بطولة وإنسانية " الجدع " المصري الجميل " محمد يحيى " ـــ نعم " الجدع " كما تعود الجيران أن ينادونه ــ جعلته لم يفكر لحظة عند مشاهدته النيران تخرج من شرفات الكنيسة .. صدمه مشهد النيران المتصاعدة دون هوادة وأدخنة تصعب معها الرؤية الأفقية وفي الخلفية صراخ وعويل محتجزين داخل الكنيسة " إلحقونا بنموت ".
ثوان معدودة احتاجها " محمد" لاتخاذ قراره، أخذ يبحث عن أقرب نافذة وتسلل إلى الداخل قفزًا ليبدأ مهمة بطولية بإجلاء المصابين، إذ حمل الشاب متوسط القامة قوي البنيان طفلًا مطمئنًا إياه "ماتخفش هتروح لبابا وماما مستنياك بره ".
كرر الشاب الأمر 4 مرات أخرى قبل أن تأتي المهمة الأكثر صعوبة، تحدٍ جديد لم يدخر فيه " محمد " الجهد لإنقاذ رجل مسن في الستينيات من العمر ووزنه يفوقه.
فكر الشاب في طريقة لإجلاء المسن قبل أن يموت اختناقا بالدخان، حمله على ظهره وصعد به السلم الذي يؤدي للخارج لكن درجات المصعد لم تتحمل الشاب والمسن فسقط بهما.
أصيب محمد يحيى بكسر في ساقه اليسرى، نُقل على أثرها إلى مستشفى إمبابة العام لتلقي العلاج اللازم، وحالته مستقرة بعد إيداعه غرفة العناية المتوسطة.
إنها إنسانية ووطنية مصري وملحمة أداء رجل أيقن بوحدة الإنسانية والدين والوطن .. وعلى الشاطئ الآخر دفع كاهن الكنيسة روحه عندما أصر بروح الإيثار والمسئولية كراع لشعبه أن يكون آخر الناجين فصعدت روحه الطاهرة إلى ملكوت السموات.
وفي أوراق تاريخنا ما يفيد مفهوم وحدة الدين والوطن .. فمعلوم أنه من منطلق أن الدين والوطنية شيئان متميزان لا يتنازعان إلا إذا أساء الإنسان فهمهما، أو إذا تعمد الإساءة إلى كليهما، فالناس فيما سبق لم يكونوا يميزون بين الروحيات والزمنيات بين الدين والوطن، فكان الدين والوطن عندهم شيئاً واحدًا، وساير هذا الاعتقاد وعبر عنه مَثَل لاتيني مشهور، معناه : أن الشرط الجوهري للتبعية الوطنية هو عبادة آلهة هذا الوطن.
و كان يرفض ذلك المثل المونسنيور باسيليوس موسى وكيل الأقباط الكاثوليك في مصر في بدايات القرن العشرين عبر رسالة صغيرة طبعت باسم " الدين والوطنية " وصدرت في القاهرة سنة 1920، فكان يرى أن حكاية " الشرط الجوهري للتبعية الوطنية هو عبادة آلهة الوطن " يقضي على حرية الضمير ويدفع الفاتحين إلى إجبار المغلوبين على اعتناق دينهم، ولم يشذ عن هذه القاعدة الرومان وإن قنـَّعوا سياستهم بالدهاء فهي قد أبقت لأهالي البلاد المفتوحة آلهتهم، ولكنها أوجبت عليهم أيضًا عبادة الآلهة الرومانية، وعندما جاءت المسيحية وأعلنت رفضها لكل الآلهة الوثنية اعتبر الرومان أنهم زنادقة وأعداء للوطن، بل وللجنس البشري، ففي هذه الحقبة كانت روما تدعي تمثيل العالم المتمدين، وبهذه التهمة برر الرومان اضطهادهم المعروف للمسيحيين.
فماذا كان رد المسيحيين؟ .. يذكر، الكاتب الراحل، جمال البنا أنهم قالوا: " أيتها الدولة الرومانية إننا حقيقة لا نعبد آلهتك ولا يمكننا أن نعبدها، لكن اعلمي أننا رغمًا عن ذلك نحن أخلص الناس لك ولاءً، لأن الدين غير الدولة، الدين هو من اختصاصات الضمير، أما الدولة فإنها نتيجة ظروف جغرافية طبيعية، وأما نتيجة الانتصارات فلا دخل لها فيما يمس الضمير .. ".
ويوجه النظر إلى أنه رغم زيادة عدد المسيحيين وانتشار المسيحية في مختلف مستويات الناس ومسالك الحياة، فلم يخطر ببال هذه الجموع التي لا عدد لها أن تثور يومًا من الأيام في وجه الدولة أو وجه ملوكها .. " أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله " .. ولم يسعوا لتدمير الوطن.
لقد اتسم الخطاب المصري خلال تلك المرحلة فى بدايات القرن العشرين بتقديم نموذج رائع للإحساس بقيم المواطنة، بل والوحدة خاصة في أيام انتفاضة 1919 التي أذابت كل الفروق بين المسلمين والأقباط، فخطب القسيس في المساجد، وخطب الشيخ في الكنائس، ولم يعد يفرق بين قسيس وشيخ، كما قال الشاعر :
الشـــــيخ والقسيس قسيســان أو قل هما فيما ترى شيخان
وعندما كون سعد زغلول الوفد أعرب الأقباط عن رغبتهم في المشاركة فيه، ففتح لهم سعد زغلول باب المشاركة بحيث كان عددهم يماثل عدد المسلمين، وقد يزيد عليه في بعض الفترات ..، ورشح الوفد ويصا واصف القبطي في دائرة ( المطرية ــ دقهلية ) و نجح، وصدرت جريدة " مصر " (27 أبريل 1919) وفي صدرها مانشيت كبير" ليس للأقباط مطالب ".
لقد ذكرني مشهد البطل " محمد يحيى " أمام كنيسة " أبي سيفين " التي تحترق بتاريخنا البديع وحالة الاندماج الوطني المصرية في أزمنة الشدائد، فمحمد يحيى يعي ويعرف ماذا تعنى كلمة "وطن " بفائض إنسانية.