لم تهدأ عاصفة زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي "نانسي بيلوسي" لتايوان حتى بعد مرور شهر ونصف الشهر عليها، حيث استمرت الزيارات المتعاقبة من وفود الكونجرس الأمريكي والدبلوماسين الأوروبيين، كما استمر التوتر الصيني الأمريكي حول الجزيرة الانفصالية، حيث أعلنت واشنطن عن أكبر صفقة بيع أسلحة لتايبيه تقدر بنحو 1.1 مليار دولار، كما سنت قانون لمنح مساعدات عسكرية جديدة لها، مما آثار غضب الصين وهددت بالرد على ذلك عبر "إجراءات مضادة"، بالتزامن مع ذلك استمر الحشد العسكري في مضيق تايوان من خلال تنفيذ مناورات بالذخيرة الحية، الأمر الذي ينذر باحتمالية لجوء الصين للقوة لاستعادة تايوان، ما سيؤدي لمواجهة عسكرية إقليمية بين واشنطن وبكين وتايبيه، وسيهدد الأمن والسلم بجنوب شرق آسيا.
مؤشرات استمرار التوتر:
- تشريع الدعم العسكري الأمريكي لتايوان: أقرت لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ في 15 سبتمبر 2022 مشروع قانون يمنح 4.5 مليار دولار كمساعدات عسكرية لتايوان بغية شراء المزيد من الأسلحة الأمريكية لمواجهة التحديات الصينية لتايبيه، وقد قدم القانون رئيس اللجنة السيناتور الديمقراطي "بوب مينينديز"، والذي أكد أن هدفه هو "تجنُّب صراع مسلح في منطقة شرق آسيا من خلال تعزيز قدرات تايوان الدفاعية لردع الصين عن غزوها". بدورها، انتقدت بكين القانون ووصفته بأنه "رسالة خاطئة خطيرة لقوى الاستقلال في تايوان، وسيُحدث هزّة كبيرة للعلاقات الصينية–الأمريكية"، كما أعلنت واشنطن مطلع سبتمبر الحالي عن صفقة أسلحة جديدة قيمتها 1.1 مليار دولار لتايوان تشمل 60 صاروخاً "هاربون" و100 صاروخ "سايد ويندر" قصير المدى وعقد صيانة لنظام الرادارات التايواني، وتعد هذه أكبر صفقة بيع أسلحة أمريكية لتايوان منذ تولى الرئيس الأمريكي الحالي "جون بايدن" منصبه في يناير 2021، وجدير بالذكر أنه منذ عام 2010 بلغت مبيعات الأسلحة الأمريكية لتايوان 35 مليار دولار، وقد رحبت تايوان بتلك الصفقة ووصفتها بأنها "ستعزز قدرات الإنذار المبكر للجزيرة ضد الصواريخ الباليستية طويلة المدى"، فيما طالبت بكين بإلغائها وهددت باتخاذ "إجراءات مضادة" حال تم تسليم تلك الصفقة لتايبيه. ولذا، فإن استمرار الدعم العسكري الأمريكي لتايوان سيؤدي لاستمرار التوتر الأمريكي الصيني والذي سينسحب على عدد من الملفات الإقليمية والدولية، لاسيما التبادل التجاري بينهم وتداعياته السلبية على الاقتصاد الدولي.
- استمرار الحشد العسكري: منذ زيارة "بيلوسي" لتايوان والحشد العسكري الثلاثي مستمر بين الصين وتايوان والولايات المتحدة الأمريكية، ففي منتصف سبتمبر الحالي عبرت أربع طائرات مقاتلة صينية الخط الأوسط بمضيق تايوان الذي يعد "حد غير رسمي فاصل" بين الجزيرة وبر الصين الرئيسي، كما استمرت بكين في مناوراتها العسكرية المتتالية منذ شهر ونصف الشهر بالمضيق، وأعلنت وزارة الدفاع التايوانية رصد 51 طائرة وست سفن صينية حول تايوان منذ مطلع أغسطس الماضي، من بينها 25 طائرة عبرت الخط الفاصل، وأعلنت أنه خلال عام 2020سجّلت الصين نحو 380 طلعة جوية داخل الأجواء التايوانية و969 العام الماضي، و1100عملية توغل إلى المنطقة الفاصلة منذ مطلع العام الحالي. في المقابل، عبرت سفينتان حربيتان أمريكيتان مضيق تايوان بنهاية أغسطس 2022 هم (يو إس اس انتيتام، يو إس إس تشانسلورزفيل) وكانتا تحملان صواريخ موجهة في مهمة بالمياه الدولية، وبينما نفذت تايوان خلال الفترة (5-12) سبتمبر 2022 مناورات دورية بالذخيرة الحية بهدف اختبار القدرات القتالية لمختلف وحدات المشاة والمدرعات والهجوم بالمروحيات، وأعلنت أنها ستعقد بصفة دورية كل ثلاثة أشهر، وتعد هذه ثاني مرة تقوم بها تايوان بمناورات بالذخيرة الحية منذ زيارة "بيلوسي" لها.
- تشدد موقف تايوان: تتخذ رئيسة تايوان "تساي إنج ون" موقفا متشددا من التقارب مع الصين مما يزيد من حدة التوتر بين الطرفين، وقد تعهدت بشن هجوم مضاد إذا دخلت القوات الصينية أراضي تايوان وتمسكت بالدفاع عن الجزيرة وحذّرت من تداعيات أي اعتداء صيني ضدها على منطقة الإندو-باسيفيك (المحيطين الهندي والهادي) بأسرها، واستقبلت خمسة وفود من المسئولين الأمريكيين بمجلسي النواب والشيوخ ووفد من البرلمان الفرنسي خلال أغسطس الماضي، وأكدت أن تلك الزيارات "تدعم تايوان وتعزز من تصميمها الدفاع عن نفسها"، وشكرت واشنطن على "حفظ الأمن في مضيق تايوان لأن تهديد الصين باستخدام القوة ضد تايبيه لم يتضاءل"، كما أعلنت عن عزمها زيادة موازنتها العسكرية لتصل إلى 415.1 مليار دولار تايواني (13.7 مليار يورو) العام المقبل، بزيادة قدرها 13 % عن العام الماضي، وهي بذلك تسعى بذلك لتحقيق هدفين ضمان استمرار الدعم الأمريكي السياسي والعسكري لها لمواجهة التهديدات الصينية، ورفع شعبية حزبها المؤيد للانفصال والاستقلال النهائي عن الصين، لاسيما قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2023.
أبعاد جيوسياسية:
وصف وزير الخارجية الأمريكي الأسبق "هنري كيسنجر" التوتر الحالي بين واشنطن وبكين بأنه "التحدي الأكبر الذي يواجه البشرية، لأن البلدين لديهما القدرة على تدمير العالم والصراع العسكري بينهما سيجعل العالم أسوأ مما كان عليه بعد الحرب العالمية الأولى". ورغم الإدراك الأمريكي والصيني لذلك فإنهما مستمران في التصعيد السياسي والعسكري حول قضية تايوان، لأنها أصبحت ترتبط بعدة أبعاد جيوسياسية هامة لكليهما، منها:
- توظيف التوتر الصيني الأمريكي داخليا: لجأت القيادة السياسية الصينية والأمريكية لتوظيف التوتر السياسي حول تايوان داخليا، حيث تعمد "بايدن" التصعيد مع الصين لاستقطاب أصوات الحزبين الجمهوري المعارض له والديمقراطي قبل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي في نوفمبر المقبل، لاسيما بعد تراجع شعبية لأدني مستوى لها منذ توليه منصبه، وكذلك فعل نظيره الصيني "شي جينبينج" الذي يسعى لتعزيز سلطته وتمديد ولايته خلال انعقاد مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني المقرر في 16 أكتوبر المقبل، حيث استغل التوتر مع واشنطن لاستقطاب الأصوات القومية الوطنية له في ظل أول تراجع للاقتصاد الصيني منذ 2008، "فشي"يسعى لتمديد رئاسته لفترة ثالثة تمتد خمس سنوات، في خطوة غير مسبوقة، كما سيشهد المؤتمر تغييراً واسعاً في تركيبة اللجنة الدائمة للمكتب السياسي، والهيئة القوية المؤلفة حالياً من سبعة أعضاء، وقد أعلن "شي" عن جدول زمني لاستعادة تايوان بالقوة بحلول عام 2027، أي خلال ولايته الرئاسية الجديدة، ليحقق بذلك حلم مؤسس جمهورية الصين الشعبية "ماوتسي تونج" باستعادة تايوان للوطن الأم، ويصبح "شي" الزعيم الجديد للبلاد.
- صد "ثغرة درع السيلكون"التايواني: استقبلت رئيسة تايوان "تساي إينج ون"مطلع سبتمبر الحالي حاكم ولاية أريزونا الأمريكية "دوج دوسي"، وأعلنت تشييد شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات(الشركة الأولى في العالم بتلك الصناعة والمحتكرة لها) مصنعاً في الولاية بقيمة 12 مليار دولار لتوطين تلك الصناعة بالولايات المتحدة الأمريكية، وكان هذا هدف "بايدن" الذي أكده في 10 سبتمبر الحالي خلال افتتاحه مصنع لأشباه الموصلات بولاية أوهايو بقيمة 20 مليار دولار، حيث أكد "أن تصنيع هذه المكونات الإلكترونية مسألة أمن قومي لمواجهة الطموحات الصينية ولمصلحة الاقتصاد الوطني"، وذلك بعد سن تشريع أمريكي يخصص 52 مليار دولار من الإعانات لإحياء إنتاج أشباه الموصلات، وأشار "بايدن" إلى أن "الحزب الشيوعي الصيني حاول بقوة حشد مجتمع الأعمال الأمريكي ضد هذا التشريع"، وأكد أن واشنطن تحتاج إلى مكونات إلكترونية متقدمة لتصنيع أسلحة المستقبل التي ستعتمد بشكل متزايد على الرقائق الإلكترونية"، ولذا تعتمد واشنطن على سياسات التعاون الاقتصادي والتكنولوجي مع تايوان لتوطين تلك الصناعة داخلها، وذلك خشية سيطرة الصين على تلك الصناعة المتقدمة، حال استعادت تايوان بالقوة.
- تنافس إقليمي بالإندو-باسيفيك: بالتزامن مع التوتر الأمريكي الصيني حول تايوان، تتصاعد حدة التنافس بين واشنطن وبكين لبسط النفوذ والهيمنة بمنطقة الإندو-باسيفيك. فقد أعلنت واشنطن عن قمة بين "بايدن"و12 رئيس لدول جزر المحيط الهادي نهاية سبتمبر الحالي لتعزيز العلاقات معها، كما أطلقت واشنطن منتدى اقتصادي آسيوي جديد لمواجهة النفوذ الصيني باسم "الإطار الاقتصادي للازدهار في المحيطين الهندي والهادي" يضم (استراليا، وبروناي، وفيجي، والهند، وإندونيسيا، واليابان، وكوريا الجنوبية، وماليزيا، ونيوزيلندا، والفلبين، وسنغافورة وتايلاند، وفيتنام)، ما يعكس تزايد الاهتمام الأمريكي بتلك المنطقة ورغبتها في توسيع وتعميق التعاون معها لمواجهة النفوذ الصيني، في المقابل أعلنت دولة "جزر سليمان" تعليق جميع زيارات سفن البحرية الأمريكية لها حتى يتم تحديث إجراءات البروتوكول معها، الأمر الذي وصف بأنه انتصار لبكين التي وقعت اتفاق أمني مع جزر سليمان في أبريل الماضي اعترضت عليه واشنطن. جدير بالذكر أن بكين نجحت في تعزيز تعاونها مع عدد من جزر الإندو-باسيفيك منها سليمان وسولومون اللتين الغيا اعترافهما بتايوان مقابل تطبيع العلاقات مع بكين.
- تحفظ على التقارب الروسي الصيني: ثمة تقارب روسي صيني متصاعد منذ دعم بكين للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا بفبراير الماضي، ما آثار حفيظة واشنطن التي أعلنت أنها تراقب التقارب الروسي-الصيني خلال عقد قمة "منظمة شنغهاي للتعاون" بأوزبكستان يومي (15و16) سبتمبر الحالي، وحضرها الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" ونظيره الصيني "شي جينبينج" واتفقا على تعزيز التعاون المشترك بينهم والعمل على بناء نظام دولي متعدد الأقطاب، كما وصفت وزارة الخارجية التايوانية "تعزيز العلاقات الصينية الروسية بأنه يضر بالسلام الدولي"، الـأمر الذي ينذر بدعم عسكري سياسي روسي للصين، حال قررت استعادة تايوان بالقوة، كما يشير ذلك إلى احتمالية تحالف سياسي وثيق بين موسكو وبكين لمواجهة واشنطن مما سيعرقل على الأخيرة كافة خطواتها الإقليمية والدولية المقبلة.
خلاصة القول، إن احتمالات لجوء الصين للعمل العسكري لاستعادة تايوان أصبحت أقرب مما مضى، لاسيما في ظل استمرار الدعم العسكري الأمريكي لتايبيه في مواجهة بكين، بيد أن الأخيرة تدرك جيدا "الفخ الأمريكي"المعد لها لتوريطها في نزاع عسكري ثم فرض عقوبات اقتصادية مدمرة عليها. لذا، ستدرس بكين خطواتها المقبلة تجاه تايوان بدقة وستستفيد من دروس الأزمة الأوكرانية جيدا، وربما يكون أولى خطوات الحرب هو التهدئة المؤقتة، حال وافق الرئيس الصيني والأمريكي على عقد لقاء مشترك بينهم في نوفمبر المقبل بإندونيسيا على هامش قمة العشرين، لاسيما أن القمة ستعقد بعد انتهاء مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني الذي ينتظره "شي" لتجديد ولايته للمرة الثالثة.