خلال أقل من عامين، تحولت مشكل الديون السيادية اليونانية إلى أزمة حادة، تكاد تعصف بالنظام الاقتصادي والسياسي لهذه الدولة، وتثير مخاوف متصاعدة حول مستقبل العملة الأوروبية الموحدة، واستمرار مشروع الوحدة الأوروبية ذاته، كما تمتد تداعياتها لتهدد باندلاع أزمة مالية عالمية جديدة، قد تفوق في قسوتها أزمة عام 2008.
تعكس هذه التطورات ملامح أساسية في النظام السياسي والاقتصادي العالمي في المرحلة الحالية، والذي وصفه محللون مثل إيان بريمر بنظام (G-Zero)، أي اللا قطبية، كما وصفه آخرون مثل تيموثى آش "باللا نظام" العالمى الجديد (New World Disorder). فبعد تراجع قدرة الولايات المتحدة على بسط هيمنتها سياسيا واقتصاديا، ظهرت قوى متعددة ومختلفة الرؤى على الساحة، تسعى كل منها لتحقيق مصالحها القومية وحل مشاكلها الداخلية، بينما تعجز عن، أو ترفض، لعب موقف قيادي على المستوى الدولي.
انعكس هذا الانقسام على عمل كل الهيئات الدولية متعددة الأطراف، وأصبح هناك غياب واضح لإرادة التعاون الجماعي على المستوى الدولي. تجلى ذلك في فشل المفاوضات المتعلقة بأزمة تغير المناخ، ومفاوضات جولة الدوحة وغيرها، وفي التراجع السريع للتعاون من خلال مجموعة العشرين بعد الأزمة المالية لعام 2008.
نظام اقتصادي منقسم
وعلى المستوى الاقتصادي، فقد انقسم الاقتصاد العالمي واقعيا إلى اقتصادين: اقتصاد يضم الدول المتقدمة (الولايات المتحدة، وأوروبا، واليابان)، والذي يعاني مستويات عالية من الدين الحكومى، ارتفعت نسبتها إلى إجمالي الناتج القومي في هذه الدول مجتمعة من 46% عام 2007، إلى 70% عام 2011، ومن المنتظر أن تصل إلى 80% عام 2016، كما يعاني أيضا من تراجع في النمو والإسهام في إجمالى الناتج العالمى، حيث كان نصيب الولايات المتحدة أكبر اقتصادات العالم، على سبيل المثال، 8% فقط من الزيادة التي حدثت في الناتج العالمي بين عامى 2007 و2011.
أما الاقتصاد الثانى، فيضم دول الاقتصادات الصاعدة، وعلى رأسها الصين، والتي أسهمت مجتمعة بنسبة 66% من زيادة إجمالى الناتج العالمى بين عامى 2007 و2011، ولم تتجاوز نسبة دينها الحكومي إلى الناتج القومي 28% عام 2007، انخفضت إلى 26% في 2011، ومن المنتظر أن تنخفض إلى 21% بحلول عام 2016.
يفسر المحللون هذا الانقسام بأن النموذج الرأسمالي الغربي، الذي صنع موجة الرخاء الاقتصادي بين عامي 1980 و2008، قد تحطم، حيث إن قدرته على إنتاج وبيع السلع والخدمات قد تجاوزت بمراحل قدرة المستهلكين على الاقتراض والإنفاق، وهو بذلك عاجز عن تحقيق النمو، وتوفير فرص العمل وتحقيق مستويات معقولة من الدخل لمواطنيه.
تتجسد هذه الانقسامات السياسية والاقتصادية بشكل واضح في الواقع الأوروبي. فالاقتصادات الأوروبية أيضا انقسمت إلى فريقين، فريق يتمتع بقوة مالية واقتصادية، وعلى رأسه ألمانيا، أما الفريق الأخر فيعاني مشكلات الديون وتباطؤ النمو، وارتفاع معدلات البطالة وغيرها من المشاكل.وبالرغم من قوة ألمانيا اقتصاديا، فإنها تعزف عن لعب دور الدولة "القائدة" للمشروع الأوروبي، وتعكس مواقفها من الأزمة اليونانية رفضها لتحمل التبعات الاقتصادية للحفاظ على وحدة اليورو والاتحاد الأوروبي.
غياب الإرادة السياسية
وهناك ما يشبه الإجماع بين المحللين على أن تفاقم الأزمة اليونانية جاء لأسباب سياسية في الأساس. فقد أوضح عالم الاقتصاد جوزيف ستيجلتز، على سبيل المثال، فإن الاقتصاد الأوروبي، الذي يبلغ حجمه 16 ألف مليار دولار، يستطيع استيعاب عبء الدين اليونانى بأكمله، إذا توافرت الإرادة السياسية، ويمكن أن يتحقق ذلك عن طريق سندات يطرحها البنك المركزى الأوروبى، مدعومة من كل الحكومات الأوروبية، توفر دعما ماليا لليونان بفوائد منخفضة، تمكنها من التعامل مع مشكلة الديون بشكل أكثر عملية وأقل تكلفة على المستوى الاجتماعي والسياسي.
لكن حكومات الدول الأوروبية الأكثر ثراء ليست مستعدة لتقديم مثل هذا الدعم الواضح، والذي يلاقى معارضة شعبية على المستوى الداخلي، في ظل تزايد الإحساس "بعدم الثقة" في المؤسسات الأوروبية لدى العديد من الشعوب، خاصة ألمانيا، ورفض هذه الشعوب تحمل التبعات المالية لدعمها. لذلك أصرت حكومات هذه الدول على أن تتخذ الحكومة اليونانية إجراءات تقشفية حادة، أدت إلى تراجع في النمو الاقتصادي، وبالتالي تناقص دخل الدولة، وتراجع قدرتها على الوفاء بمتطلبات الدين.كما كان لهذه الإجراءات تداعيات اجتماعية شديدة، أدت إلى تصاعد الغضب الشعبى، واندلاع الإضرابات والمظاهرات التي تهدد الاستقرار السياسي والاقتصادي.والمفارقة أن تصاعد الأزمة اليونانية سوف تكون تكلفته الاقتصادية على أوروبا والعالم أكبر بكثير مما لو كانت الدول الأوروبية قد قدمت الدعم المالي المناسب في الوقت المناسب.
لقد أصبح واضحا أن اليونان لن تستطيع الوفاء بالتزامات الدين في الوضع الحالي، وأنها سوف تضطر لإعلان ذلك، أى إعلان إفلاسها، وبالتالى قد تنسحب من اليورو، وتعيد إصدار عملتها المحلية، لكى تستعيد القدرة على إصدار النقود وإنقاذ اقتصادها من الانهيار الكامل. وسوف تتكبد اليونان خسائر في ذلك، قدرها تقرير لبنك UBSبنحو50% من إجمالي ناتجها القومي في العام الأول، ناهيك عن التداعيات على المصارف اليونانية والأوروبية، التي سوف تتكبد خسائر، نتيجة انهيار قيمة ما تملكه من سندات حكومية يونانية. وسوف يمتد آثار ذلك الانهيار إلى شبكة المصارف العالمية، التي لها معاملات مع هذه البنوك، بما يصاحبه من خطر اندلاع أزمة سيولة على مستوى الجهاز المصرفي عالميا.
من ناحية أخرى، سوف يثير تراجع اليونان عن سداد ديونها المخاوف بشأن قدرة اقتصادات أكبر، مثل إيطاليا وإسبانيا، على الوفاء بالتزامات ديونها السيادية أيضا. وقد أدت هذه المخاوف بالفعل إلى إعادة تصنيف الموقف الائتمانى لإيطاليا، مما يرفع من سعر الفائدة الذي تستطيع الاقتراض به من القطاع الخاص.
وتشير تقديرات صندوق النقد الدولى إلى أن إيطاليا ستحتاج خلال عام 2012 إلى اقتراض مبالغ توازى ربع إجمالى ناتجها القومى لمواجهة أعباء ديونها، وأن إسبانيا وفرنسا ستضطر كل منهما إلى اقتراض مبالغ توازى خمس إجمالي ناتجهما القوميين في العام نفسه. وسيؤدى ذلك كله إلى المزيد من الانقسام بين دول الاتحاد الأوروبى، وإلى احتمال خروج عدة دول من الوحدة النقدية الأوروبية. ولأن اليورو كان بالأساس مشروعا سياسيا يهدف إلى دعم الوحدة الأوروبية، فسوف يكون لكل ذلك تداعيات سلبية على المشروع الأوروبي كله.
الصين و"مصيدة الدولار"
يتكرر نموذج غياب القيادة على مستوى النظام الدولى ككل، حيث تبدو الصين أيضا عازفة عن التدخل لتفادى تفاقم الأزمة، رغم أن لها مصلحة اقتصادية في دعم اليورو. فاستمرار اليورو كعملة قوية في الاقتصاد العالمي يشكل مخرجا لها من "مصيدة الدولار"، الذي يقدر المحللون أنه يشكل نحو ثلث فوائض الصين من النقد الأجنبى.من ناحية أخرى، فالاتحاد الأوروبى هو ثانى أكبر شريك تجارى للصين، وسوف تؤثر تداعيات الأزمة الأوروبية بلا شك سلبيا في المصالح التجارية الصينية.
يأتى الموقف الصينى، بحسب ياو يانج مدير مركز الصين للبحوث الاقتصادية بجامعة بكين، بناء على رؤية مفادها أن الأزمة اليونانية لم تنتج عن مشكلة سيولة، ولكن عن غياب الإرادة السياسية الأوروبية في تحمل الأعباء اللازمة لتجاوزها.
وترى الصين أن على الدول الأوروبية، خاصة ألمانيا، تنحية مصالحها الضيقة جانبا، وتغليب المصلحة الأوروبية العامة، قبل أن تطلب الدعم من خارج أوروبا. من ناحية أخرى، تدرك الصين أن الاستثمار في السندات الحكومية اليونانية أو الإيطالية قد أصبح محفوفا بالمخاطر، ولن تقبل عليه إلا إذا حصلت على ضمانات قوية من ألمانيا وفرنسا، وهو ما لا يبدو أن الدولتين على استعداد لتقديمه.
وما بين فشل النموذج الاقتصادي في تحقيق النمو، وتراخى الدول الأوروبية الغنية عن اتخاذ إجراءات حاسمة لتقديم الدعم المالى للدول الأقل حظا، أصبحت أوروبا بين شقى الرحى: الكساد والبطالة والديون من ناحية، وتهديد المؤسسات المالية برفع أسعار الفائدة على القروض وانهيار البورصات من ناحية أخرى.
يعكس التأثير المتصاعد لأسواق المال على القرار السياسى للحكومات الغربية أحد ملامح النظام الرأسمالي العالمي الذي تتحرك فيه التريليونات من الدولارات عبر الحدود دون رقيب أو حسيب، مخلفة آثارا تدميرية. لقد أصبح ضغط المؤسسات المالية هو الحافز الأكبر لتحرك الحكومات، فقد سارع البنك المركزى الأوروبى بالتعهد بمساندة البنوك المتضررة من أزمات الديون السيادية في أوروبا، رغم تقاعسه عن تقديم الدعم للآلاف من المواطنين الأوروبيين الذين تضرروا بشدة من الإجراءات التقشفية المفروضة عليهم.
لقد ارتفعت أصوات المحللين والسياسيين في أوروبا والولايات المتحدة، داعين قادة أوروبا لأخذ مواقف إيجابية تعيد "الثقة" إلى أسواق المال، حيث إن أزمة الثقة هذه قد تدفع البنوك إلى التوقف عن تقديم القروض، وتدعم الاتجاه إلى نقل المدخرات باليورو من الدول "الضعيفة" إلى الدول "القوية"، مما سوف يكون له تداعيات شديدة السلبية.
شبح " الكساد الكبير"
يشكل الاقتصاد الأوروبي ككل كتلة اقتصادية أكبر من الاقتصاد الأمريكي أو الصيني، وسوف يكون لاندلاع أزمة مصرفية، بما لها من تداعيات اقتصادية، أثر كبير على الاقتصاد العالمى برمته، مما سيدفع الكثير من الدول إلى اتخاذ إجراءات لحماية عملاتها واقتصادها، مما يهدد بانهيار النظام التجارى العالمى.
وقد اتخذت اليابان وسويسرا إجراءات لحماية أسعار عملتيهما بالفعل. كما بدأت البرازيل في اتخاذ إجراءات لحماية صناعتها الوطنية عن طريق فرص رسوم إغراق على الواردات من دول أخرى مثل الصين. وتبدو الولايات المتحدة أيضا عازمة على الاتجاه في الطريق نفسه.
تثير هذه الإجراءات مخاوف المحللين من تكرار أخطاء الثلاثينيات من القرن الماضى، حيث تسببت الإجراءات الحمائية بعد الأزمة المالية لعام 1929 في تراجع معدلات التجارة العالمية، وفي سقوط العالم في براثن "الكساد الكبير".لهذا السبب، تتعالى تحذيرات الساسة والاقتصاديين من مختلف أنحاء العالم بأن غياب القيادة السياسية الفعالة يدفع العالم إلى حافة الهاوية، كما ينادون بضرورة تغليب المصلحة العامة وعودة التنسيق السياسى الفعال على المستوى الدولى.
وعلى سبيل المثال، نبه جوردون براون، رئيس وزراء بريطانيا السابق، إلى أن الطريق نحو تحقيق النمو والقضاء على البطالة لن يكون من خلال مبادرات فردية من كل دولة على حدة، بل من خلال تنسيق السياسات على المستوى الدولى، حيث إن للجميع مصلحة مشتركة في ذلك.
ويقول براون "منذ عشر سنوات، كانت قاطرة الاقتصاد الأمريكى قادرة على قيادة الاقتصاد الدولى. وبعد عشر سنوات من الآن، سوف تلعب الاقتصادات الصاعدة هذا الدور. ولكن في الوقت الحالي، فإن الولايات المتحدة وأوروبا عاجزتان عن زيادة الإنفاق الاستهلاكى، بدون زيادة الصادرات، بينما الصين والاقتصادات الصاعدة الأخرى لن تستطيع بسهولة زيادة معدلات الإنتاج أو الاستهلاك بدون ضمان أسواق غربية قوية".
عقب اندلاع الأزمة المالية العالمية، تصدر غلاف مجلة فورين بوليسى الأمريكية (عدد مارس/أبريل 2009)، عنوان يتنبأ بحلول عصر جديد من "الاضطرابات العظيمة" نتيجة لتراجع الهيمنة الأمريكية من ناحية وعدم استقرار الاقتصاد العالمى من ناحية أخرى. استعرض الملف عدة دول مرشحة للوقوع في مثل هذه الاضطرابات، لكنها لم تتضمن أى دولة من العالم "المتقدم". واليوم، تبدو اليونان، نتيجة للانقسامات العميقة التي يعانيها النظام الدولي، وغياب التعاون الدولي الرشيد في مواجهة الأزمات المالية والاقتصادية، مرشحة لأن تكون أول دولة تنضم إلى قائمة الدول "الفاشلة" بسبب إنعدام سيطرتها على مقدراتها المالية والاقتصادية. وسوف تكون بذلك أيضا أولى ضحايا "اللانظام" العالمى الجديد.