أيام العيد أيام مباركة تهل علينا تصبغ أيامنا بألوان الفرحة والبهجة تتجسد فيها الروحانيات بأسمى معاني الحب والمودة والإخاء، تتواصل فيها صلة الأرحام بعد أيام وشهور في غياب وانشغال، أيام تنقضي سريعًا ويبقى لنا منها عبيرها الفواح كذكرى دائمة في القلوب، واجبات دينية واجتماعية وأسرية لا تنمحى، فهى الصورة الرائعة التى وهبها الله لنا، والتى تجسد المعنى الحقيقى لصلة الأرحام والمحبة الخالصة دون زيف أو مغالاة، ولكن يبقى المعنى الروحي للعيد، خاصة عيد الأضحى الذى يحل علينا خلال أيام معدودة هو أساس علاقاتنا الاجتماعية ومصدر للتجديد الدائم لعلاقتنا بخالق الكون.
تحل على الأمة الإسلامية والعربية فرحة عيد الأضحي المبارك التي تقترن بفريضة الحج ويزخر التراث الشعبي المصري بصور بديعة تحكي كيف يستقبل الأهل بمصر العيد بالفرحة والابتهاج ، وبالطبع أهم مظاهر عيد الأضحى هو ذبح الأضحية، لكن فى حقيقة الأمر بدأ أمر ذبح الأضحية فى العصر الفرعونى واستمر مع ظهور الأديان الإبراهيمية الثلاثة، ولكن هل يحتفل أصحاب الديانات الإبراهيمة الأخرى –اليهودية، المسيحية- بذكرى "الذبيح"، وهل يقومون بذبح الأضاحى فى مثل تلك المناسبة، وهل يعتبر مدلول هذه المناسبة الروحى واحد عند الجميع، وهل مظاهر الاحتفال بالعيد اختلف من عصر الفراعنة حتى الآن ؟!!
عيد الأضحى ظهر فى مصر القديمة بوضوح من خلال رسومات على جدران المعابد:
نجد للعيد خصوصية شديدة في ذاكرة مصر القديمة علي مستويات عدة وطبائع مختلفة، من أهمها المستوي الاجتماعي والديني والأدبي والثقافي،فكان الاحتفال بالعيد يتخذ مظاهر تبدأ بذبح الذبائح وتقديمها قرابين للإله وتوزيعها على الفقراء، والبعض منها يقدم إلى الكهنة لتوزيعها أيضا، وكانوا يذهبون إلى الحدائق والمتنزهات والحقول ويستمتعون بجمال الطبيعة.
كان الحج أيضًا معروفًا لدى قدماء المصريين، فكانت لهم بعض المناسك المشابهة لما يقوم به الحجاج المسلمون حاليًا، كانت طقوسه تتم في منطقة "العرابة" في محافظة سوهاج، نظرًا لوجود معبد "خنتى أمنيتى"، والذي يقع على الطريق المؤدى لمقابر الملوك وقبر "أوزوريس". كان موعد رحلة الحج يوم ٨ من الشهر الأول من فصل الفيضان، حيث كانت تجرى احتفالات الملك "أوزير" ومدون الكثير من هذه المظاهر على جدران المقابر، سواء الأفراد أو النبلاء، حيث اعتبرت مراسم رحلة الحج شيئًا روحيًا حرص المصري القديم على تسجيله على جدران مقبرته.
أما بعد ظهور الديانات الإبراهيمية الثلاث كان لكل منها طقوس ومعتقدات مختلفة:
بحسب الطقوس فى اليهودية:
بحسب الاعتقاد بالنص التوراتى – العهد القديم- يحل عيد رأس السنة العبرية "روش هشانا"- كما يطلقون عليه - بعد انتهاء شهر أيلول العبرى، وهو ذكرى ما يعتقدونه بأضحية إسحاق فى رأس السنة العبرية، كما أنه يمثل اليوم الذى بشرالملائكة فيه سارة بولادة إسحاقعندما قال له فى سفر التكوين
خُذِ ابْنَكَ وَحِيدَكَ، الَّذِى تُحِبُّهُ، إِسْحَاقَ، وَاذْهَبْ إِلَى أَرْضِ الْمُرِيَّا، وَأَصْعِدْهُ هُنَاكَ مُحْرَقَةً عَلَى أَحَدِ الْجِبَالِ "
ومن شعائر اليهود فى تقديم القرابين "الأضاحى" عند هيكل سليمان- يزعم اليهود أنه تحت المسجد الأقصى -، كما في "التلمود" -كتاب تعاليم الدين اليهودى- والذى قدم وصفا دقيقا للهيكل.
ومن تقاليد عيد "روش هشانا"، تناول شرائح التفاح المغموس بالعسل، رمزا لأمل أن تكون السنة الجديدة سعيدة. أما التقليد الثانى فهو التوجه إلى مصدر مياه مثل البحر أو أحد الأنهار أو الينابيع، حيث تتم تلاوة بعض الآيات وإلقاء قطع من الخبز فى الماء، رمزا لـ"إلقاء" جميع ما ارتكبه الإنسان، من خطايا خلال العام المنصرم، وتعرف فترة العشرة أيام التى تمتد بين الأول والعاشر من شهر تشرين العبرى والتى تتضمن عيدى روش هشاناه (رأس السنة) و"يوم كيبور" (عيد الغفران) بـ"أيام التوبة العشرة"، وتقول التقاليد اليهودية إنها فترة صدور الحكم الإلهى، حيث يحاسب جميع البشر والأمم على أفعالهم خلال السنة المنتهية للتو، ويتم البت فى مصائرهم للعام الجديد .
فى العقيدة المسيحية :
طبقاً للكتاب المقدس، الذي هو كلمة الله، وعد الله إبراهيم بابن يكون مميزاً جداً، فالله سيبارك كل شعوب العالم من خلال ابن إبراهيم. وأعطاه الله ابناً ومن ثم أمره أن يذبحه لكن تم إنقاذ ابن سيدنا إبراهيم، لأن الله وفر حملًا ليكون مكان الصبى؛ ونعرف جميعاً أن دم حياة الحيوان أقل من دم حياة إنسان، إذاً، كيف يمكن لمجرد حيوان أن يحل مكان إنسان؟ يعلم الكتاب المقدس “فَمِنَ الْمُسْتَحِيلِ أَنْ يُزِيلَ دَمُ الثِّيرَانِ وَالتُّيُوسِ خَطايَا النَّاسِ” (عبرانيين 10: 4).
في تقديم ذبيحة الخروف هنالك تذكير بأننا خُطاة وبحاجة لأضحية أعظم بكثير من مجرد حيوان، لو كان لدم حيوان قدرة على معالجة مشكلة خطيتنا فلن نكون بحاجة لتقديم أضحية سنة بعد أخرى. لكن بما أنها لا تزال قائمة، فهي تذكير لنا بأن أضحية العام الماضي لم تنجح، ولم تعالج مشكلة خطيتنا، وإلا لما عدنا بحاجة لتقديم الذبيحة هذا العام ثانية؛ لكن يسوع المسيح وضع نفسه وضحى بحياته ليكون الذبيحة العُظمى، في مرة واحدة، البريء بدلا المذنب. سفك المسيح دمه، يعلم الكتاب المقدس “إِذْ إِنَّهُ، بِتَقْدِمَةٍ (ذبيحة) وَحِيدَةٍ جَعَلَ (المسيح) أُولَئِكَ الَّذِينَ قَدَّسَهُمْ كَامِلِينَ إِلَى الأَبَدِ.” (عبرانيين 10: 14).
فنحن نستحق العقاب بسبب خطايانا لكن المسيح أخذ مكاننا وأخذ عقابنا لكي نتمتع بعلاقة مصالحة مع الله. مرة أخرى، يعلم الكتاب المقدس “فَإِنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ عَاجِزُونَ، مَاتَ الْمَسِيحُ عَنِ الْعُصَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ. إِذْ قَلَّمَا يَمُوتُ أَحَدٌ فِدَى إِنْسَانٍ بَارٍّ، بَلْ قَدْ يَتَجَرَّأُ أَحَدٌ أَنْ يَمُوتَ فِدَى إِنْسَانٍ صَالِحٍ. وَلَكِنَّ اللهَ أَثْبَتَ لَنَا مَحَبَّتَهُ، إِذْ وَنَحْنُ مَازِلْنَا خَاطِئِينَ مَاتَ الْمَسِيحُ عِوَضاً عَنَّا” (رومية 5: 6-8)
ومن المعتقدات المسيحية أيضا اعتراف البشر بخطاياهم وعدم استحقاقهم لنوال نعمته الله وإحسانه، أفضل من الذبيحة ولحم الكباش، وذلك بحسب قول النبى داود فى المزمور الخمسين :" يارب افتح شفتي، فيخبر فمى بتسبيحك، لأنك لا تسر بذبيحة وإلا فكنت أقدمها، بمحرقة لا ترضى، ذبائح الله هى روح منكسرة. القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره (مزمور 51 : 15-17) ، لذلك نجد أن المسيحى لا يؤمن بالأضحية إلا فى حالات "النذور"، وهو ما يمثل خلاص من ضيقة أو من عدو أو من أزمة مالية، أو صحية، وذلك كون "المسيح" افتدى خطايا جميع البشر.وهو ما يصفه "بولس الرسول" فى رسالته إلى أفسس " اَللهُ الَّذِى هُوَ غَنِى فِى الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِى أَحَبَّنَا بِهَا، وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُون وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِى السَّمَاوِيَّاتِ فِى الْمَسِيحِ يَسُوعَ (أفسس2: 4-6) .
أما بعد ظهور الإسلام وانتشاره فى بقاع الأرض :
تبدو عقيدة المسلمين مختلفة كليا أو إلى حد كبير مع المسيحية فيما تختلف شكليا مع نظيرتها اليهودية؛ فالمسلمون، يحتفلون بعيد الأضحى، وهو أحد أهم العيدين (الآخر عيد الفطر)، ويوافق يوم 10 ذو الحجة بعد انتهاء وقفة يوم عرفة، الموقف الذى يقف فيه الحجاج المسلمين لتأدية أهم مناسك الركن الأعظم فى الإسلام وهو الحج، ويعتبر هذا العيد بحسب المعتقد الإسلامى ذكرى واقعة إبراهيم عليه السلام عندما أراد التضحية بابنه إسماعيل تلبية لأمر الله، ويأتى ذلك استنادًا للنص القرآني، قوله تعالى:(وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (الصافات: ١٠٧).
ومن مظاهر احتفالات المسلمين فى هذا اليوم التضحية بأحد الأنعام (خروف، أو بقرة، أو إبل) وتوزيع لحم الأضحية على الأقارب والفقراء ،-وهو ما يتشابه مع الطقس اليهودى- وذلك بعد الانتهاء من صلاة العيد، والتى تكون بعد فجر اليوم الأول -10 ذو الحجة- تطبيقا للآية القرآنية(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر:٢).
لعل ما أجده مشتركًا بين جميع الأديان أن من عظمة ومحبة الله للإنسان أن يضع لنا ميثاق للإنسانية يتجلى فيه فعل العطاء والبذل والتضحية؛ فالعطاء بسخاء يثمنه الله، وهو يتمم فكره ومشيئته فى البشرية. ونحن نحتفل جميعًا ونتشارك مظاهر العطاء والبهجةبالأضحية، حيث تقوم الجدات بوضع الحناء على جبين الأضحية وتربط لها شرائط زهرية اللون كنوع من الترحاب، وتعتبر تلك العادة من الأكثر سعادة عند الأطفال، لأنهم يعتبرونها شيء مميز خاصة من جانب سكان العمارات، لأنهم يخصصون مكان أسفل البناية، ليتم فيه ربط جميع أضحية الجيران.
فهل تختلف طقوس الاحتفال بالعيد من دولة إلى أخرى، ترى ما العادات والموروثات الشعبية فى الاحتفال بعيد الأضحى ؟
فى مصر :
تتميز مصر ببعض العادات والموروثات التي تتعلق بعيد الأضحى المبارك وذبح الأضحية، والتى قد تختلف عن غيرها من بلدان العالم، حتى إنها قد تختلف من محافظة إلى أخرى داخل الجمهورية ففي محافظة سوهاج مثلا يقوم الناس بوضع الزينة على رأس الخروف قبل ذبحه، ووضع الحناء على جبهته، وتلوين بعض أجزاء جسمه، كذلك يقومون بالسير به في الشوارع القريبة من المنزل ويغنون ويحتفلون.
كما يقوم بعض الناس بوضع أيديهم في دماء الأضحية بعد ذبحها، والختم بها على الحوائط والأبواب للذكرى.
فى السعودية :
يتخذ الاحتفال فيها بُعدًا دينيًا خاصا، لأنه يرتبط بأداء فريضة الحج ويكون الاحتفال بهذا اليوم المميز بذبح الأضاحي وربط صلة الرحم والتجمع في منزل العائلة، وبطبيعة الحال إعداد الوجبات المعروفة، وأشهرها الكبسة والهربس، والمرقوق، والمراصيع، والمقلقل، وهو عبارة عن لحم به شحوم ومملح بنسبة كبيرة يطهى بالزيت حتى يصبح لونه بني ويقدم مع أرز أبيض وسلطة البصل.
يتم تخصيص يومين من أيام العيد للعيدية، بحيث يكون هناك يوم للبنين، وآخر للبنات، يعرفان بأيام الطلبة؛ حيث يقوم فيها الأطفال بطرق الأبواب وطلب العيدية، فمنهم من يقدم الحلوى أو حب القريض، أو حب القمح المحموس. -هناك عادة عند السعوديين، وهي قضاء العيد في الأرياف، حيث الهدوء والبساطة، ويقوموا بتناول والطعام عند شيخ القرية، كما تنتشر الملاعب وأماكن التنزه في المدينة بالسعوديين، فيكون هناك الملاعب، والمسابح الخاصة للرجال والنساء كل منهم على حدة.
فى الأردن :
قد يختلف الأمر قليلًا، حيثتخرج العائلات للتنزه في الأماكن العامة، ويقوم الرجال بتحضير كل ما يتعلق بالشواء من إشعال للنار وترتيب اللحوم، ويبدءون في شوي اللحوم بأنفسهم، أما في البيوت فتقوم النساء بطهي (المنسف)، وهو طبق بدوي شهير من الأرز واللحم واللبنة، كما تفضل أغلب العائلات الأردنية الذَّهاب إلى القبة لقضاء العيد هناك مستمتعين بالمناظر الخلابة لميناء العقبة الأُرْدُنّيّ.
أماليبيا :
فتفضل تكحيل عين الخروف قبل العيد ويطلقون عليها اسم أحدهم معتقدين أن هذا الخروف سوف يمتطيه صاحب الاسم وتأخذه إلى الجنة يوم القيامة.
الجزائر:
وهى الدولة الغنية بالموروثات الثقافية، يقوم الجزائريون في بعض المناطق بوضع الحناء على جبهة الأضحية يوم الوقفة أو ببداية شهر ذي الحِجَّة تحضيرًا للعيد وتزيينًا للأضحية، وتربط لها شريطة زهرية لتزيينها. ومن العادات الغريبة في الجزائر تنظيم الجزائريون مصارعة بين الأضاحي قبل العيد، ويكون هناك كبش فائز فيها.
أما بالنسبة للهند :
فيشكل مسلمي الهند نسبة 14.2 % من الهنود، فقبل أيام من العيد يمكنك القيام بزيارة سوق الماعز عند المسجد الجامع، حيث يقدم الناس على شراء الأضحية، ثم يقومون بذبح الأضحية وسط جمع من الأهل والأقارب، ويقوم المسلمون بتقسيم الأضحية إلى ثلاثة أجزاء، جزء للأسرة وآخر للأقارب والجيران والأصدقاء، والثالث للفقراء والمحتاجين. أما أغرب ما يعانيه المسلمون في الهند هو عدم منح العديد من المؤسسات والشركات إجازة لعمالها المسلمين باعتبار العيد ليس من العطل الرسمية في البلد .
مع اقتراب موعد عيد الأضحى، يتبقى لنا التذكيرالمواطنين عن عقوبة ذبح الأضاحي في الشارع، حيث حذرت وزارة التنمية المحلية من إقامة شوادر والذبح بالشوارع والميادين وأمام المنازل للحفاظ على البيئة، مع التأكيد على الالتزام بالأماكن المخصصة لذبح الأضاحي، وأن المجازر مفتوحة بالمجان طوال أيام العيد.إذ توعدت بتحرير محاضر بيئة لمن يذبح الأضاحي بالشارع ويترك المخلفات والدماء، وتصل قيمة غرامة الذبح إلى 10 آلاف جنيه بحسب المخالفة، وهو ما أكدته دار «الإفتاء» وقالت: "ذبح الأضحية في الشوارع جائز، أما ترك الدماء في الشوارع دون تنظيفه فهذا غير جائز لما يترتب عليه من أذى الطريق وإيذاء المارة، وهذا غير جائز شرعًا".
ختاما، دعونا نتذكر الأعمال الذهبية التي ترفع أجر المؤمن عند الله في هذه الأيام المباركة، فيجب أن يحث بعضنا بعضا على الإكثار من الأعمال الصالحة، مثل الصيام، لما له من فضل عظيم وثواب كبير. ويستحب الإكثار من الصلاة لنيل العفو والغفران، وعمل المزيد من الأعمال الطيبة والصالحة، وإخراج الصدقات تقربًا إلي الله عز وجل، وأن نتذكر خصوصية هويتنا المصرية التى اجتمعت على أرضها كل الديانات السماوية وتعانقت، وكل عام وأنتم بخير.
رابط دائم: