ثانيا ــ سياسات تغير المناخ فى مصر بين التغيير وتقييم الأثر:
تنم مراجعة أهم ملامح ومحاور الرؤية المصرية الحالية لتغير المناخ عن تطورات فرعية سبقت إعلان سياسات التنمية المستدامة أو كانت مهمة لتنفيذ هذه السياسات، ويمكن رصد تلك التطورات فى النقاط الثماني: (1) السعى لمواكبة التغيرات والتطورات العالمية خاصة العلمية؛(2) دعم التمكين المؤسسى للجهات الحكومية والتنسيق فيما بينها؛ (3)رفع مستويات التشاور والتشارك والمتابعة بين أجهزة الدولة؛ (4) الحرص على تحقيق التوازن بين المكاسب الاقتصادية والحماية البيئية؛ (5) الاهتمام بالكوادر البشرية؛ (6) الحفاظ على الخصوصية المصرية وتنمية مشاعر الاعتزاز بها؛ (7) الحرص على الريادة الإقليمية والانتماء الإفريقي؛ وأخيرا (8) الاستعداد الجاد لاستضافة مؤتمر المناخ، وتفصيلها على النحو التالي:
أ – السعى لمواكبة التغيرات والتطورات العالمية خاصة العلمية: وارتبط بذلك رفع سقف التخطيط والطموحات والتنويع الشديد فى مجالات المشروعات التنموية، فبعد ظهور الحديث عن الهيدروجين الأخضر بدول متقدمة، مثل اليابان، واستراليا، وفرنسا، وأسواق ناشئة كالهند، والبرازيل، انضمت مصر وأعلنت عن الإعداد لمشروعات تتعلق بالهيدروجين الأخضر كجزء من مبادرة وطنية تستهدف دمجه فى استراتيجية الطاقة 2035. لأنه ينتج طاقة صفرية الكربون، فيما يحتوى على ثلاثة أضعاف الطاقة التى يحتويها الوقود الأحفورى(9). ولا تقتصر مواكبة التطورات العلمية على الهيدروجين الأخضر وإنما أيضا الذكاء الاصطناعى، حيث يتوقع أن يساهم بنسبة 7% من الناتج المحلى الإجمالى لمصر عام 2030، وتعمل وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات على وضع استراتيجية بأربع ركائز: الذكاء الاصطناعى من أجل الحكومة، والذكاء الاصطناعى من أجل التنمية، وبناء القدرات، والعلاقات الدولية(10).
ب – دعم التمكين المؤسسى للجهات الحكومية والتنسيق فيما بينها: هنا نذكر مثلا إنشاء المجلس الوطنى للتغيرات المناخية وأنه هو الجهة الوطنية المعنية بملـــف التغيرات المناخية(11). وكذلك إنشاء المجلس الوطنى للذكاء الاصطناعى لوضع اللوائح الخاصة بهذا القطاع. يضاف إلى ذلك،تمكين وزارة البيئة وتطوير مهام عملها، (كانت وزارة دولة فقط فى السابق) وهو ما حدث أيضا بالنسبة لوزارة التخطيط، والتنسيق مع البيئة، التى لم تعد مهام عملها تقتصر فقط على الحفاظ على البيئة وإنما أبعد من ذلك بدمج البعد البيئى فى البرامج التنموية(12). والعمل على زيادة حجم الإنفاق العام للمشروعات البيئية المستدامة، ودمج كل القطاعات الخاصة والأهلية والمصرفية فى المشروعات الخُضر والمستدامة. من هذا المنطلق اتفقت وزارة البيئة والتخطيط على تحقيق 30% من المشروعات الاستثمارية بخطط الدولة لمفاهيم الاستدامة البيئية والاقتصاد الأخضر، على أن يتم زيادة هذه النسبة إلى 100% عام 2025.
ج – رفع مستويات التشاور والتشارك والمتابعة بين أجهزة الدولة: فالمتابعة الرئاسية والمراقبة من أعلى تستهدف ضمان جودة التنفيذ، والمشاركة باستخدام العرض الجاذب باستخدام منصات التواصل، لضمان متابعة ودمج المستوى الشعبى ولم يعد خطابا، نخبويا خالصا بل يسعى للمتابعة الشعبية التى تعطى قوة للمحاسبة والشفافية، وهنا نجد أن لغة الخطاب السياسى أصبحت تتناول الاحتياجات وتسعى لتلبيتها، وذلك بالتوازى مع العمل على بناء وعى بيئى تدريجى كجزء من التخطيط السليم لحماية البيئة فى المدى القصير والمتوسط، وهو ما يمكن أن نرى مردوده فى المدى الطويل بكل تأكيد. يمتد مفهوم المشاركة لمستوى مؤسسات القطاع الخاص أيضا، ومن ذلك تشجيع الدولة مبادرات القطاع الخاص، ومن ذلك مبادرة شركة «نستله»، لاستعادة وتدوير مواد التعبئة والتغليف البلاستيكية، والتى دعمتها وزيرة البيئة.
د – الحرص على تحقيق التوازن بين المكاسب الاقتصادية والحماية البيئية: فتدل السياسات والرؤى المصرية بشأن تغير المناخ فى الفترة الأخيرة عن أن الاهتمام بالبيئة لا يعنى إغفال التطور الاقتصادي، ولكن التطور الاقتصادى المحسوب، ولقد أشار بيان ملخص الموازنة العامة 2021-2022، إلى أهمية الاستثمار فى الاقتصاد الأخضر والتكنولوجيا الحديثة وتحديث الخدمات الأساسية التى يحصل عليها المواطنون. وتطوير البنية التحتية كالطرق وشبكات الكهرباء والمياه والصرف الصحى والمرافق العامة بكافة مناطق الجمهورية(13). فى الإطار ذاته، تم عقد مؤتمر «مصر تستطيع بالصناعة»، مايو 2022، بمشاركة ممثلى شركات عالمية فى مجالات صناعة السيارات ومحركات الطائرات، والوزارات المعنية بصناعة السيارات وشاركت فى وضع الاستراتيجية الوطنية لتوطين صناعة السيارات فى مصر، وتهدف لتقليل الواردات وزيادة الصادرات، من خلال تقديم حوافز للمستثمرين لدعم هذه الصناعة(14).
هـ – الاهتمام بالكوادر البشرية: من أجل التنفيذ والتأهيل والتركيز على الجانب التأهيلى للكوادر البشرية الفنية بنقل ثقافة العمل التى تتسم بالدقة والانضباط، بالاعتماد على مثلث الحكومة والقطاع الخاص والخبرات الدولية أينما ظهرت حاجة لذلك لكفاءة آليات التنفيذ كعامل حاسم فى نجاح التخطيط(15). خاصة على ضوء السعى لتوطين الصناعات المرتبطة بتنفيذ خطط التنمية والمشروعات التنموية الكبرى. ولا يعنى ذلك الاقتصار فى الاهتمام بتطوير العنصر البشرى على الخبرات العلمية والفنية المعقدة، وإنما امتد الاهتمام للحرفيين، وأعلنت الحرف اليدوية والتراثية كأحد محاور الاقتصاد الأخضر، سعيا لتحقيق مكاسب ثقافية، وبيئية، واجتماعية، وتعزيزا لمبدأ دمج جميع الفئات والشرائح فى عملية التنمية المستدامة المستهدفة.
و – الحفاظ على الخصوصية المصرية وتنمية مشاعر الاعتزاز بها: وهنا فقد قامت وزارتا البيئة والتعليم بتوفير محتوى وطنى يتحدث عن البيئة المصرية (الحقائب التعليمية فى مجال البيئة)باللغتين العربية والإنجليزية أملا فى زيادة وعى المعلمين والطلاب بمشكلات البيئة وحلولها، وتوفير معلومات تستند إلى الفهم دون الحفظ، وأن ينعكس ذلك على سلوكيات المجتمع، و المضى نحو الحفاظ على الموارد الطبيعية والحد من التلوث والعمل على صون الطبيعة(16). ونذكر هنا أيضا «خريطة مشروعات مصر للمتابعة: مصر تبنى مستقبلها»، والتى تتيح للمتصفح الاطلاع على بيانات وحالة 7545 مشروعا وكذلك موقعها تحديدا على خريطة الجمهورية(17).
ز – الحرص على الريادة الإقليمية والانتماء الإفريقي: اعتبرت الحكومة المصرية ترأس مؤتمر الاتفاقية الرابع عشر فرصة لدعم التعاون الإقليمى مع دول إفريقيا. وفرصة كذلك لتعظيم المصالح الوطنية والإقليمية، خاصة أن الدبلوماسية المصرية نشطت فى مجال التنسيق إفريقيا والقيام بدور «القيادة إفريقيا» وتمثيل المصالح الإفريقية بالتنسيق مع المبادرات الإفريقية، مثل (النيباد). وأكدت الحكومة المصرية على مساعيها التعاونية خلال ترأس مؤتمر الاتفاقية، حيث تهدف مصر لتقديم الدعم من خلال تلك الرئاسة، كما أكدت مبادئ سياستها الخارجية ودبلوماسيتها البيئية الرامية لاستمرار الحوار بين الدول المتقدمة والدول النامية لتجنب المخاطر المتوقعة لفقدان التنوع البيولوجي، الأمر الذى امتد لمؤتمر المناخ، حيث سبق وتحدثت مصر باسم المجموعة الإفريقية فى مفاوضات البيئة وتغير المناخ فى مؤتمر باريس 2015(18)، من خلال ذلك عززت وجودها إفريقيا واستعدت للاستضافة فى 2022.
ح – الاستعداد الجاد لاستضافة مؤتمر المناخ: وهنا تم اتخاذ عدد من الإجراءات كتشكيل اللجنة التنسيقية العليا لاستضافة مؤتمر المناخ، وتحويل مدينة شرم الشيخ لمدينة خضراء، وإعداد القائمة المبدئية للمبادرات الفنية بالتنسيق مع الوزارات المعنية، وإعداد ورقة مفاهيم وخطة تنفيذية لكل مبادرة، وإعداد مصفوفة للتعاون مع شركاء التنمية، وإعداد قائمة المشروعات الخاصة بالتكيف والتخفيف. وتضمنت الاستعدادات محورا توعويا من خلال حملة «رجع الطبيعة لطبيعتها». كذلك تم إعلان الأيام الموضوعية للمؤتمر غير الرسمية، لكنها مهمة لتعظيم مكاسبه وكانت: يوم التكيف والزراعة – يوم التمويل – يوم الطاقة – يوم التنوع البيولوجى – يوم العلم – يوم خفض الانبعاثات – يوم المرأة، ويوم الشباب.
ختامـــًا:
يمكننا القول إن الرؤية المصرية لتغير المناخ تدور – بما تحمله من تغيير وتطوير يستحق الرصد والدراسة – فى فلك مليء بعوامل الدفع مثل وضوح الأهداف والتخطيط الذى يعطى أولوية للبيئة والتنمية المستدامة، والاهتمام الدولى بدعم مصر وبرامجها، والقوة السكانية وعوامل التحدى على المستوى الوطني، والإقليمي، والدولي، منها حالة التنافس، والصراعات الدولية التى قد تخلق حالة من عدم الاستقرار وتضيف أعباء اقتصادية ومالية. وترتكز مصر فى استضافتها لمؤتمر المناخ Cop27 على رصيدها الدولى والإقليمى فى هذا المجال، كدولة صاحبة توجه تعاونى فى رسم سياساتها الخارجية لاسيما فى موضوع البيئة، وهو ما يظهر من خلال موافقة صانع القرار المصرى على (معظم) الاتفاقيات الدولية البيئية والتوقيع عليها. كما ساهمت مصر من خلال العالم الدكتور مصطفى كمال طلبة فى رسم خريطة التعاون الدولى البيئية، والتحركات الدولية البيئية منذ بداياتها(19)، بحسبانه مؤسس برنامج الأمم المتحدة للبيئة ورئيسه لسنوات ثم صاحب فكرة اتفاقية التنوع البيولوجي، وغيرها من الاتفاقيات البيئية الدولية، التى تضع مصر فى مقدمة الدول المساهمة فى رسم ملامح التحركات البيئية الدولية والتراكم عليها لتحقيق مكتسبات بيئية وغير بيئية، واستكملت مصر تلك الجهود خلال الاستضافة الناجحة للمؤتمر الرابع عشر لاتفاقية التنوع البيولوجي، مما مهد – إلى حد كبير – للفوز باستضافة مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ كأول دولة عربية وإفريقية. ومع ذلك، لا تزال تحديات وصول مصر لأهدافها المرجوة قائمة بشأن تغير المناخ أو التنمية المستدامة عموما، لذلك سيكون مؤتمر المناخ مؤتمرا تنفيذيا يعرض مختلف التجارب الناجحة فى تقديم الحلول من خلال الطبيعة (الفرصة والباب للدول النامية). لا تدل قائمة السياسات والمشروعات البيئية على النحو السالف تناوله إلا علىإدراك صانع القرار بأن الاهتمام بالبعد البيئى يصلح كمظلة شاملة لكل محاور التنمية، ويعزز مكتسبات الدولة المصرية محليا، وإقليميا، ودوليا بتقديمها نموذجا تنمويا آخذا فى التقدم وربما الاقتداء به فى المستقبل، وقد وجدناممثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائى يدعم تعميم مبادرة «حياة كريمة» عالميا كإحدى أهم المبادرات العالمية التى تدعم المجتمعات المحلية وتعمل على تنمية القرى والريف لحل مختلف المشكلات التى تواجه هذه المناطق(20)، ما يشير إلى أن مزيدا من الاهتمام بالتنمية المستدامة والالتزام بما تم وضعه من أهداف طموحة يمكن أن يجعل مصر نموذجا ومرجعا للكثير من الدول النامية فى المستقبل، ويتميز عن غيره من نماذج التنمية السابقة، لأن الرؤية المصرية تسعى للموازنة ما بين تحقيق التقدم الاقتصادى ومواجهة تغير المناخ.
المصادر:
رابط دائم: