انتهجت الدبلوماسية المصرية نهجا حديثا في التعامل مع المتغيرات الإقليمية والدولية المتسارعة، والتي بدأت مع العقد الأول للقرن الحالي، وتسارعت مع وصول جائحة كورونا لذروتها حول العالم. فلم ولن يصبح المجتمع الدولي كما كان قبل أن تصيبه رياح الخريف العربي وجائحة كورونا. مصر بعد ثورة 30 يونيو أحدثت تطورا إيجابياً فيما يتعلق بتوازن علاقاتها الخارجية مع مختلف أقطاب العالم، وإعادة ترتيب أولويات دوائر الاهتمام لتصبح الدوائر الإفريقية والعربية والشرق متوسطية ضمن الدوائر الأولي في اهتمامات الدولة المصرية.
وبالفعل، رممت الإدارة المصرية علاقتها مع دول تلك الدوائر، بل ارتقت بها من مستويات العلاقات الجيدة الي الشراكة الاستراتيجية مع معظم دول هذا الإقليم، ولكن المستحدث هنا ما أحدثته مصر من تحالفات إقليمية جديدة تعد الآن هي إحدى أهم أدوات السياسة الخارجية المصرية في التحرك الإقليمي والدولي، وقد أنشأت مصر، خلال السنوات الماضية، تحالفات إقليمية جديدة، كما انخرطت في تجمعات وتحالفات أخري تضم دولا صديقة وشقيقة.
مصر-اليونان-قبرص مثلث شرق المتوسط:
أبحرت مصر في شرق المتوسط مع شركائها التقليديين وهم -اليونان وقبرص- حيث يجمع هذا الثلاثي إرثا حضاريا وتاريخيا مشتركا، وأيضا يجمع بينهم الحاضر بتحدياته المشتركة ،لهذا كان تكوين تحالف شرق المتوسط بين هذا الثلاثي، وخلق تكتل إقليمي يحافظ علي مصالح تلك الدول ويصون مقدرات شعوبها ضرورة التفتت لها القيادة السياسية المصرية ببالغ الأهمية، وسارعت القاهرة في احتضان أول قمة تجمع الزعماء الثلاثة في عام 2014 في أولي أعوام تولي الرئيس عبدالفتاح السيسي المسئولية لتبرهن دلالة التوقيت علي كون هذا النهج الدبلوماسي الجديد في تكوين تحالفات وتكتلات إقليمية تهدف لترسيخ السلام، وتسعى للتعاون، وهو هدف أساسي لدي الدولة المصرية بعد ثورة 30 يونيو المجيدة.
توالت الاجتماعات لتصل الي تسع قمم علي مستوي القادة، بخلاف عدد كبير من الاجتماعات الأخرى علي مستوى وزراء الخارجية والدفاع والمخابرات ،لينتج عن هذا الحراك الإقليمي عدد من المكتسبات للدول الثلاث، حيث استطاعت بشكل ثنائي كل من مصر واليونان، ومصر وقبرص ترسيم الحدود البحرية بالنطاق الاقتصادي، كما أبرمت الدول الثلاث عددا من الاتفاقيات فيما بينهم للتعاون في مجالات الطاقة ونقلها الي أوروبا ،هذا بجانب الاتفاقيات الأخرى في مجال التعاون الاقتصادي والتجاري، سعت الدول الثلاث -مصر واليونان وقبرص- إلي تكوين شراكة شاملة ولهذا امتد التعاون ليشمل المجال الأمني والعسكري، وأجرى عدد من التدريبات المشتركة، سواء في إطار ثنائي أو ثلاثي وأهمها التدريب البحري الجوي المشترك (ميدوزا) في نسخه العشر، والتي حققت تجانسا وتنسيقا على مستوى عال بين شركاء شرق المتوسط بما يحقق الردع الكافي للحفاظ علي المصالح الاقتصادية والأمنية المشتركة.
مصر ذهبت بهذا التحالف الي أبعاد أخري إنسانية تعزز من الروابط المشتركة التي تجمع شعوب الدول الثلاث، ودشنت مبادرة أحياء الجذور بما يرسخ لأهمية البناء على التاريخ الحضاري والثقافي المشترك، مما عزز من التواصل الشعبي الذي يدفع مرحبا بتحركات القادة لتكتمل الشراكة الشاملة وتضم بداخلها جميع المجالات السياسية والاقتصادية والعسكرية وأيضا الثقافية والشعبية.
منتدي الغاز منظمة إقليمية جديدة:
شراكة ذهبت بأحلام مصر واليونان وقبرص إلى آفاق أرحب تستوعب المزيد من الشركاء، حيث عملت الدول الثلاث علي تدشين منتدى غاز شرق المتوسط، والذي يدخل قريبا مرحلة التحول لمنظمة إقليمية بعد توقيع الدول المؤسسة علي الميثاق المؤسس ليضم أيضا دولا أخرى، مثل فرنسا والإمارات، وأيضا الولايات المتحدة بصفة مراقب ودول أخرى، منظمة إقليمية تهدف لتعزيز التعاون في مجال الطاقة بشكل خاص، ولكن آثارها الإيجابية ستنعكس علي التعاون البناء بين مختلف دول المتوسط باستثناء الطرف التركي المعزول إقليمياً، ويرفض الانخراط في العمل الاقليمي، ويسعي عبر ممارسته العدائية للسطو علي مقدرات دول الإقليم.
منتدي الصداقة:
كما دشنت اليونان مؤخرا منتدى الصداقة، والذي يعد أحد مخرجات هذه التحركات الإقليمية الرامية للتنمية والسلام ليضم في اجتماعه الأول بجانب مصر واليونان وقبرص عددا من الدول الخليجية والأوروبية، في محاولة لمد جسر جديد للتعاون بين دول شرق المتوسط ودول الخليج العربي، أملاً في خلق قنوات تعاون اقتصادي مدعوم برغبة في التنمية والحفاظ علي استقرار المنطقة ومواجهة التحديات المشتركة.
زخم وحراك مصري يوناني قبرصي أسفر عن إيجاد المصالح والحفاظ عليها والبناء علي الروابط المشتركة، بل تأسيس الكيانات اللازمة لتنمية تلك الشراكة التي تحققت بتوافر الإرادة السياسية المدعومة برغبة شعبية تتطلع للمزيد من المنحازين إلى تجمع ثلاثي شرق المتوسط.
الرباعي العربي القاهر للإرهاب:
أحيت مصر مجددا مفهوم الأمن القومي العربي الذي غاب عن الوعي الجمعي العربي عقب ما يعرف بثورات الخريف العربي التي شكلت أحد أخطر مهددات الأمن القومي العربي بما ساهم علي تمزيق الأراضي العربية والإضرار المباشر بأمن وسلامة الإقليم عبر أدوات الحرب بالوكالة، والمتمثلة في الجماعات الإرهابية بمسمياتها المختلفة، والتي عملت كأذرع مسلحة للأطراف الخارجة التي لديها أطماع تهدف لسلب مقدرات الشعوب العربية. مصر لم تكن بعيدة عن مرمي التطرف والإرهاب، بل حاربته بكل قوة في الداخل ودحرت فلوله، بل سعت لخلق تعاون إقليمي يساهم في تجفيف منابع الإرهاب وشل حركته في المنطقة العربية.
انطلاقا من هذه الرغبة، اتجهت مصر للعمل مع الشركاء العرب الذين تجمعهم نفس الرغبة ليتشكل الرباعي العربي الداعي لمحاربة الإرهاب عام 2017 ليضم مصر والسعودية والإمارات والبحرين تلك الدول التي اتخذت الكثير من الخطوات المهمة والفعالة، والتي حجمت الدور القطري الداعم للإرهاب وأحكمت السيطرة وأعاقت بشكل كبير تحركات أفراد وأموال الجماعات الإرهابية في المنطقة العربية، خاصة إلى دول التحالف التي نسقت أمنياً ومعلوماتيا فيما بينها، مما ساهم في تقليل مخاطر الإرهاب علي دول الرباعي العربي التي نجحت في إنشاء أول تكتل عربي يدعم بشكل مباشر فكرة الحفاظ علي الأمن القومي العربي ومحاربة الإرهاب.
مصر-الاردن-العراق .. طاقة وتجارة وإعمار:
استكمالاً لسعي الدولة المصرية نحو خلق تحالفات إقليمية تحقق شراكات سياسية واقتصادية وأمنية، نظرت مصر بعين الاعتبار لعلاقتها المتميزة مع كل من الأردن والعراق، وسعت لإحداث تقارب بناء يجمع الدول الثلاث تحت مظلة واحدة، بغية تحقيق مكاسب مشتركة علي مختلف الأصعدة. بالفعل احتضنت القاهرة في عام 2019 أولي الاجتماعات التي ضمت قادة مصر والأردن والعراق بعد تحضيرات مسبقة علي مستوي رئاسة الوزراء ووزراء الخارجية ليتبع هذا عقد قمتين علي مستوي الزعماء وعددا من الاجتماعات الأخرى ضمت وزراء ومسئولين من الدول الثلاث في مختلف المجالات، تسعى الدول المتشاركة لخلق نموذج عربي جديد يهدف لخلق شراكة وتعاون شامل، خاصة أن الآفاق المنفتحة أمام هذا التحالف كثيرة ومتعددة مع تنوع الطاقات وتعدد الموارد، مما يمهد لإحداث تكامل اقتصادي واعد من الممكن أن يعتمد في الأساس علي الاستغلال الأمثل لموارد الطاقة ونقلها وإحداث شبكات لنقل الكهرباء والاستثمار في مجالات البنية التحتية، خاصة مع حاجة العراق الي خطة شاملة لإعادة الإعمار.
خطط طموح للتعاون بين مصر والأردن والعراق تهدف للتعاون في مجالات الطاقة والبنية التحتية والنقل، وأيضا التبادل السلعي وتعزيز التجارة البينية وتنمية الاستثمارات المشتركة، هذا بجانب التعاون في مجالات أخرى، وهي مهمة للغاية للحفاظ علي تلك الطموحات، وهي المجالات الأمنية ومحاربة الإرهاب بما يتيح للدول الثلاث خلق مناخ من الاستقرار يضمن استمرارية الشراكة وتنميتها. مصر والأردن والعراق بمواردهم المختلفة وثقافتهم المتقاربة وأهدافهم المشتركة من الممكن أن يحققوا أهدافهم الرامية لتحقيق التنمية وترسيخ الاستقرار، وأيضا توحيد وجهات النظر حيال الكثير من القضايا الإقليمية محل الاهتمام المشترك.
رباعية ميونيخ من أجل فلسطين:
انخرطت مصر في رباعية ميونيخ التي تضم أيضا ألمانيا وفرنسا والأردن، والتي تعد أحد مخرجات مؤتمر ميونيخ للأمن للعام 2020 وتهدف لإحياء عملية السلام ودعم المسار التفاوضي، وصولا لحل عادل للقضية الفلسطينية يحفظ مبدأ حل الدولتين، ويعد الوجود المصري بهذه الآلية هو اعتراف دولي بدور مصر المحوري والإيجابي تجاه القضية الفلسطينية التي لم تتخل القاهرة عن مناصرتها طوال الوقت، ولم تغير أيا من ثوابتها تجاهها، وشاركت الدبلوماسية المصرية في مختلف الاجتماعات الخاصة بآلية ميونيخ.
واستضافت في ديسمبر الماضي اجتماعا لوزراء خارجية المجموعة، ساهم بشكل فعال في تفعيل ودفع عمل الآلية في توقيت بالغ الخطورة يشهد الكثير من المتغيرات الدولية والإقليمية تلفت الأنظار عن القضية العربية المركزية، وهي القضية الفلسطينية ،ولهذا أعطت القاهرة اهتماما كبيرا لآلية ميونيخ كونها تتكون من أطراف عربية أوروبية مما يعيد الاهتمام الدولي لمناصرة القضية الفلسطينية ويعطي ثقلا للتحركات المستقبلية الهادفة لحلحلة تلك القضية.
الدول المتشاطئة علي البحر الأحمر:
مجلس الدول العربية الإفريقية المطلة علي البحر الأحمر وخليج عدن، الذي يتخذ من الرياض مقرا له، يعد تكتلا إقليميا وليدا دعت له المملكة العربية السعودية ويضم ثماني دول رحبت مصر بالوجود به والعمل لتحقيق أهدافه الساعية لضمان أمن وسلامة هذا الشريان الملاحي الحيوي، وأيضا تعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي والبيئي والثقافي بين دول المجلس الذي يضم بجانب السعودية كلا مصر والأردن والسودان واليمن وإريتريا والصومال وجيبوتي، فهو مجلس يضم دول عربية وإفريقية تلعب فيه مصر دورا محوريا كونها حلقة الوصل الأقوي بين الجانبين بعد أن استعادت الريادة التي تناسب مكانتها الإقليمية، ويعد هذا التكتل الوليد فرصة جديدة للدول المتشاطئة علي البحر الأحمر للحفاظ علي مصالحها المشتركة وخلق مجالات أرحب تستوعب طموحات وأحلام شعوب تلك الدول، وأيضا مجابهة مخاطر الإرهاب والقرصنة، والحفاظ علي استقرار الملاحة في البحر الأحمر
منصات السلام:
مصر، بجانب إنشائها أو انخراطها في التحالفات الإقليمية الجديدة التي تعد لغة السياسة الخارجية في المستقبل، سعت أيضا لإنشاء منصات دولية وإقليمية تهدف لنشر قيم السلام والتعايش المشترك وساهم في هذا بشكل فعال الشباب المصري الذي استطاع أن يدشن منتدي شباب العالم الذي أصبح رقما مهما في حوار الحضارات والتواصل بين الشعوب. ولعل اعتماد الأمم المتحدة للمنتدي كمنصة دولية هو انجاز انساني مصري يأتي في إطار دبلوماسي تحقق علي يد خيرة الشباب المصري الذي ثمّن القيم الإنسانية ورسخ للتعايش وحوار الحضارات، وتبع هذا أيضا إنشاء مصر للعديد من المنصات الملتقيات المهمة، مثل منتدى الشباب العربي الإفريقي كما أسست القاهرة لمنتدي مكافحة الفساد في إفريقيا، كما كانت راعية للمنصة التي جمعت رؤساء المحاكم الدستورية الإفريقية، وأنشأت عددا آخر من الملتقيات الاقتصادية والسياسة والشبابية التي تساهم بشكل فعال في تطوير العمل الإقليم بطرق غير نماطية تواكب التحديات المستحدثة علي الساحة الإقليمية
أخيراً، مصر تؤسس بناء دبلوماسي مستقبلي يعمل من أجل الحاضر ويخوض المعارك الدبلوماسية حفاظا علي مقدرات الوطن، كما يمهد للمحافظة علي مكانة مصر الإقليمية بعد أن أعادت ثورة 30 يونيو القاهرة لتصبح عاصمة صنع السياسية والاقتصاد في إفريقيا والمنطقة العربية والشرق الأوسط ، وهو ما لم يتحقق بالتمني، بل تحقق بالعمل الدءوب بقيادة دبلوماسية رئاسية أدركت التحديات ووضعت الخطط والحلول لتجاوزها، إلى جانب قيادة رشيدة لكل مؤسسات الدولة المصرية نحو بناء ديلوماسي حديث يليق ومصر الحديثة التي تشهد بناءا وتطويرا علي مختلف الأصعدة الأخري.