التى أطلقها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى مؤتمر المناخ لإنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، لما يتمتع به من علاقات جيدة ومتميزة مع جميع الأطراف الدولية.
ورغم التوتر السائد بين موسكو وواشنطن، فمن المتوقع أن تنجح القاهرة فى التوصل إلى حلول تمنع أى تصعيد نووى، وهو ما سيفتح الباب بشكل أكبر أمام إمكانية التوصل إلى محادثات روسية أوكرانية مباشرة قريبا، وإلى وقف إطلاق النار ولو مؤقتا.
وتعد معاهدة "نيو ستارت" هى الوحيدة المتبقية لمراقبة الأسلحة النووية بين البلدين -روسيا وأمريكا - بعد انسحابهما فى عام 2019 من معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى الموقعة بينهما عام 1987؛ حيث تتطلب الاتفاقية من الطرفين إجراء عمليات تفتيش فى القواعد، التى توجد فيها الأسلحة، إضافة إلى تبادل البيانات للتحقق من الامتثال لبنود المعاهدة، كما تنص كذلك على تبادل سنوى لعدد الأسلحة محل الاتفاق، وتنص المعاهدة على 18 عملية تفتيش داخل المواقع سنويا.
ولابد هنا، من الإشارة إلى أنه فى مارس الماضى أعلنت موسكو تعليقا مؤقتا للسماح بتفتيش المنشآت الخاصة بها ما عدَّته واشنطن انسحابا صريحا من المعاهدة، ورأى الجانب الأمريكى أن موسكو تحاول التراجع عن التزاماتها بالمعاهدة فى ظل تلويحها الدائم مؤخرا، بإمكانية استخدام أسلحة نووية "تكتيكية" فى أوكرانيا، هذا بجانب إدخال موسكو إلى الخدمة فى الآونة الأخيرة، قدرات نوعية جديدة فى مجال التسليح النووي، كالطوربيد "بوسايدون"، والصاروخ الفرط صوتى "تسيركون . "
الآن المؤشرات كلها تتجه نحو كون مفاوضات ستارت بداية وواجهة لمفاوضات أكبر بشأن وقف الحرب، لأن أحد أهداف المفاوضات هو تلاشى أى تطور نووى فى الأزمة الروسية الأوكرانية، وبالتأكيد استضافة هذه المفاوضات، مقدمة لوساطات دولية أكبر ترعاها مصر، على نحو تعزز به القاهرة مكانتها بين عواصم القرار العالمى، خاصة أن مصر تمتلك إرثا سياسيا كبيرا بوصفها قوة إقليمية كبرى، وقوة دولية، تتسم دبلوماسيتها بالاتزان، ولا تخضع للانفعالات فى القرار، ولديها رصيد هائل فى دعم السلام والاستقرار والاتساق مع مبادئ الأمم المتحدة.
الخلاصة، القاهرة تواصل "رفع العلم" وتأكيد دورها المحورى إقليميا ودوليا، وقدرة دبلوماسيتها وأجهزتها وقيادتها على القيام بدور فاعل وقوى فى الاستقرار الدولى، فإجماع الولايات المتحدة وروسيا على إدارة مفاوضات نيو ستارت بالقاهرة، هو شهادة تقدير للدور المصرى، ولقدرة الدبلوماسية المصرية، على رعاية مفاوضات بهذه الأهمية لمستقبل العالم.