تستمر جهود الدولة المصرية في شرح عدالة الموقف المصري من أزمة سد النهضة الإثيوبي، على كافة المستويات الإقليمية والدولية. وحملت الجولة المكوكية لوزير الخارجية المصري، سامح شكري، إلى ست دول إفريقية، هي كينيا، وجزر القمر، وجنوب إفريقيا، والكونغو الديمقراطية، والسنغال، وتونس قدرا عالٍيا من الأهمية، خاصة أنها أتت في توقيت مهم بعد فشل الجولة الأخيرة من المفاوضات بين مصر والسودان وإثيوبيا تحت رعاية الاتحاد الإفريقي، والتي استضافتها الكونغو الديمقراطية في 4-5 أبريل الجاري، والتي مثلت وتمثل امتدادًا لتعثر الأطراف المعنية في التوصل إلى حل نهائي لتسوية الأزمة، عقب مسار طويل من المفاوضات امتد، لعقد كامل أظهر فيه الجانب الإثيوبي تعنتًا واضحًا وموقفًا مراوغًا لكسب المزيد من الوقت لفرض الأمر الواقع على الجانبين المصري والسوداني في مسألة السد.
فتزامنًا مع ترويج أديس أبابا للشروع في عملية الملء الثاني للسد المزمع في شهري يوليو وأغسطس المقبلين، فقد تم تصعيد الخطاب المصري لأول مرة منذ انطلاق المفاوضات الماراثونية، حيث تم التحذير من المساس بحقوق مصر التاريخية في مياه نهر النيل، مع سعي القاهرة لشرح أبعاد أزمة قضية سد النهضة للمجتمع الدولي لتحمل مسئولياته، والتي كان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي قد أكد أن كافة الخيارات مطروحة بشأنها، حال تفاقمها.
وتمثل هذه الرحلة المكوكية للدول الإفريقية جزءًا من الجهود المتصلة للسياسة المصرية طوال السنوات الأخيرة للتأكيد على حقوقها، وصحة موقفها بشأن سد النهضة، والحصول على دعم المجتمع الدولي. فقد سبق ذلك، جولة إفريقية لوزير الخارجية في مارس 2020، شملت دول بوروندي، وجنوب إفريقيا، وتنزانيا، ورواندا، والكونغو الديمقراطية، وجنوب السودان، والنيجر، إلى جانب جولتين ضمتا دولًا عربية وأوروبية آنذاك لطرح تطورات الأزمة والموقف المصري منها، بهدف بناء موقف دولي وإقليمي قوي داعم للرؤية المصرية.
الأهمية والدلالات:
تحظى هذه الجولة الإفريقية بأهمية ملحوظة كونها تعبر عن تحرك مصري في النطاق الإفريقي يعد بمثابة أداة لحشد الدعم الإفريقي، ويهدف إلى بناء موقف مصري - إفريقي من تطورات ملف سد النهضة، يمكنه أن يشكل ضغطًا على الجانب الإثيوبي لإبداء المرونة في التوصل لاتفاق قانوني ملزم بشأن تشغيل وملء سد النهضة دون اتخاذ أي خطوات أحادية الجانب مستقبلًا بالمخالفة لاتفاق المبادئ الذي وُقع في مارس 2015 في الخرطوم بين الدول الثلاث. وحرصًا من القاهرة على تعزيز ودعم الاستقرار والأمن في القارة الإفريقية، وعدم اتخاذ أي خطوات تصعيدية لحماية أمنها القومي والمائي، وذلك نتيجة المراوغة والتعنت الإثيوبي الذي من شأنه تهديد السلم والأمن الإقليميين في القارة الإفريقية بشكل عام، ومنطقة حوض النيل بشكل خاص.
وتسعى القاهرة من خلال هذه الجولة للدول الست لضمان التأثير في داخل أروقة الاتحاد الإفريقي، ومجلس الأمن الدولي، في حال تدويل أزمة سد النهضة، وذلك في إطار عضوية دول الكونغو الديمقراطية، وجنوب إفريقيا، والسنغال وجزر القُمر، بمكتب هيئة منظمة الاتحاد الإفريقي، حيث تشغل جنوب إفريقيا مقعدًا ضمن الترويكا الثلاثية للاتحاد الإفريقي باعتبارها الرئيس السابق للمنظمة خلال عام 2020، وراعيًا لمفاوضات السد خلال نفس العام، ويشاركها السنغال التي ستتولى الرئاسة القادمة للاتحاد في عام 2022، إلى جانب الكونغو الديمقراطية الرئيس الحالي للمنظمة الإفريقية. في حين تشغل كل من كينيا وتونس العضوية غير الدائمة في مجلس الأمن الدولي، كما تشغل كينيا أيضًا منصب الرئيس الحالي لمجلس السلم والأمن الإفريقي. هذا إلى جانب الدعم العربي والأوروبي الذي تمثل في تضامن بعض الدول العربية مع مصر والسودان في أزمة سد النهضة، مثل السعودية، والإمارات، والكويت، والبحرين، والأردن، وتونس. في حين أكدت روسيا على موقفها الثابت برفض المساس بالحقوق التاريخية لمصر في مياه النيل، ورفض الإجراءات الأحادية في هذه الأزمة، وذلك خلال زيارة وزير الخارجية الروسي، سيرجي لافروف، إلى القاهرة في أبريل الجاري.
وتلعب الدبلوماسية المصرية دورًا ملموسًا في توضيح الموقف المصري الإيجابي طول سنوات عقد المفاوضات خلال العقد الماضي للدول الإفريقية والمجتمع الدولي ككل، وتقديم الأدلة على تعنت الجانب الإثيوبي، والرد على الادعاءات الإثيوبية بأن مصر هي التي تعرقل سير المفاوضات خلال السنوات الماضية، خاصة أن القاهرة قد فضلت طوال هذه الفترة تغليب النهج التفاوضي والتعاوني لإظهار حسن النوايا، في مقابل إصرار إثيوبي على التمسك بموقف رافض لكافة المقترحات والحلول لتسوية الأزمة، بما يضر بالمصالح المائية لكل من مصر والسودان.
كما تؤكد الدولة المصرية، من خلال هذه التحركات تجاه الدول الإفريقية، توافر الإرادة السياسية والمرونة الكاملة في مسألة المفاوضات، لدرجة أنها قدمت 15 مقترحًا لملء وتشغيل السد، إلا أن أديس أبابا قد رفضتها جميعًا، وهو ما يكشف غياب الإرادة السياسية لدى الإثيوبيين في تسوية الأزمة.
ومن هنا، تحاول القاهرة تشكيل رأي عام إفريقي، وحشد عدد كبير من الدول الإفريقية يمثل ظهيرًا إفريقيا لمصر لبناء موقف قوي وواضح ضد المواقف الإثيوبية، بحيث يسهم في الضغط على الجانب الإثيوبي من أجل تسوية الأزمة، خاصة في ظل احتمالية انعقاد قمة لرؤساء الدول والحكومات الإفريقية خلال الفترة المقبلة للوصول إلى اتفاق بشأن سد النهضة، والتي دعت إليها أخيرا، وزيرة الخارجية السودانية، مريم الصادق المهدي، خلال لقائها بسفراء الاتحاد الإفريقي لدى الخرطوم.
كما تحرص مصر على تعزيز تحركاتها على الساحة الإفريقية في هذا التوقيت لكسب المزيد من الدعم الإفريقي تحسبًا لإمكانية التوجه نحو تدويل النزاع دوليًّا خلال الفترة المقبلة، وتحسبًا لأية سيناريوهات أخرى، في ظل ضيق الوقت وقلة الخيارات المتاحة، بما يضمن لها تفهمًا لموقفها وتجاوبًا إفريقيًا مع كافة الخيارات الكفيلة بحماية الأمن القومي المائي المصري.
الرسائل المصرية:
تحمل جولة السفير سامح شكري إلى القارة الإفريقية عددًا من الرسائل التي تعكس الرؤية المصرية تجاه أزمة سد النهضة في إطارها الإفريقي على وجه التحديد، ويتمثل أبرزها فيما يلي:
- ضرورة التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بين مصر والسودان وإثيوبيا لملء وتشغيل سد النهضة، بما يضمن مراعاة المصالح المصرية والسودانية في مياه نهر النيل.
- تأكيد مصر على أنه لا مساومة على حقوق مصر المائية، وعدم السماح بالضرر لأمن مصر المائي والقومي. وهو ما أكده الرئيس عبدالفتاح السيسي في 30 مارس 2021 على أن مياه النيل خط أحمر، وأن مصر لن تسمح بالمساس بحقوقها المائية، وأن أي مساس بها ستكون عواقبه وخيمة بالنسبة لاستقرار المنطقة بالكامل.
- التفهم المصري لمتطلبات التنمية في دول حوض النيل، لاسيما إثيوبيا، وحرص القاهرة على التعاون والعمل الإفريقي المشترك، ودعمها للتنمية وعدم ممانعتها بالمساهمة فيه، شريطة ألا يكون على حساب المصالح المصرية، وتهديد الحقوق المائية لمصر من مياه النيل.
- حرص مصر على حل الأزمات الإفريقية عبر الطرق السلمية والمفاوضات الجادة، والعمل مع الدول والأطراف المعنية مثل الاتحاد الإفريقي لإيجاد تسوية لأزمة سد النهضة والتوصل لاتفاق قانوني ملزم للأطراف الثلاثة.
- رفض مصر لأية خطوات أحادية من الجانب الإثيوبي بشأن عملية الملء الثاني، بما قد يترتب عليه تهديد المصالح المائية لكل من مصر والسودان.
- إبطال الادعاءات الإثيوبية الخاصة بإصرار مصر على تدويل قضية سد النهضة بدلًا من حلها في إطار الاتحاد الإفريقي، وتقديم الأدلة على غياب الإرادة السياسية لإثيوبيا فيما يتعلق باستكمال مفاوضات سد النهضة، والتوقيع على اتفاق ملزم يجنب الدول الثلاث والمنطقة مسارات تصعيدية قد تتسبب في زعزعة الاستقرار الإقليمي.
- حرص مصر على الحفاظ على أمن واستقرار وتنمية منطقة حوض النيل، والسعي لتجنب أي أعمال من شأنها زعزعة الاستقرار الإقليمي.
- استعداد مصر طوال الوقت إلى الحوار والتفاوض والتفاهم، بهدف التوصل إلى حلول ترضي جميع الأطراف، وبما لا يضر المصالح المائية للدول الثلاث.
- وضع المجتمع الدولي أمام مسئولياته بشأن تهديد إثيوبيا لحياة أكثر من 105 ملايين شخص في مصر، بسبب موقفها الرافض لتوقيع اتفاق ملزم بشأن تشغيل وملء سد النهضة، وأنها بذلك تدفع الأمور نحو الهاوية في منطقة حوض النيل؛ مما يتطلب المزيد من الضغط على الجانب الإثيوبي لإثبات مرونة بشأن تسوية الأزمة، وعدم تهديد المصالح المائية لكل من مصر والسودان.
وإجمالًا، تعكس جولة وزير الخارجية المصري إلى إفريقيا، إدراك الدولة المصرية لضرورة توسيع مساحة الحركة على الصعيد الإفريقي، في محاولة لتحريك المياه الراكدة في قضية سد النهضة، بهدف تكثيف الضغوط الإقليمية والدولية على الجانب الإثيوبي، من أجل التوصل لاتفاق يراعي مصالح جميع الأطراف.