اجتمعت العديد من التطورات السياسية والأمنية والاقتصادية لتفرض تحولاً مهماً في الخريطة الجيوسياسية لمنطقة التقاء قارات العالم القديم الثلاث، آسيا وإفريقيا وأوروبا، الأمر الذي عجل بظهور مؤشرات قوية على تشكل دائرة استراتيجية جديدة تمثل نقطة تقاطع العديد من المصالح الدولية والإقليمية، والتي يقع في القلب منها البحر الأحمر ومنطقة شرق البحر المتوسط، وهما الدائرتان اللتان كان ينظر إليهما تقليدياً كنطاقين مستقلين، قبل أن يصبحا أكثر ارتباطاً في السنوات الأخيرة من ناحية التفاعلات الدولية، بجانب الاتصال الجغرافي القائم بالفعل عبر قناة السويس.
ويدل على هذا الارتباط المتنامي عدد من المؤشرات، أولها الارتفاع الكبير في قيمة الأصول المختلفة التي تتنافس حولها القوى الدولية والإقليمية في المنطقة، سواء فيما يخص الموانئ، أو موارد الطاقة، أو مواقع القواعد العسكرية البحرية. وثانيها تعدد قائمة المتنافسين الدوليين والإقليميين في منطقة شرق المتوسط والبحر الأحمر، بحيث أصبحت تضم تقريباً مختلف القوى الدولية الرئيسية، وعدداً كبيراً من اللاعبين الإقليميين.وثالثها التغير الطارئ على استراتيجيات العديد من الدول المتنافسة في الإقليم، بحيث أصبحت تعكس فهماً أعمق للارتباط بين شرق المتوسط والبحر الأحمر، ومحاولة توظيف هذا الارتباط في تعزيز الحضور والتضييق على المنافسين.
أهمية منطقة شرق المتوسط - البحر الأحمر:
تظهر ثلاثة مؤشرات رئيسية تؤكد تنامي أهمية إقليم شرق المتوسط-البحر الأحمر، والتي تتضمن تزايد الأهمية بالنسبة للملاحة الدولية، والارتفاع الكبير في قدرة المنطقة على توفير موارد الطاقة، واهتمام العديد من الدول بتـأمين حضورها العسكري في هذه الدائرة الاستراتيجية.
موارد الطاقة:
تصاعدت أهمية موارد الطاقة المكتشفة مؤخراً في كل من حوض البحر الأحمر وشرق البحر المتوسط. ففي البحر الأحمر ساهم توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية عام ٢٠١٦ في جذب اهتمام كبير للعديد من الشركات الدولية للتنقيب في المياه الإقليمية المصرية بعد أن تم إرساء ثلاثة قطاعات للتنقيب في البحر الأحمر على شركات شيفرون الأمريكية، وشل الهولندية، ومبادلة الإماراتية في نهاية ديسمبر من عام ٢٠١۹، حيث تنقب الشركات الثلاث عن النفط والغاز في منطقة تبلغ مساحتها الإجمالية عشرة آلاف كيلومتر مربع.وتمتد الاكتشافات النفطية الجديدة على ساحل البحر الأحمر، وصولاً لخليج عدن، حيث تمكنت شركتا جينيل وراك جاس من وضع أرض الصومال على خريطة منتجي النفط في شرق إفريقيا بعد التأكد من وجود احتياطيات ذات جدوى اقتصادية في عام ٢٠١۹، فضلاً عن عقد الحكومة الصومالية مؤتمراً للترويج لفرص التنقيب في مياهها الإقليمية عن النفط والغاز في لندن مطلع عام ٢٠١۹، وبعيداً عن النفط والغاز، تم رصد وجود كميات كبيرة من اليورانيوم على أعماق محدودة من سطح الأرض في إقليم مدغ الصومالي.
ويشهد الوضع في شرق المتوسط تحولاً كبيراً منذ نشر هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية تقديرات في عام ٢٠١٠ تشير بأن شرق البحر المتوسط يحتوي على ١٢٢ تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي، بالإضافة إلى ما يقرب من مليارى برميل احتياطي من النفط، لتبدأ إسرائيل في العام نفسه في التنقيب في حقلي تمار وليفاياثان، قبل أن تتبعها باقي دول الإقليم التي شهدت طفرة كبيرة في عمل شركات التنقيب، خاصة منذ الإعلان عن اكتشاف حقل ظُهر في المياه الإقليمية المصرية، وحقل أفروديت في المياه الإقليمية القبرصية.
القواعد العسكرية:
توجد أهمية كبرى لمنطقة شرق المتوسط والبحر الأحمر كممرات رئيسة دولية بعد أن أصبح الحضور العسكري لقوى دولية ظاهرة معتادة، حيث تستقر قيادة الأسطول السادس الأمريكي قبالة سواحل نابولي الإيطالية، بينما تتمركز قيادة الأسطول الخامس الأمريكي في المياه الإقليمية للبحرَيْن، مع انتشار متزايد للقطع البحرية الأمريكية في البحر الأحمر. لكن اللافت أن العديد من التطورات دفعت باتجاه احتدام المنافسة بين أطراف دولية متعددة على امتلاك قواعد عسكرية في البحرين المتوسط والأحمر. فمن ناحية، تسعى روسيا للحصول على مراكز استقرار في البحار الدافئة. ومن ناحية أخرى، أصبحت دول، مثل الصين، واليابان، والهند أكثر حرصاً على ضمان قدرتها على تأمين سفنها التجارية في ظل تنامي حجم اقتصادها وتجارتها الدولية.
الملاحة الدولية:
يعزز من تنامي أهمية البحر الأحمر الاستراتيجية كممر ملاحي دولي رئيسى النمو السكاني والاقتصادي المتسارع لدوله، حيث تقدر الأمم المتحدة أنه بحلول عام ٢٠٥٠سيتجاوز عدد سكان دول البحر الأحمر المليار نسمة، مع بلوغ حجم الناتج المحلي لهذه الدول ثلاثة أمثال حجمه الحالي المقدر بأقل من تريليوني دولار، حيث يتوقع أن يتجاوز الستة تريليونات دولار سنوياً، بينما يتوقع أن يرتفع حجم التجارة العابرة للبحر الأحمر من ۹٠٠ مليار دولار إلى نحو ست تريليونات دولار. هذه الزيادة تدفعها جهود دول الإقليم والدول المستثمرة فيه في تعزيز البنية التحتية للنشاط الاقتصادي، وهو الأمر الذي يتوقع أن يدفع بعض دول البحر الأحمر إلى مكانة متقدمة في مؤشر الأداء اللوجيستيالذي يصدره البنك الدولي.
وبالمثل، اكتسبت منطقة شرق المتوسط المزيد من الأهمية كممر بحري يربط الصين بأوروبا في واحدة من أهم مراحل مبادرة الحزام والطريق، وذلك بعد أن وقعت الحكومتان، الصينية والإيطالية، مذكرة تفاهم في مارس من عام ٢٠١۹، جعلت من إيطاليا الدولة الغربية الأولى التي تنضم للمبادرة الصينية.
مستقبل الصراع في منطقة شرق المتوسط - البحر الأحمر:
ظهر متغيران أساسيان محدِّدان لمستقبل إقليم التقاء قارات العالم القديم: أولهما، مستوى انخراط الفاعلين القابضين على زمام المبادرة الراغبين في إعادة صياغة المنطقة بما يعزز مصالحهم، وهو ما قد يتفاوت بشدة بين لعب القوى الإقليمية أو الدولية لهذا الدور. أما المتغير الآخر، فيتعلق بالاتجاه الغالب على التفاعلات، وما إذا كانت تفاعلات مُنتجة للصراع أو صانعة للتوافق.
فى الأخير، من المتوقع أن تستمر منطقة شرق المتوسط-البحر الأحمر في جذب اهتمام الأطراف الإقليمية والدولية في المرحلة المقبلة نتيجة الزيادة المطردة في أهميتها الاستراتيجية، مع ملاحظة أن الاهتمام الإقليمي والدولي لا يقتصر على اللاعبين التقليديين في المنطقة فحسب، بل يتوقع أن يشمل لاعبين جدداً، بدأوا بالفعل في استكشاف مصالحهم في المنطقة مؤخراً.
وفي حال تمكن الجميع من التوصل لصيغة توافقية، في منطقة شرق المتوسط-البحر الأحمر، فإنها تستطيع أن تعمل على فرض تسويات جذرية للصراعات الإقليمية، بجانب قدرتها على تعزيز مكاسبها، ولو على حساب دول الإقليم.