بضعة أيام فقط تفصلنا عن الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية الفرنسية التي تنطلق الأحد المقبل في اقتراع قد يُبقي الرئيس المنتهية ولايته، إيمانويل ماكرون في منصبه، أويُسلم قصر الإليزيه لساكن جديد يقود البلاد للسنوات الخمس القادمة. ويتسابق في جولة الاقتراع الأولى 12 مرشحاً، ثمانية رجال وأربع نساء، تتفاوت فرصهم بشكل كبير وبالكاد يعرف الناخبون أغلبهم، لكنَّ الملاحظ أن ظهور لاعبين جدد من مرشَّحي اليسار في هذه الانتخابات الفرنسية قد عدّل في موازين القوى التقليديّة للسِّباق الرئاسيّ نحو الإليزيه وأضفى عليه حركيّة التنافس الديمقراطي بعد أن كانت مقتصرة طيلة العقدين الماضيين على ثنائية اليمين من جهة واليمين المتطرف من جهة أخرى.
ويفسّر مراقبون تعدد المرشحين ذوي الخلفية اليسارية بالصعود الذي حققته هذه الأحزاب مستفيدة من تنامي الغضب الشعبي بعد فشل التوجهات الليبرالية للرئيس ماكرون وحزبه "الجمهورية إلى الأمام" والذي قابله تشدد وغلوّ في التطرف من قبل حزب "التجمع الوطني" بقيادة مارين لوبن مما أدى إلى المزيد من الانقسام الداخلي في الجبهة الفرنسية وانصراف المواطنين عن الحملات الانتخابية ومتابعة مرشحيها. ولعلّ ظاهرة صعود الأحزاب والتيارات اليسارية وانتعاش أطروحاتها مؤخرا ليست مقتصرة على فرنسا وإنما حالة عامة تشهدها العديد من الدول الأوروبية والغربية بشكل عام نتيجة اتجاه مواطني هذه الدول للبحث عن حلول وسياسات بديلة لدى هذه الأحزاب بعد فشل السياسات الرأسمالية في إدارة الأزمات المتتالية خلال السنوات الأخيرة، وآخرها أزمة جائحة كورونا وتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا وتناطح القوى العظمى بما يهدد بحرب عالمية شاملة. وهو ما أعاد الأحزاب اليسارية إلى الواجهة ومنحها شعبية بين تلك الفئات المتضررة من تلك الأزمات على نطاق واسع. فكيف تسير المنافسة نحو الإليزيه وما هي فرص الرئيس ماكرون في الاحتفاظ بمنصبه في ضوء السيناريوهات المحتملة للجولة الأولى للانتخابات في العاشر من أبريل؟
ماكرون ولوبن .. منافسة شرسة:
لا يزال الرئيس إيمانويل ماكرون متصدرا نوايا التصويت في استطلاعات الرأي لكنّ أوساطه قلقون بعد تراجع الفارق مع مارين لوبن، منافسته الأكثر شراسة في آخر استطلاع أجري منذ أسبوعين، إذ توقع حصوله على 53 % من الأصوات مقابل 47 % لغريمته. وتخوض مارين لوبن مرشحة حزب "التجمع الوطني" وابنة جان ماري لوبن، الزعيم التاريخي لليمين المتطرف، حربًا شرسةً مع ماكرون عبر حملتها، التي تجتذب المزيد من الناخبين بالتركيز على القضايا المعيشية اليومية، ومنها القدرة الشرائية المتدهورة التي تشغل الطبقات الشعبية، مع تشبثها بوقف تدفق المهاجرين إلى فرنسا والعداء لمن سبقوهم في موجات الهجرة الماضية، ومحاربة النزعة الإسلامية لأجيال المهاجرين من شمال إفريقيا. وقد ركزت لوبن حملتها الميدانية بعيدا عن المدن الكبرى، واستثمرت شعبيتها في مناطق يشعر سكانها بالإهمال. وقد عملت لوبان في السنوات الأخيرة على تحسين صورتها واكتسبت أرضية في العديد من الأحياء الفقيرة والمهمشة، واستطاعت أن تتقدم عدة نقاط مقارنة بالانتخابات الماضية عام 2017، كانت عند مستوى 40 % في مقابل إيمانويل ماكرون، بينما هي الآن عند مستوى يتراوح بين 46 و47 %، ما يعني أنها حققت عدة خطوات إلى الأمام.
ويواجه الرئيس ماكرون حاليا موجة متزايدة من الانتقادات من الناخبين أمام حصيلة ضعيفة من الإنجازات خلال سنواته الخمس في الحكم حيث قوضتها المشاكل المنجرة عن جائحة كورونا وضاعفت من عجزه عن تحقيق الوعود الانتخابية التي قطعها على نفسه عام 2017. وبالرغم من ذلك فإن بعض المراقبين يعتقدون أن مفتاح الإليزيه سيكون في حوزته وذلك لعدة عوامل، أهمها توجهه المنفتح والمرن نحو محيطه الأوروبي وشركائه التقليديين مقارنة بباقي المرشحين الذين يغرقون في التطرف والتعصب، وكذلك حفاظه على توازن الأعراق المكون للأمة الفرنسية ونبذه للعنصرية ضد المهاجرين والملوّنين من أصل إفريقي والذين يشكلون قوة انتخابية متعاظمة وقوة اقتصادية أيضا، إضافة إلى عامل مستجدٍّ وهوالحرب الأوكرانية التي تعزز فرصته في ولاية ثانية حسب العديد من المراقبين الذين يرون أن ماكرون نجح في تقديم نفسه خلال الحرب الأوكرانية الروسية على أنه "زعيم له دورفي التهدئة والوساطة بين المتحاربين" فى شرق أوروبا، وتحرّك على الخطّ الأمامي لتعزيز الجهود الدبلوماسية. وهوبذلك قد استعاد مكانة فرنسا ودورها الحيوي في محيطها الأوروبي والعالمي مما أهّله ليكون في صدارة المرشحين الأوفر حظًا في استطلاعات الرأي التي تقيس نوايا الفرنسيين للتصويت.
وقال ماكرون في تجمع انتخابي حاشد ضم أكثر من ثلاثين ألف شخص في الثالث من أبريل الجاري بالقرب من باريس لتعزيز موقعه في السباق الرئاسي: "لقد حان وقت التعبئة" داعياً أنصاره للتوجه لصناديق الاقتراع. وركز على العديد من القضايا التي تشغل بال مواطنيه في محاولة لاستمالة القوى التي مازالت مترددة ولم تحسم أمرها. وتحدث حول القوة الشرائية التي أصبحت في صدارة موضوعات خطب مارين لوبن، وتعهد ماكرون بمضاعفة "مكافأة ماكرون" ثلاث مرات بدءاً من هذا الصيف، لتصل إلى 6000 يورو، بدون رسوم أو ضرائب.
كما أعلن تأييده لرفع الحد الأدنى للمعاشات إلى 1100 يورو لمن أكملوا مسيرتهم المهنية حتى نهايتها، وأعرب عن رغبته في رفع سنّ التقاعد إلى 65 عاما تدريجا بحلول 2032، ووعد بتوظيف 50 ألف مقدم رعاية وممرض من أجل تقديم الرعاية للمسنين. وشدّد على رفضه زيادة الضرائب وتعميق الديون. غير أن ماكرون ردّ ضمنيّاً على هذه الوعود عندما قال إن التمويل لتحقيق كل هذه الأهداف "لا يأتي بالسحر" وإنما بالعمل.
الأزمات تقوّي أنفاس اليسار:
يحاول مرشح حزب اليسارالراديكالي "فرنسا التي لا تنحني"، جان لوك ميلانشون، أن يستفيد من بعض إخفاق ماكرون اجتماعياً واقتصادياً في مدة رئاسته الأولى تجاه الغالبية العظمى من الطبقة الوسطى والفقيرة التي تضررت بشكل واسع من الأزمة الناجمة عن كورونا وتداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا. وقد التقط المرشح الفرصة ليقوي أنفاس اليسار كما أضفى جواً تنافسياً على الانتخابات الفرنسية عكستها خطبه الحماسية خلال الحملات وشعاراته التي تحفز الشعور الوطني العليل جراء الأزمات. وقد استطاع ميلانشون أن يخرج السباق من دائرة التنافس الثنائي التقليدي بين اليمين، واليمين المتطرف التي سادت على امتداد العشرين عاماً السابقة إلى دائرة أوسع تتجه فيها الأنظار إلى أكثر من مرشح. وقد هاجم ميلانشون في حملته أمام أنصاره عدم اكتراث ماكرون بالظلم الاجتماعي المتزايد على هذه الطبقات كما اعتبر أيضا أن لوبن لا تختلف عن ماكرون في عدم اكتراثها بالتدهور الاجتماعي والاقتصادي، وأنهما يشتركان في نفس نموذج التفقير والهشاشة الذي لحق بالفرنسيين جراء الركود وزيادة معدلات البطالة والتضخم. ويركز ميلانشون في برنامجه الانتخابي على ضرورة القطيعة مع الليبرالية الاقتصادية من خلال الدعوة لصياغة دستور جديد وجمهورية سادسة تكون أكثر برلمانية وتشاركية، كما يهدف لنشر مبادئ يسارية من خلال إصدار إجراءات حماية اجتماعية لصالح الفئات الأكثر تضررا وتمويل عدة مشروعات لتطوير الخدمات العامة، من خلال فرض ضرائب على الفئات الأغنى وذات الدخول المرتفعة.
وطالب الناخبين بالذهاب بكثافة للتصويت في الانتخابات والدفاع عن فرصهم للتغيير، معتبرا أن الفرصة متاحة لصناعة هذا التغيير المطلوب "أكثرمما يعتقد كثيرون" على حد تعبيره. وتضع استطلاعات الرأي ميلانشون في المركز الثالث بنحو 15 إلى 16 % من نوايا التصويت.
ومن الملاحظ في هذه الانتخابات الرئاسية تعدد المرشحين الذين يمثلون الرؤى والأطروحات اليسارية؛ فإلى جانب ميلانشون، هناك يانيك جادو المرشح عن حزب "أوروبا البيئة الخضر"، وكان نائبا في البرلمان الأوروبي عن الحزب عام 2000، وسبق له الترشح لانتخابات الرئاسة الفرنسية عام 2017 . ويطالب في برنامجه الانتخابي بإصلاحات لحماية البيئة، على رأسها إغلاق 10 محطات نووية بحلول 2035، ويقترح فرض ضريبة "مناخية" على "الثروة" وزيادة الحد الأدنى للأجور بنسبة 10% خلال ولايته. أما المرشح اليساري الثالث فهو فابيان روسل وهو صحفي وسياسي ينتمي للحزب الشيوعي الفرنسي وقد اعتبرته وسائل إعلام فرنسية أحد مفاجآت الحملة الانتخابية حيث يدعو للقطيعة مع المعاهدات الأوروبية. وتأتي ناتالي آرتو من الخلفية الفكرية نفسها، حيث إنها شيوعية أيضا وتركز برنامجها الانتخابي على الدفاع عن حقوق العمال وفرض الضرائب على أصحاب الشركات والثروات.
وباستثناء ميلانشون، يحظى جميع المنافسين من الأحزاب والتيارات اليسارية بفرص ضئيلة في هذا السباق وبنوايا تصويت تترواح بين 0.5% و6% .
السيناريوهات المتوقعة:
أشارت آخر استطلاعات الرأي أن 66 % من الفرنسيين ينوون التوجه إلى صناديق الاقتراع في 10 أبريل المقبل، وهي نسبة مشاركة منخفضة تعكس الانقسامات السياسية داخل المجتمع الفرنسي خلال السنوات الأخيرة. وفي ضوء المشاركة المحتملة الضعيفة في التصويت خلال الدورة الأولى، من المتوقع أن تعقد جولة انتخابات ثانية تفصلها 14 يوما عن الأولى إذا فشل أحد المرشحين في الفوز بأكثر من 50% من أصوات الناخبين. بعض الذين شاركوا في استطلاع الرأي فسروا عزوف فئة كبيرة من الفرنسيين عن المشاركة في الاقتراع ومتابعة الحملة الانتخابية بانعدام الثقة بين المواطن الفرنسي والطبقة السياسية التي دأبت على عدم تحقيقها وعودها الانتخابية التي تطلقها بحماس خلال الحملات دون تطبيق يذكر بعد الاطمئنان للفوز بكرسي الإليزيه، كما إن انشغال الفضاء الإعلامي الفرنسي بالأزمة الصحية والحرب الروسية على أوكرانيا ألهى الناس عن مشاغلهم اليومية المُلحَّة.
لذا، يرى مراقبون للمشهد الانتخابي الحالي في فرنسا أن الرئيس إيمانويل ماكرون فقد الكثير من شعبيته ومن أصوات الناخبين على خلفية إدارة أزمة جائحة كورونا وبعدها الأزمة الأوكرانية وانخراطه الكبير في هذه الحرب دون نجاحه في إيقافها، أو الحد من تداعياتها على الفرنسيين. مع ذلك، لا تزال التوقعات ترجّح أن ماكرون قادر على الاستفادة من الانقسامات الحالية داخل تيارات اليسار وتشتت أصوات مناصريهم، وبالتالي سيحظى على غالبية أصواتهم في دور الإعادة ليرجحوا كفته أمام ماريان لوبن في سيناريو مكرر .. إذا لم تحدث مفاجآت.