رغم الجدال الدائر بين المحللين بشأن نتائج زيارة الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون التاريخية للجزائر فى أواخر أغسطس الماضى على مدار ثلاثة أيام – والثانية له بعد الزيارة الأولى والسريعة له فى ديسمبر 2017, والأولى من نوعها خلال فترة الرئيس "تبون"، والتى أعقبت مرور ستين عاما على تاريخ الاستقلال عام 1962، وأيضا مرور فترة طويلة من التوتر الدبلوماسى بين البلدين جراء النظام السياسى القائم حاليا فى الجزائر, وكذا فى ظل وجود عدد من الملفات الشائكة بين البلدين أبرزها مشكلة الهجرة غير الشرعية وملف التأشيرات، ومايسمى بملف الساحل مع مالى والنيجر وقضية الحدود السياسية للجزائر وغيرها من الملفات والتعويضات المطلوبة، والملف الاقتصادى خاصة الطاقة. وكذا بشأن الجدل الإعلامي الدائر حولها لدرجة أن صحيفة "لوموند" قد سحبت فى الثالث من سبتمبر الجارى مقالا لها عن زيارة ماكرون للجزائر. ورغم كون هذه الزيارة تعد الرابعة لرئيس فرنسي منذ الاستقلال لكنها جاءت في سياق مختلف تماما، تسوده حرب على مشارف أوروبا، أضرت باقتصادها ورهنت أمنها فى مجال الطاقة، مما دفع بكل دولها إلى البحث عن بدائل فعالة ومستمرة لتوريد الطاقة على أبواب الشتاء, خاصة فى ضوء تفاقم الأزمة الاقتصادية بفعل ارتفاع نسب التضخم مما يثير مخاوف ركود تاريخي يمس كل القارة الأوروبية ويشمل فرنسا من بينها.
أولا- الظروف المحلية والاقليمية والدولية المحيطة بالزيارة:
بداية يبرّر خلفيات الزيارة بتراجع غير مسبوق في حجم التبادل التجاري بين الجزائر وفرنسا، حيث نزل إلى حدود 7 مليارات دولار، بعدما تجاوز 11 مليار دولار في 2015، خاصة أن الجزائر قد ولّت وجهتها التجارية نحو بلدان آسيوية وأوروبية أخرى، رغم الحصة المعتبرة لفرنسا في بعض التعاملات، مثل القمح والادوية، وفى ضوء دخول قوى منافسة. بالمقابل، نجد أن الخلاف حول قضايا دول الجوار الجزائرى سيكون له تأثيره في الدفع نحو آفاق جديدة، كما أنّ الدبلوماسية الجزائرية سوف تراهن على قضايا أخرى مثل الحرب الأوكرانية التي قلبت الموازين، فضلا عن إن مزيدا من الانفتاح نحو الصين وروسيا ودول غربية أخرى سوف يجعل فرنسا غير ذات قوة ونفوذ في شمال أفريقيا، بدليل أن الإنجليزية ستزاحم الفرنسية في المدارس الابتدائية الجزائرية هذا العام.
إجمالا، جاءت زيارة "ماكرون" إلى الجزائر في إطار سياق إقليمي ودولي ضاغط يتطلب أهمية التنسيق والتعاون المتبادل، خاصة في ضوء ما تشترك فيه الدولتان من ملفات حيوية باتت بحاجة إلى ترسيخ المحددات المتباينة كالجيوسياسية والاقتصادية والأمنية، وحيث تكمن أهم الملفات في تزايد الخطر الأمني، والإرهاب في منطقة الساحل والصحراء على وجه الخصوص، وتزايد الضغوطات في مالي (التي باتت تُقدم دعمًا عسكريًا لها من خلال شركة فاجنر العسكرية في إطار سياسة المحاور الداخلية) وما تمتاز به الجزائر من تأثير على المشهد المالي والليبي في إطار كونها طرفًا إقليميًا ذا مصالح متقاطعة داخل تلك الملفات الحيوية، إلى جانب تزايد المشكلات الأمنية على فرنسا كما هو الحال بالنسبة لبوركينا فاسو والنيجر، واتخاذها قرارًا بإعادة تحريك قواتها لمكافحة الإرهاب من مالي إلى النيجر، في إطار مساعيها إلى تعزيز نفوذها. .
هناك أيضا التقارب المتزايد الجزائري مع كل من روسيا وإيطاليا والصين: خاصة إن روسيا بالنسبة للجزائر بمثابة شريك أمني؛ إذ تعتمد الجزائر بصورة رئيسة على تسليحها من جانب روسيا مما يُجذر من علاقتهما المتبادلة في الكثير من مناطق التلاقي في شمال إفريقيا وغربها. علاوة على ذلك، فقد شهدت العلاقات الجزائرية الإيطالية تقدمًا ملحوظًا مؤخرًا في مجال الطاقة، مما يربك حسابات فرنسا الأمنية والاقتصادية، لذا تسعى باريس إلى تدارك واحتواء الموقف مع الجزائر؛ حفاظًا على مصالحها الأمنية والاقتصادية والتأكيد على استمرارية حضورها في ذلك النطاق الحيوي.
ولاشك أن هناك أيضا ورقة الغاز وتفاقم الأوضاع أوروبيًا: كنتيجة مباشرة للتصعيد العسكري الروسي الأوكراني مع إطالة أمد الأزمة حتى وقتنا هذا، حيث تراجعت مصادر الغاز المُصدرة لفرنسا والدول الأوروبية على وجه العموم بعد قرار وقف تصدير الغاز الروسي للدائرة الأوروبية، وفي إطار التقارب النيجري الجزائري في مجال الطاقة على ضوء إعلان وزير الطاقة الجزائري “محمد عرقاب” توقيع بلاده مذكرة تفاهم مع نيجيريا والنيجر لمد خط أنابيب للغاز الطبيعي عبر الصحراء في الثامن والعشرين من يوليو 2022، كأحد مخرجات المحادثات التي تمت بين الدول الثلاث التي جرت في يونيو من ذات العام، وما يخلقه من وضع تنافسي في معادلة الطاقة في غرب إفريقيا بصورة عامة وبين الجزائر والمغرب على وجه الخصوص,من ثم جاء ذلك كليه ليُلقي بظلاله على تطلعات فرنسا في تأمين مصادر الطاقة، مستغلة بذلك العلاقات التاريخية الجامعة بينها وبين الجزائر، وضمان عدم الإطاحة بها في تلك المعادلة خاصة في ظل التقارب الجزائري الإيطالي والتركيز الروسي الصيني مؤخرًا على التعاون في قطاع الطاقة مع الجزائر، خاصة وأن هذا الخط يستهدف تصدير نحو 30 مليار متر مكعب سنويًا إلى الدول الأوروبية، فضلًا عن أن فرنسا تتطلع لإعادة تموقعها في سوق الطاقة الجزائرية التي تحظى بنحو احتياطيات نفطية تبلغ 1,5 مليار طن، مستفيدة من توترات الأوضاع الجزائرية الأوروبية بصورة عامة وبالتالى موازنة علاقاتها الأوروبية بالعودة إلى مربع الدفء في العلاقات مع فرنسا.ناهيك عما يحدث فى القارة الأفريقية شمالا وغربا من ترتيبات التحالفات الإقليمية، وتأمين مصادر الطاقة والغذاء المختلفة في إطار تكتيك الخروج من الدوائر التقليدية للتحالفات الغربية الأوروبية، والبحث عن أسواق بديلة وشراكات جديدة عابرة للقارات. وتسعى فرنسا في إطار المرحلة الراهنة إلى تحقيق ذلك، وهو ما بدأ بالفعل بالجولة الأولى لــ”ماكرون” إلى إفريقيا بعد انتخابه للمرة الثانية. واتضحت خارطة المصالح الفرنسية في المستقبل المنظور من خلال الجولة التي قام بها إلى كل من (الكاميرون – غينيا بيساو – بنين) لإيجاد شراكات اقتصادية في إطار ما تمتاز به تلك الدول من مقومات اقتصادية هائلة في تأمين احتياجات فرنسا المستقبلية من الطاقة والغذاء.
ثانيا- ردود الأفعال حول الزيارة:
رغم التباين الواضح فيما نشر حول الزيارة ووجود اتهامات متبادلة خاصة على الصعيدين الشعبي والإعلامي، لكنها بلا شك صبت في إطار توطيد العلاقات الثنائية بين البلدين، خاصة أنه تم الإعلان عن تشكيل لجنة مشتركة من المؤرخين الفرنسيين والجزائريين "للنظر معًا في هذه الفترة التاريخية" من بداية الاستعمار وحتى نهاية حرب الاستقلال، "بدون محظورات"، فيما انهالت الانتقادات الغاضبة على الرئيس الفرنسي من قبل الطبقة السياسية الفرنسية من اليسار إلى اليمين المتطرف، بعد إعلان تشكيل لجنة المؤرخين، مما يدل أن الجروح لم تندمل بعد في المجتمع الفرنسي. كانت الرئاسة الفرنسية قد أعلنت بعد مكالمة هاتفية بين الرئيس الفرنسي ونظيره الجزائري عبد المجيد تبون أن "هذه الرحلة ستساعد في تعميق العلاقات الثنائية التي تتطلع إلى المستقبل، وتعزيز التعاون الفرنسي الجزائري في مواجهة القضايا الإقليمية ومواصلة العمل على تضميد الذكريات. ووعد ماكرون، وهو أول رئيس فرنسي يولد بعد نهاية حرب الاستقلال التي استمرت سبع سنوات في الجزائر عام 1962، بحساب أخطاء الحقبة الاستعمارية.
واعترف ماكرون في عام 2018، بمسؤولية الدولة الفرنسية عن وفاة المعارض الجزائري "موريس أودان" عام 1957، ليسجل بذلك سابقة بإقرار استخدام الجيش للتعذيب الممنهج أثناء الحرب. واتخذ لاحقا قرارا هاما لتسريع رفع السرية عن الوثائق السرية المتعلقة بالحرب.
ورأى ماكرون أن العلاقات مع الجزائر "قصة لم تكن بسيطة أبدا، لكنها قصة احترام وصداقة ونريدها أن تبقى كذلك، وأجرؤ على القول إنها قصة حب"، لافتا إلى شراكة تم إنجازها "في خضم الحماسة الحالية" بعد اللقاءات المتعددة التي جرت مع تبون ووزرائه. وفي سياق متصل، قال الرئيس الفرنسي إنه سيعمل على "شراكة جديدة من أجل الشباب ومن خلالهم" تشمل قبول ثمانية آلاف طالب جزائري إضافي للدراسة في فرنسا ليرتفع إجمالي عدد الطلبة الجزائريين المقبولين سنويا إلى 38 ألفا"، بالإضافة إلى أنه دافع بقوة عن فكرة تسهيل حصول بعض الفئات من الجزائريين على تأشيرات فرنسية من أجل المساهمة في ظهور "جيل فرنسي جزائري جديد في الاقتصاد والفنون والسينما وغيرها"، حيث كانت قد تسببت قضية التأشيرات في تعكير العلاقات بين البلدين، بعد أن خفضت باريس بنسبة 50% عدد تلك الممنوحة للجزائر، مشيرة إلى عدم تعاون هذا البلد في استرجاع مواطنيه المطرودين من فرنسا.
وأوضح ماكرون أنه ناقش هذه المسألة خلال لقاء مطول مع تبون، وتم تكليف الوزراء بمتابعته بهدف محاربة الهجرة غير الشرعية، وفي الوقت نفسه تسهيل الإجراءات بالنسبة لـ"مزدوجي الجنسية والفنانين والمقاولين والسياسيين الذين يعززون العلاقات الثنائية.
وكان تبون قد دعا نظيره الفرنسي إلى زيارة الجزائر في رسالة تهنئة بعث له بها بمناسبة إعادة انتخابه رئيسا للجمهورية الفرنسية في أبريل الماضي، أكد خلالها أن الرؤية الجديدة المبنية على الندية وتوازن المصالح "التي نتقاسمها فيما يتعلق بالذاكرة والعلاقات الإنسانية والمشاورات السياسية والاستشراف الاستراتيجي والتعاون الاقتصادي والتفاعلات في كافة مستويات العمل المشترك، من شأنها أن تفتح لبلدينا آفاقا واسعة من الصداقة والتعايش المتناغم في إطار المنافع المتبادلة"، حسبما نقلت وكالة الأنباء الجزائرية. من جانبه اعتبر الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبون خلال كلمة مقتضبة باللغة الفرنسية، عقب توقيع الإعلان الصادر عقب الزيارة في القاعة الشرفية لمطار هواري بومدين، أن زيارة نظيره الفرنسي «كانت ناجحة جداً» و«أتاحت تقارباً لم يكن ممكناً لولا شخصية الرئيس ماكرون». كما أكد أنه من الآن فصاعداً، سيتمكن البلدان «من العمل معاً في العديد من المجالات خارج الجزائر وفرنسا»، موضحاً أن «هذا الاندماج سيسمح لنا بالذهاب بعيداً جدا".
وأبرز الرئيس الجزائري أن المأمول من الزيارة هو إطلاق "ديناميكية تدفع إلى التقدم في معالجة الملفات الكبرى وإلى تكثيف وتوسيع العلاقات الجزائرية- الفرنسية". كما أكد تبون في عدة مناسبات أن استئناف العلاقات الطبيعية مع باريس يكون على أساس "الاحترام الكامل للدولة الجزائرية" ومن خلال التعامل "الند للند"، مبرزا في إحدى الحوارات مع وسائل الإعلام أنه "مع الرئيس ماكرون، نستطيع أن نذهب بعيدا في حل الإشكالات المتعلقة بالذاكرة".
ثالثا- دلالات نتائج الزيارة:
لاشك أن التوقيع رسميًا على إعلان مشترك من أجل شراكة متجددة وملموسة وطموحة يُعد بداية حقيقية وجيدة في ترميم العلاقات الثنائية بين البلدين تضمن مصالحهما المشتركة. وبالنظر إلى مخرجات الزيارة، يمكن القول أنها جملة من القواعد الخاصة باستراتيجية “التوجه الجديد” التي وصف بها الرئيس الجزائري مسار العلاقات الثنائية المستقبلي، حيث تم التوافق على أهمية مبادئ الاحترام والثقة والتعاون لإزالة العقبات المختلفة التي تواجه المصالح المشترك من خلال تكثيف عمل عدد من اللجان الوزارية المشتركة، ومعالجةً قضية الذاكرة الاستعمارية التي تسبب حرجًا دبلوماسيًا بينهما فقد تم الاتفاق على إنشاء لجنة مؤرخين مشتركة من أجل النظر في كامل الفترة التاريخية منذ بداية الاستعمار إلى حرب التحرير بدون محظورات.
ولقد تم التأكيد على هيكلة المشاريع الابتكارية وضخ استثمارات جديدة من جانب بنك الاستثمار العام الفرنسي “بي بي آي فرانس” لتعزيز مشاريع الجالية الجزائرية، علاوة على استمرارية فرنسا في تقديم التسهيلات الخاصة بالتأشيرات الفرنسية خاصة بعدما قلصت “باريس” 50% من نسبة التأشيرات الممنوحة للجزائريين، وتم التأكيد على دراسة هذا الموضوع في إطار متكامل يراعي أبعاد الهجرة غير الشرعية. علاوة على ذلك فقد تم زيادة أعداد المنح الدراسية المقدمة للطلاب الجزائريين بإضافة 8 آلاف طالب جزائري لتلك المنح لتصل سنويًا (في الوقت الحالي بعد الإضافة) إلى 38 ألف طالب.
أيضا فإن هناك وقائع ملموسة على الأرض ونتائج واضحة للبيان أهمها: أن زيارة ماكرون للجزائر قد توجت بـ5 اتفاقيات تعاون بين البلدين في مجالات: التعليم العالي والبحث العلمي، واتفاق شراكة وتعاون مع معهد باستور، ومذكرة نوايا بين وزارتي الشباب والرياضة للبلدين، والتوقيع على إعلان الجزائر من أجل شراكة متجددة، وغيرها.
خاتمة - رؤية مستقبلية للعلاقات الفرنسية –الجزائرية:
تُمثل تلك الزيارة فرصة تاريخية لفرنسا والجزائر وبمثابة محرك لتنشيط سياسة المحاور والاصطفاف في الشمال الإفريقي وأوروبا، ولعل تلك الزيارة تعد بمثابة نواة لخارطة طريق محددة لمستقبل العلاقات البينية، عززت بشكل كبير من وضع رؤية مجددة منطلقة من احترام السيادة وتوازن المصالح والعلاقات المشتركة بينهما، في إطار من تحرك براجماتي فرنسي وجزائري، خاصة في ضوء ما يشهده الإقليم من توترات متعددة وتجاذبات مختلفة إلى جانب الضغوطات الدولية وعلى رأسها الأزمة الروسية الأوكرانية وما نتج عنها من تأزم في ملف الطاقة، لذا فالمصالح الأمنية والاقتصادية وطبيعة التهديدات الخاصة بها تمثل دافعًا قويًا نحو حتمية توطيد الشراكة بينهما. فالوضع الدولي الراهن والتغيرات العالمية في سلاسل الإمداد والأزمة الغذائية العالمية وأزمة الطاقة بعد توقف الغاز الروسي المصدر للدول الأوروبية، قد استدعي بصورة كبيرة أهمية التقارب المشترك للطرفين كنمط من استراتيجية "win- win Game" .