هواتف ذكية تتلاعب بنا: أسرار تطبيقات التلاعب النفسى
5-9-2021

د.منى حمدى
* استشارى الصحة النفسية والارشاد النفسى

    ما السر وراء الإلحاح بطرح وفرة من تطبيقات الصور الشخصية والفلاتر التجميلية والبورتريهات الكلاسيكية على الهواتف الذكية، وما هذا الانتشار السريع على مواقع التواصل الاجتماعي والسوشيال ميديا؟

ما التأثير النفسى الذى يجعل الغالبية تقع فى هذا الفخ؟

هل هناك سيطرة إدمانية على المخ، وما الذى تحققه للمستخدم حتى ينساق الجميع وراءها كالتنويم المغناطيسى بالمعنى الأصح؟

  ولماذا تطبيق Gradient الأخير بالذات وأوبشن البورتريه، وما الذى يلبيه من حاجات ولماذا انساقت له أعمار محددة وفئات؟ هل هو عدوى التقليد أم عقلية القطيع أم الانتشار بالمقارنة والتحريض؟

الحقيقة تكمن فى مخاطبة السمة النرجسية بالإنسان أحد أهم قوانين الطبيعة البشرية، من حيث الترتيب والأهمية، فالنرجسية ليست اضطراب كما يُشاع إلا عندما تتعدى الحدود الطبيعية السوية، فهى ببساطة حب الذات والإعجاب بها الذى يتدرج فى تفاوت ما بين الصحة والسواء، أو الاضطراب واللاسواء، فقد جُبِل الإنسان على حب الذات، بل وعشقها والعاشق لا يرى ولا يريد أن يرى عيوب ونواقص معشوقه، هنا تخاطب تلك التطبيقات والفلاتر نزعة الإنسان للكمال وحبه أن يرى نفسه جميلا، وأن يقتنع أو يُقنع نفسه بشكله وملامحه ومظهره مهما كانت لا تنال الرضا منه أو من الآخرين فلا بديل لنا عن أنفسنا إلا أنفسنا، وبهذا قد تكن لعبة التجميل والتلاعب النفسى بالميل للجمال، وإضافة اللمسات والتعديل لتحقيق الشعور بالرضا، وإن كان وهميا أو وقتيا أو جزئيا. فخداع النفس أحياناً يحسن الأداء ويرفع المِزاج، خضوعاً لفكرة البلاسيبو Placebo على غرار الدواء الوهمى والنوم الوهمى، أيضاً أصبح هناك الجمال الوهمى! كأن تقدم لشخص شراب عادى على أساس أنه دواء، فقد تتحسن حالته الصحية اعتقاداً وتصديقا أنه عقار طبى، وكما أن إيهام النفس أنها نالت قسطا وافرا من النوم يجعلها تستحضر شعور الراحة والنوم الكافى، كذلك أحياناً إضافة بعض التعديلات لخلق صورة جمالية للملامح ربما يحسن الصورة الذهنية ويحفز إفراز دفقات من الدوبامين ليشعر بالرضا والسعادة، وإن كان وهمياً ووقتياً.

  وليس خفياً على الجميع أن الشركات الصانعة لتلك التقنيات تخصّص جهوداً وأموالاً هائلة لدراسة السلوك البشري وتطوير الذكاء الاصطناعي بما يتواءم وزيادة تفاعل وإقبال البشر عليها، لتأخذ منهم وتعود لتصدر لهم بناء عما يظهر من احتياجات إنسان العصر الحديث وجوعى زمن فقر المشاعر وطغيان المادة والتكنولوجيا.

  إن الإنسان خُلق كائن اجتماعى بطبيعته يميل للتفاعل والتواصل والمشاركة هى جزء من سيكولوجيته، ويندفع بقوة نحو كل ما يثير ويلبى فضول عرض الذات وتوكيدها والتعبير عنها والإعلان عن وجودها، بل وتميزها ويَنْزعُ لاستكشاف نفسه والآخر فى سياق طبيعته الإجتماعية، وتلعب تطبيقات السوشيال ميديا على نزعات الإنسان البدائية واحتياجاته الأولية، خاصة وقد أصبح إنسان هذا العصر بليدا اجتماعياً وعاطفياً حتى أنه أصبح لا يعرف أن يعطى أو يأخذ الحب والعاطفة والاهتمام لشركائه الحقيقيين فى الحياة، فأصبح الجميع جوعى اهتمام، عطشى حب، محرومى احتواء، إنها فقر ثقافة التواصل، فاقة ثقافة الحب، فسَادَ تسول الاهتمام عبر السوشيال ميديا، إدمان الجميع الذى يُمرض أكثر مما يشفى، يُجوع أكثر مما يشبع، يعطى لقيمات آنية وقتية لا تغنى ولا تسمن من جوع، ببساطة لأنها تفتقد بشرية وحيوية ونبض التفاعل الإنسانى الحقيقى، ومع ذلك يقبل عليها الجميع لتخافت التواصل الحى بفعل تغير العادات والتخلى عن الإنسانيات، ثم أتى إعتياد وإدمان السوشيال ميديا ليقضى على ما تبقى من تواصلنا الحى ويقلل البث الإنسانى المباشر.

هى أنماط متكررة  pattern  تحكم عاداتنا الاستهلاكية، سواء كانت عادات مادية أو سلوكية أو احتياجات نفسية تصبح الطُعم الخفى، حيث يصدر إلينا إدمان عبادة الذات الذى تستهدفه  كثير من تطبيقات السوشيال ميديا والمصيدة التى تستنفد طاقاتنا وتفكيرنا وتشغلنا بصراعات المنافسات الوهمية لإثبات الذات بممارسات هيليومية. إنهم يُحاكون أنمَاطنا الاستهلاكية والسلوكية ويغرقوننا فيها ليحققوا الأرباح، ويُضعفوا عقول العرب غير القادرة على الفرز والتقييم؛ ويقدموا لنا مُلهياتdistractions عقلية ونفسية عن العلم والعمل، ليُجبرونا على العودة كمُستخدمين ومدمنين اعتمادا على نظام المكافأة بالمخ Reward system؛ محفزstimulus ، فعل Action، مكافأة Reward، ثم إعادة استثمار Investment تلك الدورة العصبية المزاجية لتظل أسير التطبيقات.

ولكن لماذا لا نستطيع مقاومة استخدام السوشيال ميديا، ما الذي يعيدنا إليها بعد كلّ إغلاق؟! الحقيقة أن هناك دوافع نفسية أساسية وفق هرم ماسلو للحاجات النفسية تجعلنا أسرى لها، وهى دافع الانتماء وما يصاحبه من نيل قبول واستحسان الآخرين، ودافع توكيد الذات وما يصاحبه من الرغبة الملحة فى عرض الذات، واستقبال إشارات الإعجاب ودورة الانطباع المستمرة المتلقاة من الآخرين. فشعورك بالانتماء ولو لأصدقاء افتراضيين يتفاعلون معك على الدوام، وإتاحة ذلك طوال الوقت دون تكلف أو طلب، يعطونكَ جرعات الاستحسان والقبول، ثم إمكانية توكيد الذات بإتاحة وسائل متعددة لعرض نفسك بشكل مثالى بدلًا من ذاتك الفعلية التى ربما لا ترضى عنها جزئيا أو كلياً، ليُمكنك من صنع هوية افتراضية مثالية؛ تُشبع دافع توكيد الذات، وكلما زاد عرض الذات عكس افتقاد تحققها فى الواقع، وكلما ألح فى طلب الاستحسان بالعرض المستمر المكثف طوال اليوم وبمعدلات مرتفعة عكس الشعور بالتهميش والدونية وعدم الاستحقاق والجدارة فى الحياة الحقيقية حتى وإن بدا عكس ذلك فأحياناً يكون شعور متأصل من الطفولة ولم يزل أو تم تأكيده بأحداث وخبرات الصبا والشباب، فمهما يتحقق فى الحياة يظل الشعور بالحاجة لعرض الذات شره باضطراب استجابة لبؤرة العقدة الدفينة القديمة. لكن هل يميل كل الناس لصنع  نسخ مثالية لأنفسهم؟ ولماذا؟ الحقيقة أن تعزيز الذات وعرضها نفسه ليس شيئاً مرضياً أو يعبر عن اضطراب وعدم سواء. على النقيض هوشىء صحى جداً، لأنه جزء من ممارسات توكيد الذات كإحدى أهم الحاجات النفسية، ولكن كثافة وكم وكيفية العرض هو العَرَضْ ونقطة التحول إلى مرض، ويشير بكامل البنان للاضطراب وعدم السواء، كما يعكس أحياناً كثيرة عدم الاستقرار العاطفي وعدم الإشباع، فالخط الفاصل الواضح والحاسم هو كم وكيفية عرض الذات هل يعبر عن ذواتهم الحقيقية فى غير مبالغة أو تزيف، وأيضاً بلا تقليل أو تهميش. إن الكم والإلحاح دليل اضطراب أما المعدلات الطبيعية والسياقات اللازمة وذات المحتوى والهدف الخادم الجاد هى من صميم الصحة النفسية.

  لكن للأسف وسائل السوشيال ميديا وتطبيقات الهواتف الذكية، خاصة تطبيقات الصور والفلاتر تدفع الإنسان خلسة وبلا وعى لصناعة ذات زائفة، لأنها ببساطة تُحاكى وتُشبع أهم حاجاته ودوافعه النفسية غير المشبعة، فإذا لم يكن لديه الوعى والنضج والاتزان الكافى الذى يُمكنه من حُسن الاستخدام والاستفادة، لأن فى الحقيقة لا أحد ينكر الجانب المضىء والإيجابي الفعال، بل وأحيانا الخرافى للسوشيال ميديا. بالتأكيد لها تأثيرات ومنافع إيجابية كثيرة لمن يحسن استخدامها ويُبدع فى استغلالها فى العمل والعلاقات الاجتماعية والتسويق للنفس وحُسن واتزان وغرضية عرض الذات لتحقيق أهداف وطموح بالعمل وبالحياة، وتطوير وتوسيع  العلاقات الإجتماعية والحفاظ علي الحالى والقديم منها، وحفظ الصلات والتواصل بين الأقارب والأصدقاء والمعارف لبعد المسافات وضيق الوقت والانشغال، وملء الفراغ والتغلب على الشعور بالوحدة عندما يغيب الونس والشريك، وممارسة توكيد الذات والحصول على الدعم الإجتماعي عندما نحتاجه، لا عندما نفتعله ونتسوله بلا سبب واستجابة لميول مضطربة. ومثل هذه الأهداف والممارسات تحسن الشعور بالسعادة والرفاهية عند الأفراد، وقد تساعد فى الحد من الاكتئاب عند البعض والتغلب على الهموم والضغوط إذا ما تمت ممارستها بالشكل الصحيح وفى التوقيت المناسب وبمساحة الوقت المقننة والتناول المتزن العاقل، لا المنفلت الساذج.

  ولكى لا نجلد أنفسنا إذا ما وقعنا فى فخ تطبيقات السوشيال ميديا، فلابد أن نعرف السر والإَّنة فى الموضوع، فالصفة الإدمانية لسوشيال ميديا تكمن فى مفعول هذا الأصبع الأزرق وما يعلنه من الإعجاب والقبول ونيل الاستحسان فيحفز نظام المكافأة فى المخ الذى يزيد من إفراز الدوبامين، وهو هرمون السعادة التى مصدرها الإنجاز والمكافأة reward فأنت تعرض شيئا، تقوم بفعل action، نشر أو تحديثٍ ما على صفحتك فتنال الإعجاب كمكافأة فيفرز الدوبامين الذى يمنحك نبضات سعادة، تتسع حدقة العين وتتهلل أسارير الوجه ويرتفع معدل نشاط الموصلات العصبية المانحة للسعادة والشعور برضا، مع كل ضغطة لايك من متفاعل آخر، دفقة دوبامين ونبضة سعادة فيحدث الإدمان لرغبتنا فىالحصول على هذا الشعور مجدداً ومكثفاً وخاصة عند غياب مصادر السعادة والشعور بالرضا والإشباع مع شركاء الحياة، ويغيب التحقق فى الواقع الفعلى  بالعمل وبعلاقاتنا الإنسانية، ثم تأتى فكرة عدوى التقليد وعقلية القطيع والانتشار بالمقارنة والتحريض لتسهم فى مزيد من المتورطين.

أيعنى هذا أن "الإعجاب" يؤثر على صحتنا النفسية؟ بالطبع يؤثر حتى إن لم تكن تبالى فى البداية فستشعر بالرضا مع كل ضغطة أحدهم على زر “الإعجاب”، وإن لم تحصل على عدد كبير من الإعجابات ربما يزعجك هذا، أو إن كنت لا تبالي بكيفية تفاعل الآخرين مع ما تفعله على مواقع التواصل الإجتماعي قد يكشف ذلك وعيك وتقديرك وثقتك بذاتك المستمدة من الداخل والواقع، لا من العالم الإفتراضى، وتفهمك وإدراكك لدورة التفاعل على السوشيال ميديا وقوانينها الخفية التى ليس لها علاقة كبيرة فى حقيقة الأمر بمدى شعبية الشخص أكثر مما تعبر عن حسن إدارة السوشيال ميديا وعرض الذات.

  لكن مجدداً ما السر النفسى وراء تلاعب تطبيقات الفلاتر والصور الشخصية  بمشاعرنا، خاصةً تطبيقGradient  الأخير كيف استطاع  أن يستقطب الجميع حتى من بدا عليهم الترفع والعزوف عن تلك الممارسات، أنه سحر البورتوريهات الكلاسيكية القادمة من الزمن الجميل موضع حنين الجميع والصورة المثالية والأناقة الباريسية والملامح جميعها أوروبية، ثم التدرجات اللونية والتظليل حول مناطق التوقف اللوني وخطوط وأسارير الوجه بنعومة قد غابت مع الكاميرات الحديثة ذات الدقة العالية التى تظهر عيوب بقدر دقتها، ثم يعطيك البورتريه الكلاسيكي تغييرا ناعما غير محسوس فى  نسب ملامح الوجه وضبط تدرجات لون البشرة وإضافة ألوان للشعر، وحجم العينين ولونها والشفاة وتعديلات ناعمة كلاسيكية ليخلق فى النهاية صورة مثالية ويحول صورتك الشخصية الى شخصية كلاسيكية وبورتريه فنى من الزمن الجميل، حيث يصيبنا الحنين ويخلق شعورا حالما خياليا بانتمائنا لعالم زمان وحقبة كم تمنينا أن نولد ونعيش بها وتفتحت أعيننا أطفالاً نشاهد ونعايش روعاتها على الشاشات وقت لم يكن هناك تعدد للملهيات فكان هذا هو صندوق الدنيا الساحر، إن تطبيق جرادينت وما يشابهه يوفر فلاتر تعديل وتجميل احترافية وسلسة الاستخدام بمجرد ضغطة صغيرة يعطى تدريجات باللون والظلال ويحولك لأحد نجوم الفن الجميل، فكان كآلة الزمان الخرافية التى نقلتنا حيث عالم الماضى وعصر الجمال والأناقة والرومانسية وخلقت لنا مهرب لحظى من عالم وزمن كم تمنينا أن نهرب منه، ولهذا فتلاحظَ أن أكثر مستخدميه هم جيل الوسط وقلة محدودة جدا من الشباب والمراهقين ذوى التركيبة الخاصة. ببساطة، لأن الأجيال الجديدة أكثر واقعية وعملية.

لكن الأمر يشوبه الخطر وعلينا الحذر، لقد وصل هوس فلاتر الصور للحد الذى صُنف كاضطراب نفسى سُمىَّ اضطراب تشوه الجسد سناب شاتSnapchat dysmorphia ليصف حالة هوس فلاتر الصور حد إجراء جراحات تجميلية لمحاكاة الصورة المفلترة وما لهذا من خطر على الصحة النفسية والعقلية والجسدية  للمراهقين والكبار، وارتباطه بزيادة احتمالية الإصابة بالوسواس القهري كما يزيد خطر الإصابة بالاكتئاب. فهى تخلق ضبابية نفسية حول الفارقَ بين الصورة الحقيقية للشخص وصورته المفلترة المتداولة؛ فيصبح كالوتر المشدود الذى يؤهله للاضطراب النفسى  ويفصله عن ذاته الحقيقية، وعن واقعه ويوقعه فى براثن الشعور بالاغتراب وخداع الذات والهروب منها، وجميعها تنسل لتنال من صحته النفسية عاجلاً بالهوس والاضطرابات الخفيفة وآجلاً بالمرض النفسى والانفصال عن الواقع تماما ورفضه.

وهذا جزء من الوجه الأسود للحياة الافتراضية والواقع الرقمي كما عرضه فيلم"The Social Dilemma"ليلخص مضمون الورطة والفخ الذى يجرف الجميع ليزجنا نحو اغتيال إنسانيتنا وذبول بشريتنا وتغييب عقولنا واستقطابها كاملةً ليصنع من البعض بُلَهَاء أو سُذج فى عملية تلاعب مستمرة من صناع هذه التطبيقات لتلبية أهدافهم التجارية وأحياناً السياسية يرصدون حركات كل المستخدمين وأفكارهم وسلوكهم ليعيدوا تصديرها لهم بتحكم وسيطرة أكثر بحياتهم الرقمية لمصلحة الصناع ومن وراءهم، والتأثيرفى تفكير الأفراد والشعوب وسلوكهم الواقعى بمعرفة خياراتهم وتغذيتها بمزيد من الخيارات التي تمكنها من مزيد السيطرة والتحكم لتصبح المقرر الأساسى لما يقرأون وما يستهلكون فى عملية استقطاب مستمرة ومتزايدة، حتى أصبح الهاتف ملاصقا لنا كأحد أصابع يدنا، ولنسجن فى فقاعته المتأرجحة فى فضاء الافتراضية ولا ندرك كم أصبحت حياتنا وهمية وخاوية من الحقيقية والإنسانية، وينفصل كل منا فى جزيرته المعزولة النفسية، وإن ظهرت كامتداد أرضى.


 


رابط دائم: