في 27 فبراير المقبل، تتجدد ذكرى رحيل جنرال الثقافة المصري د. ثروت عكاشة ( الذكرى العاشرة ) .. و"عكاشة" هو من قال عن نفسه في مذكراته بـأنه "صاحب رأي انتقائي، تمليه ميوله الليبرالية"، وهو من نجح في تأسيس بنية ثقافية مؤسساتية شاملة ذات طابع تعليمي وأكاديمي تربوي تسعى إلى نشر الوعي الثقافي عبر تأسيس معاهد وأكاديميات متخصصة، وهو من جعل من أولوياته السعي لجعل هوية مصر الثقافية تعددية مع الانفتاح على الثقافة الغربية ومؤسساتها العالمية.
خلال عهده، تأسست وزارة الثقافة كمؤسسة وكيان مثالي وطني مُلهم لكل شعوب المنطقة، وأنشأ المجلس الأعلى للثقافة (المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب وقتها)، و"الهيئة العامة للكتاب"، و"أكاديمية الفنون"، و"دار الكتب والوثائق القومية"، وفرق دار الأوبرا المختلفة، والسيرك القومي ومسرح العرائس، و"جهاز الثقافة الجماهيرية".
وهو أول من اهتم باستقدام خبراء عالميين لجمع التراث المصري، إضافة إلى الدور الذي قام به في توجيه نداء عالمي لإنقاذ آثار النوبة بعد تأسيس السد العالي وإعادة بناء معبد أبوسمبل في أسوان، وتأسيس مشروع "الألف كتاب" الذي كان معنياً بنشر الترجمات.
في كل موقع شغله، وفي كل مجتمع فكر له ومن أجله عمل وأخلص، كانت أمارات التميز الفكري والممارسة الوطنية بارزة تشهد له بالكفاءة .. كقائد لسلاح الفرسان وأحد الضباط الأحرار، وكملحق عسكري لمصر في باريس، ثم كسفير لمصر في روما ... وهو أيضًا مبدع وباحث مستنير( إنجازات عكاشة الإبداعية كموسوعة "العين تسمع والأذن ترى" وموسوعة "عصر النهضة"، وكمترجم لكتاب “فن الهوى” .. وغيرها من الأعمال المرجعية ) ... هو د. ثروت عكاشة أحد أهم البنائين الكبار في تاريخ المؤسسة الثقافية والمحرك الدافع للعمل التنويري في مصر الحديثة.
ولعل مناسبة الذكرى العاشرة على رحيل ذلك الوزير الرائد والأروع في تاريخ وزارة الثقافة المصرية تدعونا لاستدعاء ما يمكن أن نطلق عليه "الضمير الثقافى" لثورة يوليو المجيدة، وهو ما تحقق فى إنجازات ومآثر وإبداعات الراحل المثقف الموسوعي الدكتور ثروت عكاشة كوزير تنفيذي، ومفكر، وصاحب رؤية سياسية وتنويرية بدعم ومساندة جمال عبدالناصر قائد الثورة ورئيس الدولة .. فكان مشروع إنقاذ آثار النوبة ومعابد أبوسمبل وفيلة من الغرق فى أثناء تنفيذ مشروع السد العالى، وأن يقيم صرحا عملاقا مثل أكاديمية الفنون بمعاهدها في فنون الباليه والكونسرفتوار والسينما والفنون المسرحية ونشر قصور للثقافة والإبداع لتقديم خدمة ثقافية لن ينساها التاريخ لعظيم دورها لمرتاديها من الشباب كبيوت ومؤسسات لتنمية الوعي الثقافي والفني في تلك الفترة التي شهدت زخمًا رائعًا في ممارسة الأنشطة الإنسانية البديعة.
ويروي الدكتور ثروت عكاشة لنا ما دار في المقابلة التي أسند إليه فيها جمال عبد الناصر منصب وزير الثقافة قائلاً: "حين ذكرت لناصر عزوفي عن المناصب التي تشوبها صراعات على السلطة والنفوذ وما يتبعها من مضيعة الوقت والجهد، وأني أنفر من الخوض في غمارها، لأنها تستنفد طاقات مهدرة، أجابني عبد الناصر قائلاً: أصارحك بأني لم أدعوك لشغل وظيفة شرفية، بل إنني أعرف أنك ستحمل عبئًا لا يجرؤ على التصدي لحمله إلا قلة من الذين حملوا في قلوبهم وهج الثورة حتى أشعلوها، وأنت تعرف أن مصر الآن كالحقل البكر، وعلينا أن "نعزق" تربتها ونقلبها ونسويها ونغرس فيها بذورًا جديدة لتنبت لنا أجيالاً تؤمن بحقها في الحياة والحرية والمساواة فهذا هو العناء، وهذا هو العمل الجاد، على نحو ما ذكر "فرجيل" في إلياذته، وأنني اليوم أدعوك أن تقبل على هذا العناء، وذلك العمل الجاد، وأن تشمر عن ساعد الجد وتشاركني في "عزق" الأرض القاحلة وإخصابها، إن مهمتك هي تمهيد المناخ اللازم لإعادة صياغة الوجدان المصري، وأعترف أن هذه أشق المهام وأصعبها، وأن بناء آلاف المصانع أمر يهون إلى جانب الإسهام في بناء الإنسان نفسه".
كان د. عكاشة يردد دومًا أن الثقافة الإنسانية ليست ملكا لفئة دون أخرى، وأن المثقفين ليسوا إلا أمناء عليها وحملة لها، وهم مكلفون بإيصالها إلى مواطنيهم، لأن الثقافة لا تعيش إذا قطعت عن جذورها، وبقيت سجينة بضع صفحات، وعودة الثقافة إلى الجماهير هي وسيلة إلى تنميتها وازدهارها .
وفي واقع الأمر كانت الثقافة "بعافية " في بعض فترات الحكم المباركي، حيث تراجع دور قصور الثقافة وتم إغلاق بعضها ووقف العمل بعدد منها، وحدوث محرقة قصر ثقافة بني سويف الذي اتهم فيها رئيس الهيئة وحكم عليه بعشر سنوات سجن، وتمت تبرئة ساحته، وتقديم وزير الثقافة استقالته وتراجعه وعودته لعمله في ذات الأسبوع وبس!!... كما اختفت في ذلك العصر العديد من دور العرض السينمائية، والخيبة الأكبر اختراع موضة "سينما المقاولات" .. أما الكارثة البشعة، فقد تمثلت في إقامة تماثيل ميادين كبرى لعدد من رموز الفن والتنوير غاية في البشاعة، وبدلًا من المبادرة والتصدي لتلك الظاهرة، خرج المسئول الثقافي قائلًا "أجيب لكم" محمود مختار "منين في زماننا ده" رغم وجود عدد من النحاتين العباقرة، ورغم عدم تحرك الوزارة للتصدي لظاهرة غلق أقسام النحت في بعض كليات الفنون عبر وصايا متشددة !!!
وعليه، فإن أمر تطوير الخطاب الثقافي، الذي يدعو إلى تطويره وتفعيله الرئيس عبدالفتاح السيسي كخطاب حضاري، بات ضرورة على المستوى الداخلي، وفي بعده الخارجي لانعكاسه على رؤية العالم لحجم التغيير والتطوير الهائل الذي يحدث على الأرض في مجال بناء الإنسان، ونحن على عتبات جمهورية جديدة يتطلب منا ومن كل الأجهزة والمؤسسات المعنية المزيد من الجهود لدعم رسائل التنوير .. نأمله خطاب متجدد عصري، وأن يتم مراجعة ذلك الخطاب في كل مراحل تفعيله ورسائله ودعم مقارباته الفكرية الإيجابية لإقرار صلاحية اعتماده لتمثيل وطن قرر فيه الشعب أن يعيش المستقبل.
رابط دائم: