اختتم الرئيس "عبد الفتاح السيسي" جولته الخليجية يوم 29 يونيو 2022، والتي شملت زيارته لسلطنة عمان ومملكة البحرين وشهدت توافقا مصريا خليجيا فى كل القضايا الثنائية والإقليمية الآنية، وتأتي تلك الجولة في ظل زخم سياسي ودبلوماسي مصري – خليجي – عربي شهدته الأسابيع القليلة الماضية لتنسيق الجهود البينية المشتركة لمواجهة التحديات الأمنية والسياسية التقليدية والمستجدة بعد الحرب الأوكرانية، ومنها الأمن الغذائي وأمن الطاقة، كما تأتي هذه الجولة في إطار المشاورات المستمرة تمهيدا لعقد القمة العربية – الأمريكية المرتقبة خلال زيارة الرئيس الأمريكي "جون بايدن" للسعودية منتصف يوليو المقبل.
لم تتوقف الجهود المصرية علي ذلك، بل إن الرئيس "السيسي" بعث بنهاية يونيو الماضي رسالة خطية لأمير الكويت الشيخ "نواف الأحمد الصباح"، بالتزامن مع ذلك عقدت اللجنة العليا المصرية الجزائرية اجتماعاتها بحضور رئيس وزراء الدولتين، مؤكدا على ضرورة تعزيز التعاون العربي المشترك.
إستجابة عربية للمتغيرات الجيوسياسية:
يمثل الحراك السياسي المصري الخليجي الحالي استجابة عربية للمتغيرات الجيوسياسية التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط والعالم بعد تداعيات الحرب الأوكرانية المستمرة منذ 4 أشهر ونيف، حيث تسعى القاهرة إلى بلورة رؤية عربية متقاربة لمواجهة التحديات المستجدة المتعلقة بالأمن الغذائي وأمن الطاقة، فضلا عن التحديات التقليدية (البرنامج النووي الإيراني، انتشار التنظيمات الإرهابية بالمنطقة "كداعش" بسوريا والعراق و"القاعدة" في ليبيا، تصاعد دور القوى الإقليمية على حساب نظيرتها العربية) في ظل الهشاشة الأمنية والسياسية التي تمر بها عدد من الدول العربية (سوريا، والعراق، واليمن، والسودان، ولبنان، وتونس، وليبيا) بعد أن عرف بثورات "الربيع العربي"، فضلا عن تهديد سلاسل الإمداد العالمية، مما يؤثر على مختلف القطاعات الصناعية بالدول العربية، في ظل سعي القاهرة والرياض وأبوظبي للحفاظ على حيادية مواقفهم من الحرب الأوكرانية، وفي ظل تصاعد حدة الاستقطاب بين معسكرين الشرقي (موسكو وبكين) والغربي (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي). بناء عليه، فإن هناك عددا من النتائج الأولية لذلك الحراك السياسي، تتمثل في:
- إرهاصات نظام إقليمي جديد: أن منطقة الشرق الأوسط تمر حاليا بحركة تفاعلات سياسية ستسفر عن نظام إقليمي سياسي اقتصادي جديد، تشمل هذه التفاعلات عودة الدور الأمريكي بالمنطقة من خلال الانخراط لحل الأزمة السودانية والليبية وجولة "بايدن" المرتقبة بالمنطقة بعد فترة من الإحجام الأمريكي عن التدخل فى شئون الشرق الأوسط، بدء مفاوضات مباشرة بين السعودية والقوى الإقليمية المنازعة لها، والتقارب التركي الخليجي، وتعزيز التعاون الاستراتيجي المصري الخليجي، وتعزيز الدور الروسي والصيني بالمنطقة، هذا في ظل إرهاصات مماثلة لنظام دولي جديد يتجه ليكون متعدد الأقطاب بعد عقدين من القطبية الأمريكية الأحادية، الأمر الذي يتطلب أعلى مراحل التنسيق المستمر بين الدول العربية الرئيسية للحفاظ على مصالح العربية في ظل هذا الحراك الإقليمي.
- انفتاح عربي–عربي:شهدت التفاعلات العربية الأخيرة، انفتاح عربي – عربي لم يحدث منذ عقدين، وبلورة توافق عربي حول المصالح المشتركة مع الاعتراف بوجود خلافات بين المصلحة الوطنية لكل دولة،حيث تم تمثيل العراق في معظم القمم واللقاءات العربية فضلا عن إنشاء تحالف "المشرق الجديد" بين العراق ومصر والأردن والزيارات المتبادلة بين مسئولي بغداد والدول الخليجية، كما قام الرئيس السوري بزيارة لدولة الإمارات العربية المتحدة وشاركت دمشق في توقيع عدد من الاتفاقيات الاقتصادية معها ومع لبنان مصر، وقبلت الدول الخليجية إعادة العلاقات مع لبنان بعد فترة من التوتر المستمر بين الرياض وبيروت، الأمر الذي سيؤدي لتقليص النفوذ الإقليمي عامة فى تلك الدول، لاسيما بعد بدء جولة من الحوار والمفاوضات بينها وبين الرياض بوساطة عراقية ناجحة، ربما تسفر حال نجحت في وقف الدعم للميليشيات المسلحة في العراق واليمن ولبنان، مما يمهد لتسويات سياسية دائمة تساهم في استقرار سياسي ودعم اقتصادي خليجي عربي لتلك الدول.
- رسالة ضمنية للقوى الإقليمية: يعد التأكيد المصري المستمر على الارتباط الاستراتيجي بين الأمن القومي الخليجي والمصري، وأهمية ضمان الملاحة في الممرات المائية العربية كالخليج العربي والبحر الأحمر ومضيق باب المندب وقناة السويس، والدعم الدائم لسيادة الدول العربية كالعراق واليمن ولبنان، رسالة ضمنية للقوى الإقليمية التي تسعى لتطبيع العلاقات مع مصر وتدعو كثيرا حيث أن القاهرة ترهن ذلك بتحقيق مطالبها الممثلة في وقف التدخلات في شؤون الدول العربية سياسيا وعسكريا.
-دعم الأمن المائي العربي:خلال جميع القمم العربية السابقة تم التأكيد على ضرورة دعم الأمن المائي العربي ووقف الاعتداءات عليه من قبل الأطراف الإقليمية، وقد أكد ذلك أيضا اجتماع وزراء الزراعة العرب الـ36 برئاسة وزير الزراعة المصري "السيد القصير"، والذي عقد يومي 22 - 23 يونيو الماضي، وجدد الاجتماع دعم مصر والسودان لمواجهة أزمة "سد النهضة" الإثيوبي على نهر النيل قبل بدء الملء الثالث له، كما أكدوا دعم العراق وسوريا لمواجهة اعتداءات مماثلة من قبل إيران وتركيا، حيث رفضوا أي مشروعات لسدود عملاقة تكون حائلاً أمام التوزيع العادل لمياه الأنهار الدولية العابرة للحدود، كما اتفقوا على حشد كل الإمكانات العربية لرفع كفاءة استخدام المياه.
- تبني حل دائم شامل للقضية الفلسطينية: رغم كثرة وأهمية القضايا العربية الراهنة تبقي القضية الفلسطينية حجر الزاوية لأي موقف عربي موحد، فثمة توافق عربي على ضرورة استقرار الأوضاع في الأراضي الفلسطينية، ووقف النشاط الاستيطاني، والتوصل إلى حل الدولتين وأفق إقامة سلام شامل وعادل في المنطقة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، كما أكدت مصر على دعم سيادة الأردن على القدس وضرورة وقف "تهويد القدس" وأي إجراءات وممارسات تستهدف الهوية العربية الإسلامية والمسيحية للمدينة أو تغيير الوضع التاريخي والقانوني القائم.
- رؤى جديدة للتعاون: بدأت الدول العربية مرحلة جديدة من التنسيق والتعاون الثنائي والثلاثي ومتعدد الأطراف بينهم قائم على المصالح المشتركة ويراعي أبعاد الأمن القومي لكل دولة، لاسيما بعد الأزمة الأوكرانية التي أثبتت هشاشة الاقتصاد الأوروبي والأمريكي الذي تراجع بفعل تداعياتها، مما يستوجب وجود تعاون عربي – عربي لا يتأثر بالمتغيرات الدولية، وقد برزت بعض نماذجه حيث:
· وقّعت لبنان وسوريا ومصر في 21 يونيو 2022 اتفاقية ثلاثية لنقل 650 مليون م3 من الغاز سنوياً من مصر إلى لبنان عبر سوريا، مما سيضخ نحو 450 ميجاوات من الكهرباء للبنان ويوفر أربع ساعات إضافية من الكهرباء يومياً.
· أطلقت كل منمصر والإمارات والأردن في 29 مايو 2022 مبادرة "الشراكة الصناعية التكاملية لتنمية اقتصادية مستدامة".
· وقعت مصر والأردن والعراق في إطار تحالف "المشرق الجديد" عشرات اتفاقيات التعاون الثلاثي بشتى المجالات.
إشكاليات القمة العربية-الأمريكية المرتقبة:
أعلنت الرياض في منتصف يونيو الماضي عن قيام الرئيس الأمريكي "جون بايدن" بزيارة للمملكة بدعوة من الملك السعودي الملك "سلمان بن عبد العزيز"في (15-16) يوليو القادم، تعزيزاً الشراكة الاستراتيجية المتميزة بين الدولتين، كما سيشارك "بايدن" في قمة أمريكية – عربية سيحضرها قادة دول مجلس التعاون الخليجي والرئيس المصري وملك الأردن ورئيس وزراء العراق، حيث تبلور الآتي:
- تراجع أمريكي: هذا الإعلان يمثل اعتراف ضمني من الإدارة الأمريكية بخطأ سياستها الخارجية تجاه الدول العربية خلال عام ونصف عام مضى، ويمهد لصوغ مرحلة جديدة من العلاقات الأمريكية الخليجية والعربية قائمة على المصالح المشتركة وعدم التدخل في الشأن الداخلي واحترام الخيارات السياسية لكل دولة، والقبول بالاختلاف بين الطرفين. فالدول العربية لن تقدم تنازلات أو تسهيلات جديدة لواشنطن دون مقابل، وهناك قضايا إقليمية ملحة تمس الأمن القومي الخليجي والعربي يجب على واشنطن اتخاذ موقف محدد نهائي منها أبرزها البرنامج النووي، الإيراني الإقليمي، والجمود بالقضية الفلسطينية، ووقف التوسع والاعتداءات من بعض القوى الإقليمية على سيادة الدول العربية.
- نتائج مرتقبة: من المتوقع أن تبحث القمة العربية الأمريكية الأمن الغذائي والإمدادات الخليجية من الطاقة، لاسيما السعودية التي مازال لديها فائض يومي في إنتاج النفط لتخفيف حدة نقص المحروقات بالغرب التي ستتفاقم حال استمرت الحرب الأوكرانية للشتاء القادم، كما ستبحث القمة في إعادة صوغ العلاقات العربية الأمريكية على مبدأ احترام المصالح الوطنية لكل طرف وقبول الخلاف بينها، لمواجهة التحديات الراهنة وترسيخ أجندة جديدة للتعاون العربي-الأمريكي عبر تفاهمات تدعم السلام والاستقرار والتنمية بالمنطقة.
مما سبق، نجد أن القيادة السياسية المصرية تسعى لبلورة موقف عربي موحد يواجه القوى الإقليمية والدولية ويعبر عن المصالح العربية في ظل متغيرات جيوسياسية تعيد تشكيل ملامح النظامين الإقليمي والدولي.