بين السياسة والاقتصاد:
تعد مقولة إن السياسة والاقتصاد هما وجهان لعملة واحدة هى حجر الأساس لعلم الاقتصاد السياسي الذى بدأت بوادره فى منتصف القرن الثامن عشر على يد آدم سميث وتوماس مالتوس وديفيد ريكاردو وآخرين، وبالرغم مما أعقب ذلك من محاولات- أو فلنقل من اجتهادات- لفصل الاقتصاد عن السياسة باعتباره علما مستقلا بذاته إلا أن تلك المحاولات كثيرا ما كانت تصطدم بغياب متغيرات العلم الآخر مما أدى إلى فشلها فى تلك المحاولات ومن هنا عادت تلك المقولة إلى تقديرها السابق، والحقيقة أنه مع التسليم بصحتها إلا أن محاولة التعمق فى تلك العلاقة قد يأتي من خلال التعرف على ماهية تلك العملة ذات الوجهين وهو ما كان يمكن الإجابة عنه بسهولة خلال العصرين الزراعي والصناعي بأن ماهية العملة هى ببساطة الموارد الطبيعية من مدخلات لعمليات هذين العصرين وما ينجم عنهما من مخرجات أيضا مع عدم إغفال العنصر البشرى فى كل منهما.
أما بعد عام 1969 الذى يؤرخ له على أنه بداية عصر المعلومات أو كما يحلو للبعض تسميته عصر الثورة الصناعية الثالثة التي تحول فيها العالم ليصبح حجرة صغيرة من جراء انتشار تطبيق تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وظهور وانتشار تطبيقات الحاسب الآلي واللجوء إلى تقنيات قواعد البيانات فى التوصيف والتخزين والبحث والاسترجاع وما صاحب ذلك من ثورة فى عالم الاتصال من خلال انتشار شبكات المعلومات وعلى رأسها شبكة الإنترنت وما تلا ذلك من انتشار لتطبيقات التواصل الاجتماعي وتقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات وإنترنت الأشياء والطباعة ثلاثية الأبعاد والطائرات المسيرة والعملات المشفرة وغيرها من التطبيقات التي نقلت المفهوم إلى ما يطلق عليه الثورة الصناعية الرابعة وما تلاها من متغيرات وصولا إلى عصر الميتافيرس، فإن كل تلك المتغيرات تدفعنا إلى إعادة النظر فى العلاقة بين الاقتصاد والسياسة كما تدفعنا إلى إعادة تعريف ماهية تلك العملة ذات الوجهين فنستطيع إعادة تحليل مكوناتها التي بالطبع لا تزال ترتكز على الموارد الطبيعية، بالإضافة إلى البيانات والمعلومات وأساليب تدفقها بين أرجاء الأرض بصورة غير مسبوقة فى تاريخ البشرية منذ بدأت وما يتضمنه من إعادة تعريف لمفاهيم جزئية داخل كل علم من هذين العلمين على حدة.
هذا التغير فى طبيعة العملة اعتمد بدرجة كبيرة على مكونين رئيسيين من مكونات عصر المعلومات وهما البرمجيات Software والمكونات المادية Hardware. وبالنظر إلى المكونات المادية نجد أنها قد أصبحت عنصرا رئيسيا فى ليس فقط فى ما تم استحداثه من أجهزة كأجهزة الحواسب الآلية والهواتف الذكية، بل تمت إضافتها أيضا إلى العديد من الأجهزة التقليدية بغرض رفع كفاءة تشغليها مثل معدات المصانع المختلفة علاوة على إلى وسائل النقل بداية من السيارات والقطارات وصولا إلى الطائرات ومركبات الفضاء فضلا عن كافة الأجهزة المنزلية والمعدات الرئيسية المساهمة فى بناء أنظمة المعلومات من حواسب وخوادم Servers وملحقاتهما وأنظمة الاتصالات الأرضية والفضائية وأنظمة التعليم والصحة وكافة المعدات المستخدمة فى إنشاء وإدارة المدن الذكية وباقي القطاعات الحيوية، مثل البنى التحتية الحرجة للشركات والدول.
تأثيرات الصراعات الدولية:
وتعتمد تلك المكونات المادية في تشغيلها على الدوائر الإلكترونية الحديثة التي يتم تصميمها وتصنيعها من خلال تقنيات الدوائر المتكاملة Integrated Circuitsالمكونة فى الأساس من مجموعة من الرقائق Microchips، وهى التي عانت مؤخرا من نقص كبير أدى إلى ارتفاع سعرها بصورة كبيرة، جاء ذلك نتيجة أزمة جائحة كورونا من حيث التوقف عن معدلات الإنتاج المعتادة، ثم العودة مرة أخرى مما خلق طلبا متزايدا وما سبق تلك الأزمة وما تلاها من صراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والصين، خاصة تايوان التي تنتج منفردة نحو 65% من احتياجات العالم من أشباه الموصلات Semiconductorsفيما تنتج الصين 5% وتنتج الولايات المتحدة 10% فقط من الإجمالي، ثم جاءت بعد ذلك الأزمة الروسية الأوكرانية وأحدثت ما نراه من اختلالات فى العلاقات السياسية والاقتصادية والتدفقات لسلاسل الإمداد المختلفة، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات التضخم وتغير أولويات الإنفاق على مختلف المستويات، مع استمرار محاولات الدفع لاستمرار معدلات الرقمنة والتحول الرقمي عند مستويات تتناسب مع الخطط الاستراتيجية ومتطلبات التطوير.
وبالرغم من العلاقات المتوترة بين الصين وتايوان إلا أن الأخيرة لم تقم بأي خطوة نحو خفض أو منع إمداداتها من تلك المكونات للصين، وعلى الجانب الآخر، فإن زيارة نانسي بيلوسى رئيسة مجلس النواب الأمريكي إلى تايوان وما دار حولها من تصريحات شديدة القوة من الجانب الصيني، منها تصريح وزارة الدفاع الصينية من أن الزيارة قد تؤدى إلى الإسراع بقيام الصين برد عسكري مما يعرض استقرار تايوان إلى الخطر بالرغم من تأكيد الولايات المتحدة الأمريكية أن علاقتها بتايوان علاقة واسعة غير رسمية مقارنة بعلاقتها مع بكين التي تصفها بأنها علاقة دبلوماسية رسمية إلا أن تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن وتضمنت تحذيرا للصين وتعهدا بتدخل الولايات المتحدة الأمريكية عسكريا لحماية الجزيرة زادت من تأجيج الموقف.
البحث عن البدائل والحلول:
هذه الأزمة الجيوسياسية دفعت العديد من دول العالم إلى التخطيط لإنشاء مصانع محلية لتغطية احتياجاتها والدخول بقوة فى سوق المنافسة العالمية، منها على سبيل المثال الولايات المتحدة الأمريكية التى أعلنت فى الرابع من اكتوبر الجارى عن اعتزام إحدى الشركات الكبرى بها على إنشاء مصنع بتكلفة 100 مليار دولار فى ولاية نيويورك خلال العشرين عاما المقبلة، مع اعتماد 20 مليار دولار خلال العقد الحالى، كما أعلنت روسيا فى أبريل الماضي عن اعتماد خطة بتكلفة 38.3 مليار دولار لتصميم وتصنيع تلك الرقائق يبدأ إنتاجها بنهاية هذا العام لبعض المكونات الأولية وتنتهى فى عام 2030. على الجانب الآخر، أعلنت الهند فى سبتمبر الماضي عن الانضمام إلى هذا السباق بقيمة 19.5 مليار دولار لإنشاء مصنع يبدأ إنتاجه فى عام 2024، كما شملت خطط الإنشاء سنغافورة أيضا بقيمة بلغت 3.25 مليار دولار، وذلك على فترة زمنية بلغت خمس سنوات.
التصريحات السابقة ليست هى الوحيدة فالعديد من دول العالم قد بدأت فى التفكير فى إنشاء مصانع مماثلة أو بالتخصص فى نوع أو أكثر من الدوائر الإلكترونية، جاء كل هذا مدفوعا بتلك الأزمة التى بدأت قبل عامين ونصف العام من الآن، والتى بالرغم من تقديرات بعض الخبراء بأن الأمور قد بدأت فى التحسن، حيث وصلت المبيعات على مستوى العالم فى يوليو هذا العام الى49 مليار دولار بزيادة 7.3% عن شهر يوليو من العام السابق، ووجود انتعاشة فى بعض الأسواق، مثل سوق الحواسب الآلية والهواتف الذكية والسيارات القديمة إلا أن السيارات الأحدث قد تحتاج إلى المزيد من الوقت –ربما يكون خلال عام 2024- لكى تتخلص من تلك الأزمة، وعليه فان الوضع العام الحالى الآخذ فى الارتفاع ربما مدعوما بخفوت الصراع الأمريكى-الصينى واتجاه الأنظار إلى الصراع الروسى-الأوكرانى قد يستمر فى التحسن مع ضرورة استمرار باقى الدول فى تنفيذ الخطط السابق الإشارة إليها لكسر الاحتكار وإعادة توزيع الحصص العالمية على عدد أكبر من الدول بدلا من الوضع الحالى شديد المركزية والخطورة أيضا.
رابط دائم: