وفيما يتعلق بالتنافس الأمريكي الصيني في منطقة جنوب المحيط الهادى، تجدر الإشارة إلى أن سياسة الصين إزاء المنطقة يمكن الوقوف على أبرز ملامحها من خلال تصريحات وزير الخارجية الصيني "وانغ يي" إبّان زيارته لجزر سليمان آواخر شهر مايو 2022، إذ أكد أن الصين تتبع في إطار سعيها لتطوير علاقاتها مع دول جزر المحيط الهادى سياسة ترتكز بالأساس على أربعة مبادئ، هي: المعاملة المتساوية والاحترام المتبادل والمنفعة المتبادلة، فضلا عن الانفتاح والشمول.هذا إلى جانب التأكيد على رؤية الصين للمنطقة والتي تتمحور حول اعتبارها بمثابة ساحة لتعزيز التعاون وليس التنافس الهدام، وأن تعاونها مع أي دولة هناك لا يستهدف أي دولة أخرى، ومن ثم لا يتعين على أحد عرقلته أو تعطيله، ومن جانبها تحترم بكين علاقات دول المنطقة مع الدول الأخرى[2].

ونستعرض أبرز ما جاء في الاتفاق الأمني بين بكين وهونيارا المُعلن عن توقيعه في أبريل 2022، والذي اعتُبر تحديًا من جانب بكين للهيمنة الأمريكية في المنطقة التي شهدت سيطرة واشنطن لعقود طويلة.

أولا-الاتفاق الأمني بين الصين وجزر سليمان:

أثار الاتفاق الأمني المُبرم بين بكين وهونيارا جدلًا واسعًا -على الرغم من عدم نشره رسميًا- إذ وفقًا للنسخة المُسربة في أواخر مارس 2022 سيكون بمقدور الصين إرسال قوات عسكرية إلى جزر سليمان لفرض النظام والحفاظ على الاستقرار والنظام الاجتماعي وحماية أرواح الأفراد وممتلكاتهم، فضلا عن توفير المساعدات الإنسانية، خاصة بعد الاضطرابات والاحتجاجات التي شهدتها جزر سليمان في نوفمبر 2021. كما تنص مسودة الاتفاق أيضًا على إمكانية استخدام الصين لقواتها -بموافقة هونيارا- لحماية الأفراد والمشروعات الصينية هناك، هذا إلى جانب السماح للسفن الصينية بالتوقف في جزر سليمان لإجراء التجديد اللوجستي اللازم[3]. في سياق متصل، ثمة مخاوف من جانب الولايات المتحدة وحلفائها من أن يتضمن الاتفاق إنشاء قاعدة عسكرية صينية في الدولة الجزرية، مما قد يتسبب في تهديد لأمنهم ومصالحهم.

هذا، وقد أكد "ماناسيه سوجافاري" رئيس وزراء جزر سليمان أن الاتفاق الموقع مع بكين لا يستهدف بناء قاعدة عسكرية صينية في جزر سليمان، بل جاء بالأساس لدعم مصالح بلاده من خلال تعزيز القدرة على مواجهة التهديدات والتحديات الداخلية، بعد أن أثبت التعاون الأمني بين جزر سليمان واستراليا أنه غير كاف ولا يمكن التعويل عليه، وهو ما اتضح إبّان الاحتجاجات التي شهدتها جزر سليمان نهاية عام 2021[4]. وتجدر الإشار إلى أن جزر سليمان بها قوات للشرطة ولكنها لا تمتلك قوات مسلحة[5].

على الجانب الآخر، أشار وزير الخارجية الصيني إلى أن التعاون الأمني الثنائي مع جزر سليمان يستهدف بالمقام الأول تعزيز قدرات قوات الشرطة في هونيارا بما يحقق الاستقرار ويحفظ الأمن والنظام ويُسهم في حماية سلامة المواطنين والمؤسسات الصينية هناك، فضلا عن دعم جهود الدولة الجزرية لمواجهة الكوارث الطبيعية. وأضاف أن الاتفاق بين دولتين ذات سيادة، وبالتالي فهو أمر منطقي وقانوني ما دامت الأمور تتم بشفافية وفي العلن. في سياق متصل، أكد "وانغ يي" أيضًا على احترام الصين لسيادة جزر سليمان، وأن الاتفاق جاء لتلبية احتياجات ومتطلبات الأخيرة، فالصين لا تُجبر أحد على إبرام الصفقات، كما أنها لا تتدخل في الشئون الداخلية لأي دولة، ولا تسعى للإضرار بمصالح أحد. وأضاف بأن الصين لا تنتوي إنشاء قاعدة عسكرية في جزر سليمان[6].

ويُمكن تفسير إقدام الصين على توقيع الاتفاق الأمني الأخير في مجموعة نقاط أساسية، أولاها: حرص بكين على حماية مواطنيها واستثماراتها بعدما استُهدِفوا وتعرضوا للخطر عقب الاحتجاجات التي شهدتها جزر سليمان في نوفمبر من العام الماضي، والتي اندلعت لأسباب عدة منها، نقص الوقود وأزمة الغذاء الحادة، فضلا عن غضب واحتجاج "ماليتا" -أكبر مقاطعات جزر سليمان من حيث عدد السكان- من الحكومة الوطنية من جرّاء اعترافها بالصين في سبتمبر 2019 بعدما كانت تعترف بـتايوان على مدار 36 عامًا، حيث كانت تايوان من أكبر الداعمين لماليتا اقتصاديا، وبالتالي أدى الاعتراف بالصين إلى توقف مساعداتها الاقتصادية لها، ما أدى إلى تفاقم المشكلات الاقتصادية في ماليتا[7]. وثانيتها: اعتقاد بكين أن تعاونها العسكري مع هونيارا هو بمثابة فرصة لتمدد ووصول جيش التحرير الشعبي الصيني إلى مناطق استراتيجية مهمة الأمر الذي يُسهم في خدمة مصالحها وتلبية طموحاتها. وثالثتها وأخيرا: رغبة القيادة الصينية في عزل وتحجيم تايوان من خلال إغراء حلفاءها اقتصاديًا ودفعهم لقطع العلاقات معها[8].

في السياق ذاته، هناك تحليلات ترى أن خطوة توقيع الاتفاق الأمني من الممكن أن يكون لها تداعيات سلبية على صورة الصين ومكانتها الدولية، وذلك في حالة التدخل لدعم النظام الحاكم في جزر سليمان للاستمرار في السلطة إذا واجه احتجاجات أخرى على غرار ما حدث فى نهاية العام الماضي، خاصة أن بكين تحاول باستمرار أن تؤكد أنها تتبع نمط مختلف في سياستها الخارجية يقوم على احترام سيادة واستقلال الدول ورفض التدخل في شئونها الداخلية[9].

من جانبها، تنتقد الصين تحركات واشنطن في منطقة المحيطين الهندي والهادى، وتتهمها بانتهاج نفس سياسات الحرب الباردة من خلال عقد تحالفات مثل "كواد" مع استراليا والهند واليابان، و"أوكوس"، وهو شراكة أمنية مع استراليا وبريطانيا، وتتضمن توفير غواصات نووية وصواريخ بعيدة المدى لاستراليا القريبة جغرافيا من الصين، وهو ما انتقدته الأخيرة واعتبرته تهديدًا للسلام في المنطقة[10].

ثانيا- ردود الأفعال الدولية حول الاتفاق الأمني:

أعربت بعض القوى الدولية عن قلقها ومخاوفها إزاء الاتفاق الأمني المُبرم بين بكين وهونيارا، إذ اعتبرته وسيلة لتوسيع نفوذ الصين وتمددها عسكريًا في مناطق استراتيجية من العالم. وفيما يلي موقف كل من الولايات المتحدة الأمريكية واستراليا واليابان إزاء الاتفاق:

1. الولايات المتحدة الأمريكية:

جاء رد واشنطن على الاتفاق الأمني صريحًا، إذ أكد الوفد الأمريكي الذي زار جزر سليمان في 22 أبريل 2022 -وكان على رأسه " كورت كامبل" منسق البيت الأبيض لمنطقة المحيطين الهندي والهادى - أنه إذا نجم عن الاتفاق الموقع وجود عسكري دائم للصين في المنطقة، فإن الولايات المتحدة سترد وفقا لذلك للحيلولة دون وقوع أية تهديدات لمصالحها أو مصالح شركائها الإقليميين. في سياق مختلف، اتفق الطرفان على إطلاق حوار استراتيجي رفيع المستوى بهدف تعزيز التواصل وتفهم القلق المتبادل، فضلا عن إحداث تقدم فعلي في العلاقات بينهما[11]. جدير بالذكر أن الولايات المتحدة كانت قد أعلنت في وقت سابق من العام الجاري بأنها سوف تُعيد فتح سفارتها في جزر سليمانبهدف تعميق التعاون الثنائي، وذلك بعد أن كانت مُغلقة منذ عام 1993[12].

2. استراليا:

مع توقيع الاتفاق بين بكين وهونيارا واجهت الحكومة الاسترالية انتقادات داخلية حول إهمالها تلك المنطقة التي تقع فيها جزر سليمان على الرغم من قربها الشديد من استراليا، خاصة أنه كان هناك تحذيرات -منذ أغسطس 2021- بشأن تنامي العلاقات بين الصين وجزر سليمان بشكل متزايد وفرص توقيعهما اتفاقا أمنيا[13].

وتنبع مخاوف كانبرا بالأساس من إمكانية إقامة قاعدة عسكرية صينية في جزر سليمان، أي على بعد نحو 2000 كم2 فقط من حدودها الشرقية، الأمر الذي أثار انزعاج بعض الباحثين الاستراليين من إمكانية تحول جزر سليمان إلى كوبا جديدة، في إشارة إلى أزمة الصواريخ الكوبية التي وقعت إبان الحرب الباردة[14]، مما جعل حزب العمل الاسترالي يصف الاتفاق المُشار إليه بأنه أكبر فشل للسياسة الخارجية الاسترالية في المحيط الهادى منذ الحرب العالمية الثانية[15]. بشكل عام، من شأن الوجود العسكري الصيني في جزر سليمان أن يُمكّن بكين من رصد تحركات استراليا في المنطقة، وهو ما اعتبره بعض المحللين ردًا قويًا من جانب الصين على التنسيق الأمريكي الاسترالي لرصد تحركات الصين في جنوب المحيط الهادى وشرق الحيط الهندي باستخدام الغواصات النووية.

وتتخوف استراليا أيضًا من قيام الصين -في حال حصولها على موطئ قدم عسكري في جزر سليمان- بوقف الممرات البحرية بحجة حماية وتأمين هونيارا، خاصة أن جزء كبير من تجارة كانبرا يمر من الساحل الشرقي عبر الجزر الميلانيزية، وهي إحدى الجزر الرئيسية التي تُشكل جزر سليمان[16].

3.اليابان:

لم يختلف موقف اليابان إزاء الاتفاق عن موقف حلفائها، إذ أرسلت طوكيو نهاية شهر أبريل 2022 نائب وزير خارجيتها إلى جزر سليمان في زيارة استمرت لمدة 3 أيام لنقل مخاوفها وقلقها للمسئولين هناك. هذا وقد أكد وزير الخارجية الياباني "يوشيماسا هاياشي" أن من شأن الاتفاق المذكور أن يهدد أمن واستقرار المنطقة بأسرها، خاصة مع تنامي النشاط العسكري لبكين في منطقتي بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي وما تعتبره اليابان تهديدًا لأمنها ومصالحها في هذا الصدد[17].

ختاما، تولي الصين أهمية بالغة لتعزيز نفوذها والوجود بقوة في منطقة جنوب المحيط الهادى، وذلك من خلال توطيد وتنمية علاقاتها مع الدول الجزرية هناك، وقد اتضح ذلك في تطور العلاقات بين بكين وهونيارا بوتيرة سريعةوفي وقت قياسي خلال الفترة الماضية، التي كان آخرها توقيع اتفاق أمني بينهما، فضلا عن زيارة وزير الخارجية الصيني في نهاية مايو من العام الجاري، وهو حدث اعتبره المسئولون في جزر سليمان تاريخيًا، نظرًا لكونها أول زيارة لمسئول صيني رفيع المستوى منذ أن تم الاعتراف بالصين في سبتمبر 2019. هذا، وقد دفع النشاط والتحركات الصينية في المنطقة بعض المتخصصين إلى تأكيد أن الصين أصبحت تتخذ المبادرة في بعض الملفات لخدمة أهدافها ومصالحها الاستراتيجية حتى وإن كانت الظروف الدولية قد تبدو غير مواتية.

في سياق متصل، يُمكن القول إن التطورات الايجابية الأخيرة التي شهدتها العلاقات بين بكين وهونيارا أثبتت كفاءة الصين في توظيف أدوات سياستها الخارجية -خاصة الأداة الاقتصادية- في استقطاب الشركاء الإقليميين وكسب ثقتهم، بل وجعلهم يتخلون عن دول كانت تجمعهم بهم علاقات قوية في السابق، كما حدث مع تايوان.من ناحية أخرى، تنتهج جزر سليمان سياسة خارجية تتسم بالمرونة والمناورة، إذ تستغل التنافس الجيوسياسي بين واشنطن وبكين وتوظفه لتعظيم مكاسبها قدر الإمكان.

أما عن إمكانية تفعيل الاتفاق الأمني المُبرم، وإلى أي مدى يمكن أن تقدم الصين الدعم العسكري لجزر سليمان، فالأمر مرهون بما قد تتخذه واشنطن وحلفائها من إجراءات فعلية خلال الفترة المقبلة لممارسة الضغوط على طرفي الاتفاق، وكذلك ما قد تشهده هونيارا من تطورات داخلية، خاصة في حالة وقوع احتجاجات مجدداً كما حدث نهاية العام الماضي.

الهوامش: