.أثارت موجة الانتفاضات الشعبية التى تشهدها الدول العربية، ونجاحها في إسقاط ثلاثة أنظمة سلطوية (نظام "بن على" في تونس، و"مبارك" في مصر ، و"القذافي" في ليبيا)، مع تهديدها مستقبل أنظمة أخرى لا تزال مسيطرة على مقاليد الحكم، كثيرا من التساؤلات التي شغلت الباحثين الغربيين، بل والعرب على حد سواء، حول احتمالات أن تشهد الدول الخليجية ذات الوفرة النفطية ثورات تهدد عروش أنظمتها الحاكمة. وزادت جدية تلك التساؤلات مع بداية الاحتجاجات الشعبية التى شهدتها مملكة البحرين، وإمكانية انتقال إرهاصاتها الى دول خليجية أخرى ذات احتياطيات عالية من النفط.
وفى إطار الإجابة على العلاقة بين النفط والثورات العربية، وما إذا كان النفط عائقا أمام نجاح الثورات الشعبية في الدول ذات الوفرة النفطية، أم عاملا محفزا للخروج على الأنظمة السلطوية النفطية، نشرت مجلة الشئون الخارجية Foreign Affairsفي عددها الأخير عن شهري سبتمبر/أكتوبر دراسة لـ"مايكل روس Michael L. Ross" تحت عنوان "هل سيقوض النفط الربيع العربي؟ Will Oil Drown the Arab Spring?" ، وبعنوان فرعي "الديمقراطية ولعنة المواردDemocracy and the Resource Curse".
تنبع أهمية الدراسة من اعتبارين، يتمثل أولهما في موضوعها ذاته، فالدراسة تتناول بعدا جديدا يُحدد مدى نجاح أو إخفاق الثورات العربية، وهو محدد النفط في وقت تتسم فيه الدراسات البحثية بندرتها لبحث هذا المحدد، لاسيما العربية منها. وتتمثل الأهمية الثانية في كاتب الدراسة "مايكل روس"، فهو أستاذ جامعي متخصص في الاقتصاد السياسي، ومؤلف كتاب سيصدر قريبا عن النفط وتنمية الدول تحت عنوان "لعنة النفط.. كيف ستشكل الثورة النفطية تنمية الدول؟The Oil Curse: How Petroleum Wealth Shapes the Development of Nations".
وركزت الدراسة على ثلاث أفكار رئيسية، تتمثل أولاها في مدى تأثير النفط فى بقاء الدول النفطية السلطوية. أما ثانيتها فهي إمكانية تحولها إلى أخرى ديمقراطية، وأخيرا كيفية التخلص من النفط كأحد أسباب قوتها ، وأحد العوامل التي تركن إليها لاحتواء ضغوط التحول الديمقراطي.
النفط وتحدي التحول الديمقراطي
بداية، يربط "روس" بين تمتع الدول بالوفرة النفطية والحريات التى يتمتع بها مواطنوها، فيرى أن منطقة الشرق الأوسط لم تكن إلا كتلة متنوعة من النظم الاستبدادية، مع اختلاف شكل النظام الاستبدادي من دولة لأخرى ، وأن الدول الفقيرة نفطيا، كمصر وتونس، تمتع مواطنوها بحريات أكبر من تلك التى تمتع بها مواطنو الدول السلطوية ذات الوفرة النفطية، مثل المملكة العربية السعودية، والكويت، وليبيا.
وتشير الدراسة إلى كيفية استخدام الدول ذات الوفرة النفطية عائداتها المتنامية من النفط في التصدي لموجة الديمقراطية الثالثة التى اكتسحت دول العالم، مع بدايات انهيار الاتحاد السوفيتي السابق في نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن المنصرم. وقد أجمل الكاتب هذا في توجهين مركزيين، هما:
أولا:ساعدت الثروة التى حققتها الدول النفطية - لأسباب سنذكرها لاحقا - من مبيعات مورد النفط في سوق الطاقة العالمي على "شراء مواطنيها" من خلال تقديمها لبعض المنافع وإلغاء الضرائب. فقد ساعد توجه الدول ذات الوفرة النفطية لإلغاء الضرائب على عدم مطالبة شعوب تلك الدول بالتزام حكوماتهم بالشفافية، ومن ثم محاسبتها ومساءلتها، وهي السياسة التى بدأت الدول الخليجية النفطية في تنفيذها مع بداية الانتفاضات الشعبية العربية بدايات هذا العام.
ففي هذا السياق، أعلنت الجزائر عن تقديم خطط استثمارية بقيمة 156 مليار دولار للبنية التحتية الجديدة، وإعفاء الضرائب على السكر. وأعلنت السعودية عن استثمار 136 مليار دولار لزيادة الرواتب في القطاع العام وإعانات الإسكان والبطالة. وأعلنت الكويت عن إعطاء مواطنيها 1000 دينار، وتقديم وجبات مجانية. في الوقت الذي لم تنجح في محاولات دول سلطوية أقل إنتاجا للنفط ، ومن ثم أقل ثروة، مثل مصر وتونس، بتقديم بعض الخدمات والإصلاحات لمواطنيها، لأنها لم ترق لمتطلبات شعبيهما.
ثانيا: قيام الدول الغنية بالنفط بشراء ولاء جيوشها وقياداته. فتكشف الدراسة عن أن هذه الدول تُقدم أموالا باهظة للحفاظ على ولاء المؤسسة العسكرية. وقدمت الدراسة العديد من الأمثلة على ذلك، فتشير إلى إنفاق الرئيس الإيراني الحالي "أحمدي نجاد" مليارات الدولارات على الحرس الثوري الإيراني في صورة عقود بدون مناقصات لشركات لها علاقة بالحرس الثوري. وتنفق الجزائر أيضا ما يعادل 141 دولارا لكل فرد من قواتها المسلحة، على عكس تونس القريبة منها ، والتي تنفق 53 دولارا لكل فرد. وهذا التوجه ساعد في أن تخمد البحرين والكويت المظاهرات في بدايتها. ويشير "روس" إلى أن الدول السلطوية عامة تنفق ما يعادل 2% من إجمالي الناتج المحلى لمصلحة المؤسسة العسكرية، بينما تنفق الدول السلطوية الغنية بالنفط نحو3% من الناتج المحلى.
ومن ثم، يشير "روس" لمجموعة من العوامل التى ساعدت على زيادة نفوذ الدول السلطوية الغنية بالنفط وزيادة الثروة المالية التى حققتها من وراء احتياطياتها النفطية، منذ نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن المنصرم، والتي أجملها الكاتب في ثلاثة عوامل، هي على النحو التالي:
أولا:-اتجاه الدول الصناعية الكبرى لمورد النفط كمصدر رئيسي للطاقة وثورتها الصناعية؛ ومن ثم زاد التنافس الدولي على تلك الدول النفطية، وتوجه كبريات الشركات الأجنبية المتخصصة في مجال الطاقة لتلك الدول للحصول على مورد النفط، وتصديره إلى السوق العالمي الذي أضحى متعطشا للنفط منذ سبعينيات القرن الماضي.
ثانيا:-حظر تصدير النفط من جانب دول الخليج أثناء حرب أكتوبر 1973، والذي ساعد على ارتفاع أسعاره العالمية من 2.5 دولار للبرميل عام 1972 إلى نحو 12 دولارا في عام 1974.
ثالثا:-تأميم الدول النفطية لكثير من الشركات الأجنبية العاملة في مجال الطاقة. ففي ليبيا، ساعد الانقلاب العسكري بقيادة "معمر القذافى" على تأميم الشركات النفطية الذي رفع الناتج المحلى الإجمالي الليبي الذي أعيد استخدامه في تمويل أجندته الثورية، وشراء نفوذ القبائل لمصلحته. وساعد التأميم على أن تصبح هذه الحكومات أكثر ثراء من قبل، ومن ثم إرضاء مواطنيها.
النفط كعائق للتحول الديمقراطي
سعى "روس" خلال سطور دراسته للإجابة على تساؤل رئيسي، مفاده: هل يمثل النفط عائقا أمام ضغوط التحول الديمقراطي في الدول ذات الوفرة النفطية؟. وفي إطار الإجابة على هذا التساؤل المركزي للدراسة، يرجع الكاتب إلى الخبرة التاريخية، فيشير إلى أن بعض الدول الغنية قد نجحت في التحول نحو الديمقراطية مثل إندونيسيا، ونيجيريا، والمكسيك. ولكنه أشار إلى أن هذه الدول تختلف عن نظيرتها الشرق أوسطية ذات الوفرة النفطية في أنها دول معتدلة بالأساس ، كما أنه لم تكن لديها ثورة نفطية باهظة مثل تلك التى تتمتع بها الدول الخليجية، كما أن أسعار النفط حينها لم تكن مرتفعة، كما هو الحال عليه خلال العقد الأخير.
لا ينفى "روس" حقيقة إمكانية نجاح هذه الدول فى التعرض لثورات داخلية ونجاحها أيضا، خاصة مع ظهور ثورة التكنولوجيا والمعلومات. ولكنه يرى أنه حال سقوط هذه الدول، فإن القيادات الجديدة قد لا تنجح في عملية التحول نحو الديمقراطية، نتيجة لقيام القيادات السابقة في بناء شبكات حماية للوقيعة بين مؤيدي ومعارضي النظام، وصعوبة ظهور مجتمع مدني قوى يستطيع صد عودة هذه النظم من جديد، بالإضافة للتزايد المطرد في أسعار النفط، بما يعنى أنه سيظل مصدر إغراء لبقاء الأنظمة سلطوية.
وهو الأمر الذي قام به الرئيس الفنزويلي "هوجو شافيز"، حيث أقام مشروعات قومية كبيرة لتعزيز شعبيته من خلال ارتفاع عوائد النفط؛ ومن ثم حافظ على ولاء شعبه والجيش أيضا، وتخلص من عناصر النظام القديم.
تحييد النفط في التحول الديمقراطي
قدم "روس" مجموعة من المقترحات لتحييد أهمية النفط في الدول السلطوية ذات الوفرة النفطية، ومن ثم إنجاح ضغوط التحول الديمقراطي بها، ولخصها في ثلاثة مقترحات، هي كالآتي:
أولا:تخفيض أسعار النفط في سوق الطاقة العالمي، ومن ثم تخفيض تدفق الأموال لهذه الدول السلطوية. ويعول الكاتب في هذا الصدد على الدول الصناعية الكبرى، التي يأتي في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية - التى تعد أكثر الدول استهلاكا للنفط – والصين. ففي عام 2009، استهلكت الأولي ضعف استهلاك الثانية من النفط. ومن ثم يكون للولايات المتحدة دور كبير في تخفيض استهلاك النفط، وتخفيض أسعاره ، ومن ثم تقويض النظم الاستبدادية المنتجة للنفط.
ويعد تخفيض استهلاك النفط من أكثر الوسائل فعالية بخلاف العقوبات التى تستهدف تلك الدول السلطوية ذات الوفرة النفطية؛ حيث يمكن للولايات المتحدة مقاطعة منتجي الدول السلطوية المنتجة للنفط، ولكن هذه النظم قد تصدرها لدول أخرى تشتريها بالثمن نفسه أو حتى أقل.
فمن الجدير بالذكر أن مجلس الأمن فرض عقوبات صارمة على مبيعات النفط العراقي ما بين 1990و2003، ولكن هذا لم يساعد على تخفيف قبضة صدام على الحكم في العراق. وكلما تزايدت أسعار النفط، أصبحت العقوبات أقل تأثيرا.
ثانيا:أن تعمل الدول الكبرى المستهلكة للنفط على شفافية سوق النفط ؛ ومن ثم عجز الدول النفطية السلطوية على شراء مواطنيها ، وصعوبة استخدام أموال الدولة للكسب غير المشروع.
ثالثا:قيام الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي بمطالبة الشركات النفطية الكبري بالكشف عن مدفوعاتها للحكومات الأجنبية للوصول الى المصادر الطبيعية، ولكن هذا الاقتراح له عائق يكمن في عجز الولايات المتحدة عن إجبار الشركات الأجنبية للكشف عن مدفوعاتها للحكومات من أجل الوصول إلى مصادر الطاقة، فضلا عن حاجة المجلس الدولي لمعايير المحاسبة International Accounting Standards Boardومقره لندن لإعادة مراجعة إجراءات المحاسبة، حيث لا تخضع شركات النفط والتعدين للكشف عن مدفوعاتها للحكومات الأجنبية
واختتمت الدراسة بالقول إن النفط سيظل من أكثر عوائق الإصلاح الديمقراطي في الدول المنتجة له، ما دامت الأسعار دائما في ارتفاع، نتيجة لتزايد الطلب، وتحسين تكنولوجيا الحفر.