التداعيات والمسارات المحتملة للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا
26-2-2022

د. منى سليمان
* باحث أول ومحاضر فى العلوم السياسية

نفذ الرئيس الروسي "فلاديمير بوتين" تهديده وأعلن عن بدء عملية عسكرية محدودة في "إقليم دونباس" شرق أوكرانيا فجر يوم 24 فبراير الحالي، ودعا جيشها لإلقاء السلاح والسيطرة على الحكم لبدء تفاوض معهم. وقد حظي قراره بتنديد أوروبي وأمريكي وفرض عقوبات اقتصادية (مشددة قاسية وغير مسبوقة) على روسيا و"بوتين" والنخبة الحاكمة بموسكو. بينما أعلنت الصين تفهمها لدوافعه ودعت لبدء مفاوضات بين موسكو وكييف. ومع بدء اليوم الثالث من الهجوم الروسي أدت العملية لمقتل 137 شخصا وإصابة 316 آخرين، وانهارت تقريبا الدفاعات الجوية الأوكرانية. وأصبح من المؤكد أن تداعيات تلك الحرب سوف تتخطى حدودها الإقليمية وتؤثر على كافة دول العالم لاسيما فيما يخص التداعيات الاقتصادية، كما أنها أزمة كاشفة عن عدد من الأزمات البنيوية في البنية الأمنية الأوروبية والنظام الدولي الذي بدأت إرهاصات تغيره.

تفسيرات المشهد الحالي:

- تجاهل اضطهاد دونباس: ثمة تجاهل أوروبي أمريكي متعمد لعمليات الاضطهاد الثقافي والعرقي الممنهج من قبل حكومة أوكرانيا ضد الأقليات الروسية وسكان منطقة دونباس الانفصالية بجنوب شرقي أوكرانيا منذ عام 2014 وتصاعدت خلال العام الأخير، مما دفع رئيسى جمهوريتي لوجانسك ودونيتسك الانفصاليتين بمطالبة روسيا حمايتهما من السياسات التعسفية التي تقوم بها حكومة كييف ضدهما،  وقد وصف "بوتين" هذه الممارسات مؤخرا بأنها "إبادة جماعية". بيد أن الدول الأوروبية لم تطالب كييف باحترام حقوق الإنسان بتلك المناطق. ومنذ مطلع عام 2022 تقوم القوات الحكومية الأوكرانية بقصف مستمر على بعض الأحياء والبنى التحتية لتلك المناطق. وأكد مراقبو منظمة "الأمن والتعاون في أوروبا" يوم 19 فبراير 2022 أن هناك انتهاكات متبادلة لوقف إطلاق النار بين الانفصاليين في (دونيتسك ولوجانسك) والقوات الأوكرانية، حيث تم رصد 1500 خرق لوقف إطلاق النار متبادل في شرق أوكرانيا خلال 24 ساعة. وجدير بالذكر أن إقليم "دونباس" يسعى للانفصال عن أوكرانيا والانضمام لروسيا نظرا لأن سكانه ينحدرون من أصول روسية وأغلبهم يحمل الجنسية الروسية ويتحدث اللغة الروسية ولذا خاض نزاعا مستمرا مع كييف منذ عام 2014 أدى لمقتل 14 ألف شخص.

- هجوم روسي متوقع: الهجوم الروسي على إقليم "دونباس" كان متدرجا ومتوقعا، فمنذ منتصف عام 2021، تحشد روسيا قواتها العسكرية على الحدود الغربية بالتزامن مع حشد عسكري أمريكي - أوروبي في أوكرانيا. حيث قدمت واشنطن  لكييف 2.5 مليار دولار من المساعدات العسكرية منذ 2014، بما في ذلك 450 مليون دولار عام 2021. كما شاركت كييف في مناورات أمريكية وسمحت بنشر صواريخ أمريكية على أراضيها واستقبلت الآلاف من الجنود الأمريكيين علنا وسرا. مما دفع "بوتين" للمطالبة عدة مرات بضرورة تخفيف الحشد العسكري الأمريكي بأوكرانيا لعدم وجود مبرر له، كما أعلنت كييف عدة مرات رغبتها في الانضمام لحلف "الناتو"، وهو ما يمكن واشنطن من نشر صواريخ متوسطة المدى على أراضيها يصل مداها للعاصمة الروسية موسكو وهذا ما وصفه "بوتين" "بالخط الأحمر" الذي لن يسمح بتجاوزه. ثم قدمت روسيا نهاية العام الماضي وثيقة "الضمانات الأمنية" التي رفضتها واشنطن. فبدأت في التلويح باستخدام الأداة العسكرية عبر تنفيذ مناورات في 19 فبراير 2022 أشرف عليها "بوتين" شخصيا وتضمنت إطلاق "صواريخ باليستية وكروز". ثم أعلن "بوتين" الاعتراف رسميا بجمهورتي (لوجانسك ودونيتسك) المعروفة باسم (إقليم دونباس) الانفصاليتين في 22 فبراير الحالي، غداة ذلك طُلب من "بوتين" مساعدة الانفصاليين في تلك المنطقة لأنهم يتعرضون لهجمات من الجيش الأوكراني. فتم الإعلان عن العملية العسكرية الروسية "المحدودة" كما وصفها "بوتين" في فجر 24 فبراير 2022 باسم "الدفاع عن دونباس".

- عقيدة "بوتين" العسكرية: أكد "بوتين" ذو الخلفية العسكرية المخابراتية أنه لن يسمح لحلف شمال الأطلسي "الناتو" بالوجود على حدوده وتهديد موسكو مباشرة، ولذا طلب في "الوثيقة الأمنية" توقيع اتفاقيتين منفصلتين بين موسكو وواشنطن، والناتو لوضع نظام ضمانات أمنية بغية خفض التوترات الأمنية في أوروبا، وتخلى الحلف عن أي نشاط عسكري في جورجيا وأوكرانيا، وعدم انضمامهما للحلف، ووقف نشر أنظمة أسلحة هجومية في الدول المحاذية لروسيا بيد أن واشنطن رفضت ذلك. فكان خياره اللجوء للعمل العسكري. لأنه وفق عقيدته العسكرية، هذه هي "اللحظة المثالية" للضغط على "الناتو" والاتحاد الأوروبي لإعادة هيكلة البنية الأمنية الأوروبية التي لم تتغير منذ الحرب العالمية الثانية عام 1945. حيث إنه بعد انهيار سور برلين 1989 تعهدت واشنطن ضمنا لموسكو بعدم تقدم "الناتو" خطوة واحدة بشرق ألمانيا، واليوم أصبحت قواتها على أبواب روسيا عبر وجودها العسكري المكثف في أوكرانيا ودول البلطيق شمال أوروبا (لاتفيا، واستونيا، وليتوانيا)، وبولندا، وجورجيا. ولذا يرغب "بوتين" في إعادة صياغة ترتيبات أمنية أوروبية جديدة تضع في حسبانها وضع ومكانة روسيا حاليا التي تختلف كلية عنها فى عام 1991 عند تفكك الاتحاد السوفيتي، وهو يعلم تماما حجم ومقدار الخسائر الاقتصادية التي ستتكبدها روسيا في المدى القريب والمتوسط، ولكن العائد السياسي والأمني سيكون أكبر وسيمكنه من تعويضها لاسيما حال انتهت العملية العسكرية سريعا. لأن تعزيز مكانة ونفوذ روسيا دوليًا وإعادة النظر في هيكلية النظام الدولي الحالي هي مكاسب حققها "بوتين" في الساعات الأولى من الهجوم، وحال انتهت الأزمة وفق شروطه بضمان "حياد أوكرانيا" ومنع انضمامها للناتو فسيكون قد حقق كافة مكاسبه.

- ضعف رد الفعل الغربي: اتسم رد الفعل الأوروبي والأمريكي على العملية العسكرية الروسية بأوكرانيا "بالضعف الشديد"، فلم يتجاوز حدود خطابات الإدانة وفرض عقوبات اقتصادية مشددة سيكون هناك صعوبة في تنفيذها، ووعود بتقديم مساعدات إنسانية لكييف. وهذا لأن الأخيرة ليست عضوا بحلف "الناتو" أو الاتحاد الأوروبي ولذا لا تلتزم دول الحلف بالدفاع عنها أو مساندتها. وهذا رغم الإجماع الأوروبي على أن هذه الأزمة هي الأسوأ منذ نصف قرن. مما يؤكد الرهان الروسي بأن أوروبا تمر حاليا بأضعف مراحلها منذ الحرب العالمية الثانية، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وانشغال الدول المؤثرة بتطورات شأنها الداخلي، فالرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" رئيس الاتحاد الأوروبي الحالي منشغل في الإعداد للانتخابات الرئاسية المقبلة المقررة في مايو 2022. وألمانيا مازالت في مرحلة انتقالية حيث تسلمت قيادة سياسية جديدة الحكم وتعيد ترتيب "البيت الداخلي بعد ميركل". أما إيطاليا واليونان وبعض دول شرق أوروبا فهى تسعى جميعا للتعافي من التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لأزمة (تفشي فيروس كورونا). والوضع لا يختلف على ضفة الأطلسي، فالرئيس الأمريكي "جو بايدن" يستعد لانتخابات التجديد النصفي للكونجرس المهدد حزبه الديمقراطي بخسارتها في ظل تصاعد الأزمة الاقتصادية بالداخل الأمريكي إثر ارتفاع أسعار المحروقات ومعدلات التضخم.

- أخطاء القيادة الأوكرانية: لعل الخطأ الاستراتيجي الذي لن يغتفر يتحمله الرئيس الأوكراني "زيلينسكي"، فقد فشل في إدارة الأزمة منذ عام تقريبا، ولم يتخذ قرارات رشيدة تجنبه وبلاده ويلات هذه الحرب. حيث وقع "زيلينسكي" ضحية للاستقطاب الحاد بين موسكو وواشنطن، وراهن على الثانية التي تخلت عنه مباشرة ولم تقدم له سوى الوعود بمساعدات إنسانية أو إمكانية إجلائه من البلاد حال سقوط كييف بيد "بوتين". وهو ما دفعه للقول بعد الهجوم الروسي: "لقد تُركنا نواجه الجيش الروسي وحدنا". وقد تعمد "زيلينسكي" على مدى العام الماضي إثارة غضب موسكو عبر استمرار الحشد العسكري الأمريكي بأوكرانيا وإبداء رغبته في الانضمام للناتو رغم إدراكه لرفض موسكو ذلك، واستمرت كييف في قصف مستمر لإقليم دونباس مما دفع الانفصاليين لمطالبة حمايتهم من روسيا. وكان الأحرى بالقيادة السياسية الأوكرانية أن تحذو حذو فنلندا فهي الدولة الأوروبية الوحيدة التي لها حدود مع روسيا وليست عضوا "بالناتو"، وترفض الانضمام للحلف منذ تأسيسه عام 1949، مما يمثل ثغرة في الأمن الأوروبي والأمريكي بالتبعية، ولكنه يضمن حياد فنلندا وأمنها من رد الفعل الروسي. فهي ترفض الاستقطاب الدولي بين موسكو وواشنطن، ومؤخرا وصف الرئيس الفنلندي الحالي "ساولي نينيستو" انضمام بلاده للناتو بأنه "سيكون إعلان حرب على روسيا".

تداعيات لأزمة كاشفة:

- محدودية دور حلف "الناتو": تعد الأزمة الأوكرانية كاشفة لعدة أزمات أبرزها محدودية دور حلف "الناتو" حيث إن الحلف وفق وثيقة تأسيسه مكلف بالدفاع عن الدول الأعضاء به فقط وهى حاليا 27 دولة ليست بينها أوكرانيا وجورجيا، بيد أن الدولتين الأخيرتين معرضتين لهجمات روسية مستمرة مما يهدد أمن دول الجوار كبولندا ودول البلطيق ورومانيا الأعضاء بالحلف، ولذا قرر "الناتو" تعزيز قواته في استونيا ولاتفيا وليتوانيا وإرسال 800 جندي من المشاة ونحو ثماني طائرات مقاتلة من طرازF-35 إلى مواقع مختلفة على طول الجناح الشرقي لحلف الناتو. ولكن كيف سيدافع الحلف عن أعضائه ضد الهجوم الروسي حال استمر بهذه الأعداد الضئيلة من الجنود والمعدات؟ وما هي الضمانات الأمنية بعدم تكرار الهجمات الروسية مرة أخرى على دول أوروبية أخرى. مع العلم أن الحلف تحرك فى دول لا تتمتع بعضويته ولم تمثل تهديد مباشر لأمن أعضائه، مثل العراق 2003، وأفغانستان2001، وليبيا2011.

- ضعف البنية التحتية الأمنية الأوروبية:أصبح جليا أن الاتحاد الأوروبي عاجز بمفرده عن الدفاع عن أمنه وسيادته وكان معتمدا منذ نصف قرن على حلف الناتو وقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، التي تحملت بمفردها 60% من نفقاته وتسيطر كاملة على قيادته العسكرية والتنفيذية. ولذا فقد أعربت وزيرة المالية الألمانية عن ندم بلادها لعدم الاهتمام بتحديث وتطوير الجيش الألماني، كما أعرب الرئيس "ماكرون" مطلع العام وفي ظل تفاقم الأزمة الأوكرانية قبل العملية العسكرية عن ضرورة صياغة سياسة أمنية ودفاعية مستقلة لأوروبا وتأسيس جيش أوروبي مستقل عن "الناتو". وهذا أصبح ضرورة ملحة لاسيما في ظل توجه أمريكي لتعزيز وضعها العسكري في المحيطين الهندي والهادئ (الإندو- باسيفيك) لمواجهة الصعود الصيني هناك. ولعل العقبة الرئيسية لتأسيس "الجيش الأوروبي" هو الانقسام الداخلي، فمقتضيات الأمن القومي لدول جنوب أوروبا تختلف عن شمالها أو شرقها، هذا الانقسام ربما تدفع ثمنه الدول الأوروبية الكثير حال استمر أمام القوة الروسية والصينية الصاعدة.

- جدوى العقوبات الاقتصادية: أعلنت واشنطن ومعظم دول الاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية مشددة وقاسية على موسكو، منها منع وصول البنوك الروسية لأسواق المال الأوروبية، وتجميد الأصول الروسية،  وحظر دخول القطاعات الاقتصادية الروسية المهمة لمجالات التكنولوجيا الرئيسية والأسواق. بيد أن تلك العقوبات لن تؤثر كثيرا على الاقتصاد الروسي لعدة عوامل:

أ- مبدأ الاعتماد المتبادل الذي يقوم عليه الاقتصاد العالمي، فالاتحاد الأوروبي يعد أكبر شريك تجاري لروسيا والعقوبات على الأخيرة ستؤثر سلبا على الشركات الأوروبية، كما أعلنت موسكو فرض عقوبات مماثلة وبدأت في تنفيذها بالفعل، حيث فرضت يوم 25 فبراير 2022 منع كل الطائرات المرتبطة ببريطانيا من دخول مجالها الجوي. وكذلك أعلنت تركيا وصربيا وبعض الشركات الإيطالية والولايات الألمانية أعلنت جميعا رفضها فرض عقوبات على روسيا نظرا للروابط الاقتصادية بينها وبين موسكو.

ب- الاقتصاد الروسي أقوى وأكثر صلابة من تلك العقوبات ويعتمد بالأساس على بيع الأسلحة التي لم تشملها تلك العقوبات، فقد نجح "بوتين" خلال الأعوام الماضية في توفير احتياطيات كبيرة من العملات الأجنبية والذهب وهي ما تمنحه ثقة في التغلب على أي تراجع في الاقتصاد الروسي، فضلا عن العلاقات التجارية القوية بين روسيا والصين لاسيما بعد التوقيع على الاتفاق الاستراتيجي بينهما خلال زيارة "بوتين" الأخيرة لبكين وحضوره افتتاح دورة الألعاب الاوليمبية الشتوية في 3 فبراير الحالي.

ولذا فثمة ضرورة لإعادة النظر في جدوى فرض العقوبات الاقتصادية على الدول كأداة ضغط لدفعهم تغيير سياستهم الخارجية لأنها لم تنجح في عدة حالات مع الصين، وروسيا، وإيران، وفنزويلا، وسوريا.

- أزمة لاجئين وتصاعد المد القومي اليميني: أسفر الهجوم الروسي عن أزمة لاجئين جديدة داخل أوروبا، فبعد يومين من بدء الهجوم بلغ عدد اللاجئين الأوكرانيين في بولندا 20 ألف لاجئ، وفي رومانيا 19 ألف لاجئ، و100 ألف نازح داخل البلاد، و100 ألف لاجئ في روسيا يحملون الجنسية الروسية، وبالطبع هؤلاء سيحتاجون لكافة سبل الإعاشة في ظل أزمة اقتصادية بشرق أوروبا. وعلى الصعيد السياسي فقد يسفر ذلك عن تصاعد المد القومي اليميني في روسيا وبين القوميات الروسية في أوروبا وآسيا دعما للرئيس "بوتين" وللقومية الروسية التي تعيد انتصاراتها من وجهة نظرهم، وبالمثل سيكون هناك تصاعد في التيار اليميني القومي الرافض للمهاجرين واللاجئين بفرنسا وإيطاليا ودول أوروبية أخرى، وسيتضح هذا في الاستحقاقات الانتخابية المقبلة.

- تغير النظام الدولي: ثمة تأكيدات على تراجع مكانة واشنطن دوليا بعد الانسحاب العسكري الفوضوي لها من أفغانستان في أغسطس 2021. سبق ذلك رفض واشنطن الانخراط عسكريا في عدة أزمات بالشرق الأوسط وحاليا بالأزمة الأوكرانية. في المقابل تقدمت روسيا عسكريا في الشيشان، وجورجيا، وأوكرانيا، وسوريا، ومثلها الصين التي توسعت في بحر الصين الجنوبي، والإندو-باسيفيك. مما يؤكد بدء الإرهاصات بتراجع مكانة واشنطن دوليا وتغير النظام الدولي من "القطبية الأحادية" التي سيطرت فيها واشنطن على العالم منذ 1990 بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وحتى اليوم، إلي حالة "اللاقطبية" حيث لا يوجد دولة واحدة تملك كافة مقومات التفوق على سائر الدول في قوتها الشاملة، أو حالة "النظام الدولي متعدد الأقطاب" بين موسكو وبكين، وواشنطن.

المسارات المحتملة:

1- وقف فوري وتفاوض مباشر: يقضي هذا المسار بوقف سريع للعملية العسكرية خلال أسبوع من بدايتها وبدء مفاوضات مباشرة بين روسيا وأوكرانيا بوساطة فرنسية، أو أوروبية، وذلك بعد تدمير روسيا للبنية العسكرية الأوكرانية لاسيما الدفاع الجوي وهو ما حدث في 48 ساعة من بدء الهجوم حيث أعلنت موسكو أن البنية التحتية العسكرية ومنشآت الدفاع الجوي والمطارات العسكرية وطيران القوات المسلحة الأوكرانية، تستهدف بأسلحة متناهية الدقة.كما بدأت بوادر هذا المسار بعد حديث "زيلينسكي" باللغة الروسية "لبوتين" وإبدائه الرغبة في "حياد أوكرانيا" وتخليها عن الانضمام للناتو وهو هدف "بوتين" الرئيسي. وقد أبدى "بوتين" استعداده لإرسال وفد تفاوضي لبيلاروسيا للتفاوض مباشرة حول وقف العمليات العسكرية. كما أعلن "ماكرون" استعداده للتوسط بين الطرفين. وحال تم التفاوض فإن موسكو ستطلب إبرام وثيقة رسمية تنص على تخلي أوكرانيا عن انضمامها للناتو، ومنع نشر قوات للحلف أو أسلحة حديثة على أراضيها، ومنع نشر صواريخ متوسطة المدى أمريكية مستقبلا في أوكرانيا، أو جورحيا، أو دول البلطيق. فضلا عن تفكيك مفاعل "تشيرنوبيل" النووي في شمال أوكرانيا الذي يهدد روسيا حال امتلاكها أسلحة نووية. ويعد هذا المسار هو السيناريو المرجح لنهاية العملية العسكرية.

2- تقسيم أوكرانيا: يقضي هذا المسار باستمرار العملية العسكرية لبعض الوقت وتصعيد الهجمات من قبل الانفصاليين بدونباس بدعم روسي مستمر، ثم الإعلان عن وقف العملية العسكرية والتفاوض حول تقسيم أوكرانيا أو تغيير نظام الحكم "لحكم فيدرالي"، ويتم تقسيمها لثلاث دويلات: في الغرب دولة موالية للاتحاد الأوروبي، وفي الشرق، والجنوب موالية لموسكو. كما سيتم اقتطاع مدن استراتيجية لضمها لدونباس، منها مدينتي ماريوبول في أقصى الجنوب على بحر أزوف، ومدينة أوديسا على البحر الأسود. وقد شهدتا إنزال قوات المظلات الروسية في الساعات الأولي للعملية العسكرية، لأنهما وفق القناعة الروسية جزء من التقسيم الإداري لإقليم دونباس.

3- تغير القيادة السياسية الأوكرانية:دعا "بوتين" في ثاني أيام العملية العسكرية الجيش الأوكراني للاستيلاء على الحكم وتحرير البلاد من "العصابة" التي تحكمه، وتزامن ذلك مع دعوة بريطانيا للرئيس الأوكراني بضرورة تركه البلاد وتوفير ملاذ آمن له. مما ينذر بإمكانية تغيير الرئيس الحالي وتولى قيادة جديدة بديلة له موالية لموسكو (مثل رئيس بيلاروسيا لوكاشينكو) تنفذ شروط "بوتين" وتتعهد بعدم الانضمام للناتو.

4- احتلال أوكرانيا بالكامل: في ثاني أيام الهجوم بدأ القصف المكثف على العاصمة كييف، وجدير بالذكر أن الهجوم الروسي العسكري سبقه ضربة روسية سيبرانية للمنشآت الأوكرانية أدت لشلل المنشآت الرئيسية بالبلاد، وربما يتكرر ذلك مما يؤدي للسيطرة السريعة على كييف، خلال أسبوع من الهجوم على سبيل المثال. وبعد ذلك سيقوم "بوتين" بتنصيب حكومة بكييف موالية له ومنح الأقاليم الانفصالية حق تقرير المصير، وإبرام اتفاقيات سياسية وأمنية بين موسكو وكييف تكتسب الشرعية من الحكومة الجديدة.

5- مقاومة العملية العسكرية: بدأت في ثاني أيام الهجوم تباطؤ تقدم القوات الروسية لكييف، وفسر ذلك على وجود "مقاومة أوكرانية" للهجوم الروسي، ورفض من الجيش الأوكراني بتسليم المدن للقوات الروسية. وحال توفر دعم إنساني وعسكري للجيش الأوكراني ربما تستمر هذه العمليات لعدة أسابيع نظرا لتجنب موسكو اقتحام المدن كثيفة السكان بشكل مباشر. 

6- مهاجمة دول شمال أوروبا: هذا المسار يقضي باستمرار العمليات العسكرية وقيام "بوتين" بمهاجمة دول شمال أوروبا مثل دول البلطيق، وبولندا عبر قصف جوي مكثف، وتلك الدول هي التي تحث "الناتو" على التدخل خشية "زحف بوتين" عليهم نظرا لكونهم أعضاء بالحلف. بيد أن هذا السيناريو مستبعد لأن "بوتين" يدرك ذلك جيدا ولن يرتكب خطأ استراتيجي بمهاجمة دولة عضو بالحلف لأنه بذلك سيكون هاجم كل دول الحلف وسيتعرض لتدخل عسكري مباشر. وما يريده "بوتين" هو استنساخ "قاعدة أمنية روسية" مثل "قاعدة مونرو" الأمريكية للحفاظ على "الفناء الخلفي"، والعمق الاستراتيجي الروسي، وإزاحة قوات "الناتو" من أوكرانيا وجورجيا فقط.

مما سبق، نجد أن الأزمة الأوكرانية لن تنتهي قبل تحقيق "بوتين" لهدفه المحدد وهو تخلى أوكرانيا عن الانضمام لحلف الناتو ونزع السلاح الأوروبي_الأمريكي منها، وهذا حال نفذ سريعا فإن العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا ستكون بلا جدوي، كما أن نهاية الأزمة ستكتب البداية لنظام دولي جديد.

 


رابط دائم: