تشهد تونس تحولا ديمقراطيا بحراك (25 جويية)، لتصحيح مسار البلاد بقيادة الرئيس قيس سعيد، وذلك بالتخلص من حكم الإخوان المتمثل في حركة النهضة التي استولت على مؤسسات الدولة، والتي تواجه اتهامات بارتكابها جرائم بحق المعارضين من قمع وإرهاب وانتهاك لحقوق الإنسان واغتيال أبرز المعارضين (محمد البراهمى وشكرى بلعيد) وفساد مالى وسياسى وغيرها، وكانت الشرارة التي أشعلت الحراك هى فشل حكومة هشام المشيشى في السيطرة على تفشى وباء كورونا (covid-19) بالبلاد، وعدم توفير اللقاح للمواطنين، مما أدى لارتفاع عدد الوفيات إلى 20 ألف حالة، وسط سوء الحالة الاقتصادية للمواطنين، وارتفاع أعداد البطالة لتصل إلى 30%.
أثارت كل هذه العوامل الغضب الشعبي جراء سياسات النهضة التي أفسدت المسار الديمقراطي، مما دفع الشعب التونسى للتنديد بحكم الإخوان ومطالبة الرئيس قيس سعيد بإنقاذ البلاد، واستجاب الرئيس لمطالب شعبه واستند للفصل (80) من الدستور الذى ينص على "منح رئيس الجمهورية الحق في اتخاذ كافة التدابير التي يراها لازمة في حالة وجود خطر داهم" واستخدام صلاحيته كرئيس جمهورية للحفاظ على أمن واستقرار البلاد، فأصدر عدة قرارات، منها عزل رئيس الحكومة، وتجميد عمل البرلمان، وإقالة وزير الداخلية ووزير العدل ووزير الدفاع، وإقالة رئيس الهيئة العامة لشهداء وجرحى الثورة لإنقاذ البلاد، وإفساد الصفقات السياسية التي كان يسعى حكم الإخوان برعاية راشد الغنوشى رئيس حركة النهضة (رئيس البرلمان المعزول) لإبرامها مع أطراف داخلية وخارجية على حساب مصلحة الوطن.
دور المجتمع المدنى فى دعم الرئيس قيس سعيد:
لعب المجتمع المدنى التونسى دورا مهما في دعم قرارات الرئيس لما يتمتع به من شعبية كبيرة لدى المواطنين، حيث عقد الرئيس قيس سعيد اجتماعا مع بعض الاتحادات والنقابات التي لها تأثير فاعل بالمجتمع التونسى، وأهمها الاتحاد العام التونسي للشغل الذى تم تأسيسه في (1947)، والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة الذي تم تأسيسه في (1948)، ومجموعة من النقابات والمنظمات النسوية.
ويعد الاتحاد العام التونسي للشغل (النقابة العمالية) البوابة الأولى للدفاع عن مدنية الدولة، وعن الحقوق الاجتماعية للعمال، وعن موظفي القطاع العام. والتجربة التاريخية للمنظمة النقابية منذ تأسيسها لا تقف على الحياد في القضايا المتعلقة بالإرهاب والتطرف، مما دفع "الاتحاد العام للشغل" لدعم قرارات الرئيس قيس سعيد، ولكنه طالب في بيان رسمي: "تحديد مدة تطبيق التدابير الاستثنائية حتى لا تتحول إلى إجراء دائم، ودعى إلى ضرورة ضمان احترام الحقوق والحريات بما فيها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية دون تجزئة مع الاحتكام إلى الآليات الديمقراطية والتشاركية في أي تغيير سياسي في إطار خريطة طريق تشاركية واضحة تسطر الأهداف والوسائل".
دور "الاتحاد العام التونسى للشغل" في التحول الديمقراطى:
ويعد المجتمع المدنى جزءاً من تركيبة المجتمع التونسى منذ الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي، وقد ساهم بعد الثورة التونسية في تبنى استراتيجية لحماية العملية الانتخابية، وضمان التحول الديمقراطى، والعمل على تعزيز النزاهة والشفافية، ومشاركة المواطنين في الشأن العام، واتضح فى هذه أثناء تشكيل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة، التى كان يمثلها المجتمع المدنى والأحزاب بنسبة 60% تقريبا، فكان شريكا لصانعى القرار. ومن أبرز هذه الاتحادات "الاتحاد العام التونسى للشغل" (نقابة عمالية) الذى يتمتع بشعبية كبيرة وله تأثير سياسى، وقدكان له دور فاعل في مواجهة الاستعمار الفرنسي بقياد "فرحات حشاد" الذى تم اغتياله في ديسمبر1952 من قبل تنظيم تابع للاستخبارات الفرنسية، ولم يتوقف نشاط الاتحاد، بل دعم "الحبيب بورقيبة" ليترأس الحزب الدستورى الحر الجديد الذى يقود حركة التحرر الوطنى من الاستعمار الفرنسي في عام 1955، ثم انضم بعض أعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد التونسى للشغل إلى اول حكومة تم تشكيلها بعد الاستقلال في عام 1956، وبتولى "الحبيب بورقيبه" الرئاسة في عام 1957، كان الاتحاد التونسى للشغل جزءاً من صانعى القرار من خلال وجودهم بالحكومة والبرلمان، ومع بداية السبعينيات تبنى الرئيس "بورقيبة" توجها اقتصاديا بسياسات ليبرالية، وتم تغيير بعض المواد فى الدستور، مما أدى إلى احتقان الموقف مع أكبر نقابة عمالية "الاتحاد العام للشغل"، وحدث خلاف مع الرئاسة في عام 1978 ليعلن الإضراب العام، مما أدى إلى إصدار قرارات رئاسية باعتقال بعض القيادات، ومن ثم مواجهات مع الأمن، أدت إلى سقوط مئات من القتلى، الأمر الذى شجع الاتحاد إلى الدفع بعدد كبير من المرشحين إلى مجلس النواب في عام 1981، والحصول على 26 مقعدا وكانت المرة الأولى منذ الاستقلال وإعلان الجمهورية التونسية التى يحصل فيها هذا التمثيل بالبرلمان حرصا من الاتحاد على تطبيق مبادئ الحقوق والحريات وممارسة حقهم في التشريع.
بعد ذلك، جاء حكم زين العابدين بن على في 1987، حيث سمح في الفترة الأولى مع بداية توليه الرئاسة بإنشاء منظمات المجتمع المدنى لإثبات إيمانه بحرية الرأي والتعبير واحترام حقوق الإنسان، ولكن بقى دورها بصورة شكلية أكثر، دون دور فاعل حقيقى، وعكس الواقع تعسف من قبل الحكومة تجاه دور المجتمع المدنى ككل والاتحاد التونسى للشغل تحديدا لاستقلاليته، ورغم ذلك كان هناك وجود للاتحاد العام للشغل وحصل على مقاعد بالبرلمان، لكن المسار الاقتصادى الجديد الذى تبنته الدولة، والتوجه نحو الخصخصة أديا إلى الدفع بقيادة تتماشى مع السياسات الجديد، وهو السيد السحبانى الذى تولى من 1989 حتى عام 2000، وانتهى به الأمر بالسجن بتهم الفساد، ومن ثم تعيين قيادة جديدة، السيد عبدالسلام جراد، ولكن تقلص دور العمل النقابى، ولم يحظ بتمثيل جيد بالبرلمان أو فى العمل العام.
إلى ذلك، عاد مرة أخرى لنشاطه مع قيام الثورة التونسية، وتحرك من أجل تعزيز المواطنة وقيم النزاهة والشفافية والحكم الرشيد، خاصة من خلال حملات التوعية لتثقيف الشباب والنساء وكل أطياف المجتمع. وتقديرا للدور البارز الذى قامت به الاتحادات والنقابات، حصلت أربع منظمات غير حكومية على جائزة نوبل في 2015 لما سمى بالرباعي الراعي للحوار الوطني، وهى "الاتحاد لعام التونسى للشغل"، والاتحاد التونسى للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والهيئة الوطنية للمحامين بتونس.
وشهدت تونس خلال فترة حكم الإخوان، حملة اعتقالات وتعذيب واغتيالات ضد منظمات المجتمع المدنى والناشطين والمعارضين، أسكنت الرعب في قلوب أغلب المشتغلين بالشأن العام، وأبرزها اغتيال "محمد البراهمى" النائب بالمجلس التأسيسى وأمين عام حزب "حركة الشعب" المعارض ذي التوجه الناصري العربي، حيث استقال البراهمى من الأمانة العامة لهذا التنظيم السياسي، واتهم حركة النهضة الإسلامية الحاكمة باختراق حزبه، مما أدى إلى تصفيته.
ودعت منظمات المجتمع المدنى التى تؤمن بالمواطنة والحقوق والحريات بعد هذه الأعمال الإرهابية، وعلى رأسها النقابة العمالية "الاتحاد التونسى العام للشغل" للإضراب العام والخروج في تظاهرات ضد النظام الإخوانى، والمطالبة بالملاحقة الجنائية لمرتكبى هذه الجرائم، وخلق رأى عام محلى ودولى للدفاع عن مثل هذه القضايا، ولكن لم تكتف حركة النهضة الإسلامية بهذا القدر من الانتهاكات، بل حاولت استغلال المؤسسة القضائية لإفساد ملفات التقاضي في عدة قضايا إرهابية، أبرزها اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي.
الرقابة الأممية والمحلية لحالة حقوق الإنسان:
أشارت إحدى المنظمات المحلية، وهى "المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية" إلى أن التحركات الاجتماعية والاحتجاجات قاربت 8759 تحركا في عام 2020، منها 5727 احتجاجا عشوائيا، بينما بلغت 9091 احتجاجا في عام 2019، و9365 في عام 2018. أما في 2017، فقد ناهزت 10452 احتجاجا.
وبالاطلاع على تقرير المفوضية السامية لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة، وآلية الاستعراض الدورى الشامل لرصد حالة حقوق الإنسان لدولة تونس في مايو 2017، أوضح التقرير تردى أوضاع حقوق الإنسان وارتكاب انتهاكات من قبل النظام الحاكم، وهى كالتالى :
- ملف حق الفرد فى الحياة والحرية والأمان على شخصه: أعربت لجنة مناهضة التعذيب قلقها تجاه ارتفاع عدد حالات الوفاة رهن الاحتجاز في ظروف غامضة، ولم توضح السلطة القضائية ملابستها بعد، كما دعت إلى إجراء تحقيقات نزيهة بمشاركة أسر الضحايا كطرف مدنى، كما أدان المفوض السامى لحقوق الإنسان اغتيال الناشط التونسي شكرى بلعيد وتصفية أحد رموز المعارضة محمد البراهمي وطالب السلطات باتخاذ إجراءات صارمة تجاه الجرائم ذات الدوافع السياسية. كما طالبت اللجنة بإدراج الاختفاء القسرى فى القانون المحلى على أنه جريمة قائمة بذاتها، وطالبت بفتح تحقيق في حالات الاختفاء القسرى في الماضى، وإيضاح مصير المختفين، كما أدانت التعذيب الذى يتم تجاه المشتبه بهم والمحتجزين احتياطيا.
- ملف الحريات والمشاركة في الحياة العامة والسياسية: دعت لجنة مناهضة التعذيب الحكومة إلى إجراء تحقيقات عاجلة وفعالة في جميع التهديدات والهجمات التي تستهدف المدافعين عن حقوق الإنسان والمدونين والصحافيين وتقديم المسئولين عن هذه الأفعال إلى العدالة ومعاقبتهم بما يتناسب مع خطورة أفعالهم. وأوصت المقررة الخاصة المعنية بحالة المدافعين عن حقوق الإنسان بحماية المدافعات عن حقوق الإنسان إذا ما تعرضن للهجوم أو المضايقات وخلق بيئة عمل مناسبة لهن، وأيضا ضرورة زيادة التمثيل النساء في مواقع صنع القرار والهيئات العامة.
- ملف المرأة: أدان فريق الأمم المتحدة المعنى بالتمييز ضد المرأة وجود ثغرات بالتشريعات الوطنية للتمييز ضد المرأة وعدم إصدار قانون لمناهضة العنف ضد المرأة.
- ملف التعليم: أوضحت لجان اليونسكو واللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية تدنى حالة التعليم، وسوء البنية التحتية، وانخفاض أعداد المدرسيين، وارتفاع نسبة التسرب الدراسى والأمية، خاصة بالمناطق الريفية، ودعت كلا منها الحكومة التونسية إلى ضرورة استثمار الموارد في مجال التعليم، خاصة بالمناطق الريفية.
أخيرا، يمكننا القول إن وعى وإرادة الشعب التونسى والحراك الشعبى لإدانة ممارسات الإسلاميين ضد المدنيين من أهم الأسباب التى قادته إلى التخلص من حكم الإسلام السياسى (حركة النهضة)، بالإضافة إلى تكاتف القوى الفاعلة حول الرئيس قيس سعيد من المجتمع المدنى والأحزاب السياسية والنقابات والإعلام لاتخاذ القرارات الصائبة، وعزل كل القيادات الخائنة للوطن، التي لها حساباتها مع أجندات خارجية، واتخاذ التدابير اللازمة لملاحقة كل من تورط في ارتكاب جرائم ضد الوطن من قضايا فساد مالى وسياسى، ومحاولة استرداد الأموال المنهوبة، كما أعطى الأولوية للعبور بالبلاد من جائحة كورونا، والعمل على تحسين الوضع الاقتصادى للمواطنين. كما تبين من التقارير الأممية والمحلية أن تونس في حاجة لتصحيح أوضاع حقوق الإنسان، والتصدى بحزم لكل المخربين بالبلاد، وتولى سلطة تشريعية قادرة على سن القوانين، وتعديل البعض منها كما أشارات إليها في تقاريرها.