الحوار الوطني والدعوة إليه التي أطلقها السيد رئيس الجهورية فى نهاية أبريل من العام الحالي هو دون شك حوار استثنائي في مرحلة استثنائية تمر بها مصر والعالم، فالأصل أن الحوار الطبيعي يدور في قنواته الطبيعية عبر المؤسسات البرلمانية ووسائل الإعلام. وبهذا المفهوم تطلب هذا الأمر الاستثنائي حواراً يتفهم طبيعة هذه المتغيرات، ويمتلك، ليس فقط المرونة من أجل المواءمة، بل يقينا كاملا بين أطراف الحوار بأنه يمكن الحصول على نتائج إيجابية؛ حيث الكل مدعو للمشاركة في إزالة أنقاض ما حدث في مصر عقب ثورتين في أقل من ثلاثين شهراً، وهى الثورات التي لم تهدم نظامين سياسيين فقط، بل أربكت مؤسسات الدولة واستنزفتها. إن جوهر المكون الحقوقي –بداية- في الحوار الوطني أنه لا يمكن الحديث عن تمتع المواطنين بحقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية إلا في ظل دولة قوية ومؤسسات مستقلة ومستقرة، لأن التاريخ القريب علمنا أن الدول عندما تنهار، تنهار معها الأوطان وحقوق شعبها. فالآن، الكل أيضاً مدعو للاتفاق على آليات مواجهة تلك الأزمات والحفاظ على سيادة الدولة واستقلالها وقدرتها على المواجهة واستكمال بناء مرافقها عبر اتفاق وطني شامل بين أبناء الوطن الواحد. وأثبتت التجربة حتى الآن أن الأطراف المتحاورة -حكومة ومعارضة وجماعات ضغط وقوى حية- تدرك أن الهدف الوحيد لهذا الحوار وجوهره هو توافق الجميع من أجل تحديث حياة المواطن المصري السياسية والاقتصادية والاجتماعية. والمواطن هنا هو كل من يحمل الجنسية المصرية بغض النظر عن دينه ولونه وعرقه بما يعزز مفهوم المواطنة باعتبارها مناط الحقوق والواجبات.
وقد كانت دعوة عدد من الحقوقيين والمؤسسات الحقوقية من قبل الأكاديمية الوطنية للتدريب للانخراط في الحوار الوطني هو اختيار صادف أهله، ويلقى بمسئولية كبيرة على مُمثلى الجماعة الحقوقية في رسم ملامح روح الاتفاقيات الدولية المعنية بحقوق الإنسان ودمجها في محاور الحوار الوطني، لأن قيم حقوق الإنسان بطبيعتها مُجردة، وبطبيعتها أيضًا تستهدف تحديث حياة المواطنين السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون تمييز؛ حيث تزدهر قيم حقوق الإنسان في مجتمع ديمقراطي يخضع فيه الجميع لسلطان القانون.
وتعكس دعوة الحقوقيين للمشاركة الفعالة في الحوار الوطني إيمان القائمين على الحوار بأن الحركة الحقوقية بمرجعها المحايد والمجرد الذي سوف يستهدف تحسين وضمان الحقوق والحريات في المجتمع، مما تؤهلها للذهاب إلى الحوار لتبادل الآراء وليس لفرض آرائها. وكذلك تستطيع الحركة الحقوقية أن تنهى كثيراً من الجدل العقيم حول مفاهيم العدالة الاجتماعية والتنمية الإنسانية، والحقوق والحريات، وغيرها من المفاهيم التي تختلف من فكر سياسي لآخر. فهذه المفاهيم الحقوقية والمستمدة من الاتفاقيات والمواثيق الدولية وفسرتها أدبيات الأمم المتحدة وفقه القانون الدولي، كفيلة بمنع هدر الوقت في مناقشات لا جدوى منها، لاسيما أن المبادئ الحقوقية قيم إنسانية عالمية، ومظلة أخلاقية تقوم دعائمها على التسامح وقبول الآخر ونبذ العنف والكراهية ؛ ومن متابعتي القريبة لجلسات الحوار التي بدأت يومي 5 و19 شهر يوليو الجاري، أظهرت أولى جلسات الحوار مؤشرات طيبة تنبئ بأننا أمام حوار رفيع المستوى يليق بمصر وشعبها ويضمن كذلك القبول لنتائج المؤتمر، منها -على سبيل المثال- ما طرحه الخبير الحقوقي نجاد البرعى وعضو مجلس أمناء الحوار الوطني بأن أول خطوة على طريق تحقيق الحوار لأهدافه هو عقد جلسات الحوار بعيداً عن الكاميرات. وفى ظني كذلك أن جوهر الوصول إلى طريق القبول المجتمعي هو النأي بالنقاشات بعيداً عن الجمهور ووسائل الإعلام. وعلى ضوء ما طُرح في الكلمات الافتتاحية من أطروحات تناسب الواقع، فإن ليس بها مغالاة في رفع سقف الطموحات، مما يعنى أن الجميع مدرك لمدى المسئولية التي يتحمل عبئها، كما عكست الأرقام والإحصاءات التي طرحها المستشار محمود فوزى فى أول جلسة للحوار الوطني أن المجتمع المدني ونشطاءه شركاء أساسيون في هذا الحوار، مما يعنى اكتمال أركان الشرعية في عملية الحوار الوطني، حيث الرضا والقبول قرين الشرعية.
وعقب جلستين إجرائيتين للانتهاء من اللائحة داخلية ، ثم الانتهاء من تشكيل اللجان، بدأت على الفور تتشكل ملامح المكون الحقوقي في جلسات الحوار الوطني، حيث تناولت الجلسة الثالثة تحديد قضايا المحور السياسي، وإنشاء 3 لجان فرعية، وهي: الحقوق السياسية، والتمثيل النيابي، والأحزاب السياسية؛ والمحليات وحقوق الإنسان، والحريات العامة. وفى تلك الجلسة، قرر المجلس التوافق على خمس قضايا رئيسية في المحور المجتمعي على أن تشكل لجنة فرعية لكل قضية من القضايا الخمس هى: التعليم والصحة والقضية السكانية وقضايا الأسرة والتماسك المجتمعي. جميعها قضايا تعد جوهر عمل المنظمات المدنية والحقوقية في مصر، ومنذ اللحظة الأولى لانطلاق فعاليات الحوار الوطني شاركت المؤسسات الحقوقية والتنموية في مصر بطرح رؤيتها وتصوراتها ومقترحاتها على أجندة الحوار الوطني. وتلخصت رؤية منظمات المجتمع المدني في طرح قضية الحبس الاحتياطي على بساط الحوار الوطني وصياغة توصيات من شأنها التوسع في إطلاق سراح ممن لا تتوافر بحقهم التورط في قضايا عنف وإرهاب. وكذلك أوصت بعض المنظمات بضرورة تنقية البنية التشريعية المنظمة للحق في حرية الرأي والتعبير، والحق في تداول المعلومات. من بعض النصوص التي تتعارض مع التزامات مصر الدولية وتصديقها على الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بحرية الرأي والتعبير؛ فيما طرحت منظمات أخرى قضية العدالة الاجتماعية. وقدمت تلك المنظمات رؤيتها حول عدد من الإجراءات الخاصة التي من شأنها حماية الفئات الأكثر ضعفاً ؛ وحتى كتابة هذا المقال لا يمكن أن ننكر أو نتجاهل أن المجال لا يزال مفتوحاً أمام منظمات المجتمع للمشاركة الفاعلة بجلسات الحوار ولجانه، ما يؤكد أن المجتمع منذ اللحظة الأولى لإطلاق الحوار شريك فاعل وأساسي فى عملية الحوار الوطني ؛ وهو دون انحياز حق أصيل للمجتمع المدني، حيث إن فلسفته تقوم على أنه وسيط أمين بين الفرد ومؤسسات الدولة، وهو قطاع عريض يخدم ملايين الفئات المستهدفة بتنوعها الديموجرافي والاجتماعي والسياسي. فكيف لعقد اجتماع جديد أن يتجاهل أحد أهم أركان الدولة المصرية؛ منظمات المجتمع المدني.
كان المجتمع المدني -ولا يزال- يلعب دوره الأساسي باعتباره شريكا للدولة في التنمية الشاملة، وباعتباره جزءاً لا يتجزأ من الدولة، فهو حاضر ويشارك ويقترح ويناقش ويقدم توصياته انطلاقا من مسئوليته التاريخية وإيماناً بأن المجتمع المدني هو قاطرة التنمية، وأن ثقة القائمين على الحوار في مشاركة المجتمع المدني في عملية الحوار الوطني هي ثقة في محلها يشعر بها المواطن عندما يقوم المجتمع المدني ومؤسساته بمتابعة تنفيذ توصيات الحوار على أرض الواقع ليضمن تحقيقها، ولتدخل مصر النظام العالمي الجديد الذي يتشكل بفكر جديد ومؤسسات أكثر استقراراً واستقلالا، بعيداً عما يحدث من صراعات وفوضى من حولنا.
رابط دائم: