يبدو أن حكمة "إذا نقدت الناس نقدوك وإن تركتهم تركوك" قد أخافت أهالينا منذ زمن بعيد من التناول النقدي والفكر الناقد والتداوي بالنقد في مجال الإبداع، فكان الاكتفاء بالمدح والرثاء والتهاني والفخر والحماسة وغيرها من الأنماط التقليدية.
تعال عزيزي القارئ لنعود ما يقارب نصف قرن من الزمان لنقرأ بعضًا من افتتاحية العدد الثاني من مجلة الرسالة الجديدة لرئيس تحريرها يوسف السباعي (الذي نعيش هذه الأيام ذكرى اغتياله ورحيله هذا الأسبوع) العدد الصادر بتاريخ أول مايو 1954 تحت عنوان "من عامل أرتست .. إلى فنان!" يتعجب فيه بموضوعية وبساطة على تعليق سمعه من الدكتورة سهير القلماوي بالإشادة لإعادة كتابة إحدى قصصه في سبيل السعي إلى الكمال .. يقول السباعي: سمعت الدكتورة سهير القلماوي تُحيي في حديث لها بالإذاعة الأديب العظيم "الأستاذ محمود تيمور لهذه الروح التي أملت عليه، وهو في الذروة من الشهرة أن يجود فنه فيعيد كتابة قصة أصدرها من جديد ليجود وينقح ويغير في سبيل الكمال" أما هذا الذي أعاد أستاذنا كتابته ليجوده وينقحه ويغيره في سبيل الكمال .. فهو أبو علي .. الذي رفعه تيمور من "عامل أرتست" إلى درجة فنان.
ويضيف السباعي: أنا أبحث في نظرية التجويد والتنقيح التي أخرجها إلينا أستاذنا الكبير وأيدته فيها وحيته عليها دكتورتنا النابغة .. وأنا أحب تيمور .. وأحب دائماً أن أشارك في تحيته في كل شيء إلا فيما حيته عليه سهير من تجويد وتنقيح .. وهي تعترف بوضوح بأن غرض المؤلف الذي من أجله أعاد كتابة قصته، وهو كما جاء في المقدمة "ليبدل ويغير فيها حتى يخرج الموضوع في ثوب أليق وأقرب إلى رضائه من الناحية الفنية"، لم يتحقق .. بل على النقيض تحقق عكسه .. هل هذا هو التجويد والتنقيح الذي تراه الدكتورة؟ والذي تؤيده وتحيي الكاتب من أجله.
ويواصل السباعي توضيح وجهة نظره، فيقول: أنا لا أناقش حدوث التجويد أو عدم حدوثه .. وتحقيق غرض تيمور أو عدم تحقيقه، أنا فقط أعترض على مجرد محاولته، فالفنان الخالق يظهر لنا إنتاجه عبر مختلف مراحل حياته، ولا شك فى أن هذا الإنتاج يتطور بتطور تفكيره وشعوره في تلك المراحل المختلفة، وكل إنتاج له إنما يعبر عن طبيعته في تلك المرحلة، ويعكس لنا صورة من نفسه وأحاسيسه، وكل مرحلة من مراحل الفنان لها قدرتها على إنتاج مخصوص وميلها إلى اتجاه معين بحسب الانفعالات التي تتعرض لها نفس الفنان في تلك المرحلة وبحسب تكوينها الداخلي وطريقتها في التفكير والإحساس واستقبال الأحداث الخارجية المنعكسة عليها، ثم قابليتها لإرسالها وقدرتها عليه .. وفي مقال آخر، أعرب عن ضيقه بالحركة النقدية تحت عنوان "ضيعة النقد"، سأل السباعي: أين هم النقاد؟ وأين جهودهم؟
حول النقد الأدبي، يذكر الكاتب الكبير الراحل أحمد أمين "إذا تتبعنا واقع الأمر في الأمم المختلفة، فإننا نجد هذا الأدب العميق الممتاز له جمهور خاص به قد بلغ من المستوى الفكري والثقافي ما يمكنه من تذوق هذا الأدب الممتاز وإدراك اتجاهاته ومراميه" .. ويؤكد "أمين" أن الأدب له جمهور خاص، لا يمثل طبقة اجتماعية معينة، فقد تجده يضم أشتاتًا من مختلف الطبقات، ففيه العامل المثقف والفلاح المجتهد كما أن فيه الغني العاطل والموظف الخامل والعالم الفاضل، جمهور تجد فيه من تعلم في جامعة، ومن علم نفسه بنفسه، وعلى الرغم من اختلاف درجاته الاجتماعية، فهو متحد في المستوى الثقافي إلى حد ما".
وعليه، لا يمكن اعتبار الكتابة التي لا تخرج عن كونها انطباعات شكلية كتابة نقدية يمكن أن تدفع بالكاتب إلى تطوير أدواته، وكذلك ليس من المفيد في مراحل نطالب فيها بإثراء الوعي النقدي الذهاب إلى كتابات تنظيرية متقعرة متعالية لاستعراض عضلات الناقد، بعيدا عن التقييم الموضوعي والعلمي المفهوم.
في هذا السياق، يؤكد المفكر والكاتب الكبير د. صلاح فضل أستاذ النقد الأدبي أن التوجه الى الصحافة وسهولة تحبير الصفحات الطويلة، من دون مراجعة للنفس والاتكاء على ثقافة عميقة ومعرفة علمية مؤسسة منهجياً، هو الذي يُغري هؤلاء الكتّاب باحتراف ما يبدو ظاهراً كتابة نقدية، وهي في الحقيقة ثرثرة لا أكثر، الكاتب المبدع يجب أن تتوافر لديه الموهبة الخلاقة، يُولد أو يكاد يولد بها، لابد من وجود لمسة من العبقرية، نفحة من نار الخلق في قدرة التكوين، وإما تطمرها الأحداث والظروف الشخصية، أو يشعلها الوعي وتزكيها التجارب، فيمتلك نوعين من الخبرة لا غنى عنهما، الخبرة الوجودية بالحياة، بحيث يستطيع النفاذ إلى ثناياها وأعماقها وتعقيداتها مدركاً ببصيرة ثاقبة أسرارها، والقدرة الجمالية على صياغة كل ذلك بأشكالٍ فنية مبدعة ومتجددة ومدهشة للقارئ، وإذا لم يغذّ صاحب شرارة الموهبة قدراته بهذين النوعين من الخبرة سرعان ما ينطفئ.
رابط دائم: