تناولنا في الجزء الأول من سلسلة مقالات مصر والريادة الإقليمية تاريخ الريادة الإقليمية لمصر، فتحدثنا عن أهمية موقع مصر الجغرافي، وأنها تمثل نقطة المركز بالنسبة للكرة الأرضية. لذا، من يريد التحكم والوصول إلى أطراف العالم، سيحرص على وجوده في نقطة المركز، وهي مصر، وهو الأمر الذي يفسر كونها مطمعاً عالمياً على مر العصور، كما ركزنا على أهم ملامح تاريخ مصر في الريادة الإقليمية، سواء كانت ريادة عربية وإسلامية أو ريادة إفريقية، والتي تطورت في كثير من الفترات الزمنية لتصل إلى الريادة العالمية.
وتناولنا في الجزء الثاني التحديات المختلفة التي اعترضت طريق الريادة المصرية، وألقت بظلالها السلبية على الاقتصاد المصري، لنركز تحديداً على أهم التحديات الاقتصادية التي واجهت الريادة الإقليمية المصرية، سواء العربية منها أو الإفريقية، بدءاً من عام 1952. والتي تم تشخيصها لتتنوع ما بين سوء تقدير داخلي لأولويات التنمية الاقتصادية، وأخرى ناتجة عن ظروف خارجية محيطة، لكن الأمر سرعان ما كان يعود لأفضل مما كان عليه.
وسنركز في هذا المقال على المستقبل الواعد للريادة المصرية، بدءاً من عام 2014 وحتى مطلع عام 2019، من خلال عرض النقاط المضيئة التي مرت بالعلاقات الاقتصادية والسياسية المصرية سواء على المستوى العربي أو الإفريقي، خلال تلك الفترة، ومنتظر أن تؤثر إيجابياً فى مستقبل الريادة الإقليمية لمصر عربياً وأفريقياً.
فإذا ما تحدثنا عن عودة العلاقات السياسية والاقتصادية بين مصر والدول العربية والإفريقية، فسنجد أن تلك الخطوة بدأت بتأييد الدول العربية لرغبة الشعب المصري واعترافهم بثورة 30 يونيو 2013، ليتم دعم العلاقات السياسية المصرية-العربية، بالإجماع العربي على أهمية تماسك الدولة المصرية، والذي ظهر جلياً من خلال المساعي العربية الدولية الهادفة إلى توضيح رغبة الشعب المصري إبان ثورة 30 يونيو أمام دول العالم الكبرى، وحشد التأييد العالمي، وهو الأمر الذي يؤكد الأهمية الإقليمية الكبرى لمصر بالنسبة للدول العربية.
لم يقتصر الأمر على التأييد السياسي لمصر من جانب الدول العربية فحسب، بل امتد الأمر لدعم العلاقات الاقتصادية بصورة أكبر، من خلال تدفق الاستثمارات العربية على المشروعات الاقتصادية المصرية، مثل محور قناة السويس، والتعاون العربي في تنمية سيناء بإقامة الكثير من المشروعات، مثل مشروع جسر الملك سلمان البري بين مصر والسعودية، الذي يربط بين شمال غرب السعودية في منطقة تبوك، الواقعة على البحر الأحمر بمحافظة جنوب سيناء في شمال شرق مصر، ويمر بمدينة شرم الشيخ، ويسمح بمرور السيارات، ويضم خطا للسكة الحديد لنقل البضائع والركاب، وكذلك جامعة الملك سلمان، التي من المقرر أن تتوزع كلياتها على ثلاث مدن، هي الطور، ورأس سدر، وشرم الشيخ، وتضم أماكن لسكنى الطلبة، والملاعب، والمباني المساعدة، ويتم تمويل تنفيذها من صندوق الاستثمار السعودي، وتأتي ضمن برنامج الملك سلمان لتنمية سيناء. وتهدف الجامعة إلى الارتقاء بالمستوى العلمي، ورفع التوعية والتعليم بالمنطقة، والذى يقضي بدوره على الأفكار المتشددة والمتطرفة في شبه جزيزة سيناء، كما يتيح المشروع لسكان سيناء وغيرها فرصة التعليم الجامعي، ويؤهلهم للالتحاق بمجالات العمل المتوافرة بمحافظتي شمال وجنوب سيناء أو البيئات المماثلة.
لم يقتصر التعاون العربي على النطاق الثنائي بين مصر وأي من الدول العربية، بل اتسع نطاق التعاون ليمتد إلى تعاون عربي متعدد الأطراف، ليتم الإعلان عن إنشاء منطقة "نيوم"، التي تمتد لأول مرة بين ثلاث دول هي السعودية، ومصر، والأردن، باستثمارات تبلغ 500 مليار دولار. وتقع المنطقة شمال غرب المملكة، على مساحة 26.5 ألف كيلو متر مربع، وتطل من الشمال والغرب على البحر الأحمر وخليج العقبة بطول 468 كيلو متراً، ويحيط بها من الشرق جبال بارتفاع 2500 متر، وستشارك مصر بألف كيلو متر مربع من أراضيها في جنوب سيناء لتكون جزءاً من المشروع.
ولم يخل التعاون المصري-العربي على تلك المشروعات فقط، بل امتد ليشمل تدعيم العلاقات الاقتصادية المصرية العربية، من خلال الاستثمار العربي خاصةً الإماراتي والسعودي في المدن المصرية الجديدة، مثل العلمين الجديدة والعاصمة الإدارية، ليتأكد أمام العالم أن عودة مصر اقتصادياً وسياسياً تأتي على قائمة الأولويات العربية.
ولم يخل الأمر من مواقف عربية تتصدرها مصر، مثل الانضمام لقوات التحالف العربي في اليمن عام 2015 بهدف الحفاظ على وحدة اليمن من هجمات الحوثيين، والذي شاركت فيه مصر مع كلٍ من المغرب، والأردن، والسودان، والإمارات العربية المتحدة، والكويت، والبحرين، والصومال، كما تصدرت مصر المشهد العربي بالمطالبة بعودة مقعد سوريا في الجامعة العربية، بعد أن تم تعليق عضويتها في نوفمبر 2011، نتيجة لضغوط عدة مارستها دول عربية، لاسيما الدول الخليجية، لتعاود مصر في فبراير 2019 بالمطالبة بعودة سوريا إلى الجامعة العربية. وعلى صعيد آخر لا يخفى على أحد الدعم السياسي المصري للقضيتين الليبية والسودانية، وهو الأمر الذي يؤكد حرص مصر على الهوية العربية والتماسك العربي.
وعلى صعيد عودة العلاقات الإفريقية، عادت مصر إلى عضوية الاتحاد الإفريقي عام 2014، وذلك عقب الانتخابات الرئاسية، لتتوج برئاسة الاتحاد الإفريقي عام 2019. وما بين أعوام 2014 و 2019، توالت الزيارات الرئاسية للكثير من الدول الإفريقية، ليصل عدد تلك الزيارات إلى 26 زيارة رسمية إلى الدول الإفريقية حتى مايو 2019، لتتغلب مصر على أزمة سد النهضة بتدعيم العلاقات الاقتصادية والسياسية مع إثيوبيا، وهو الأمر الذي انعكس إيجابياً على تأجيل خطى تشييد السد، ليخرج رئيس الوزراء الإثيوبي بتصريح في ذلك الشأن أمام مجلس النواب الإثيوبي ليقول "القادة يجب أن يكونوا دائما حذرين من قراراتهم"، في إشارة واضحة لأهمية الحفاظ على العلاقات المصرية- الإثيوبية.
تماشياً مع رئاسة مصر للاتحاد الإفريقي عام 2019، فقد تمت دعوتها للمشاركة في أعمال قمة مجموعة العشرين حول الشراكة مع إفريقيا في أكتوبر 2018، وذلك تلبيةً لدعوة من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بهدف تعزيز المباحثات حول توفير مناخ موات لجذب الاستثمارات إلى إفريقيا بشكل مستدام، لتحفيز نمو الاقتصاد بالقارة وتوفير فرص العمل، ورفع معدلات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وتأكيداً على حرص مصر على التعزيز المستقبلي للتعاون الإفريقى من أجل زيادة التكامل بين دول القارة بأكملها، وانطلاقاً من تولي مصر رئاسة الاتحاد الإفريقى خلال عام 2019، تسعى مصر إلى تدعيم مشروعات الربط الكهربائى بينها وعددٍ من الدول الإفريقية بهدف تحقيق التنمية المستدامة للمنطقة، لتبدأ بدول شرق إفريقيا، وتستهدف توصيل الكهرباء والطاقة بين المناطق الجنوبية والشمالية من القارة، على أن يكون هناك خطوات جادة لاستغلال موقع مصر الفريد عبر القارات بهدف الربط الكهربائي بين إفريقيا وآسيا.
كما لم تغفل مصر الأنشطة الاقتصادية بين دول القارة الإفريقية، ليتم تدشين عدد من المشروعات الاقتصادية المشتركة بين السودان وتشاد في مجالات الثروة الحيوانية، والزراعة، والأدوية، وكذلك إحياء فكرة الربط بين الدول الإفريقية بواسطة خط للسكك الحديد ليمتد من جنوب القارة إلى شمالها "كيب تاون-القاهرة".
وتأكيداً من مصر على هويتها الإفريقية، أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسى، فى ختام منتدى الشباب الدولى الثانى، عن اختيار مدينة أسوان لتكون عاصمة الشباب الإفريقى فى عام 2019، وإقامة منتدى الشباب العربى والإفريقى بها، وهو الأمر الذي لاقى استحسان الكثير من الشباب الإفريقى الحاضر للمنتدى، لتخصص مصر مساحة بمحافظة أسوان لإنشاء أول وأكبر مدينة رياضية إفريقية بمصر تحت مسمى المدينة الإفريقية الرياضية. كما أعلنت مصر عن تقديم فرص تدريبية لنحو 1000 من القيادات الشابة الإفريقية.
واعترافاً بالدور الريادي الذي تلعبه مصر في المنطقة العربية والإفريقية، جاءت عضوية مصر غير الدائمة في مجلس الأمن 2016/2017 ، ترسيخاً لدورها الرائد والمحوري كمنارة للاستقرار في الشرق الأوسط وإفريقيا، وتأكيداً لوضعيتها المتصاعدة على المستوى الدولي، في ظل ما تبذله من جهود مقدرة لتعزيز السلم والأمن في المنطقة والعالم، من أجل الدفاع عن المصالح العربية والإفريقية وغيرها من الدول النامية.
وتأكيدا على ما تحظي به مصر من دعم وتقدير على المسرح الدولي، فازت مصر بعضوية مجلس حقوق الإنسان التابع لمنظمة الأمم المتحدة عن الفترة من 2017 حتى 2020، وذلك بعد أن حصدت ١٧٣ صوتا خلال الانتخابات التي عقدت بالجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي تعد من أعلى نسب التأييد التى حظيت بها الدول المرشحة. وهو الأمر الذي يعكس المكانة الرفيعة والثقة المتزايدة الذي تحظي بها مصر على الصعيد الدولي، ودورها الرائد في تعزيز الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط وإفريقيا.
ومع عودة الصدارة الطبيعية لمصر عربياً وإفريقياً، تتشكل مجدداً مكانة مصر المتميزة عالمياً، لتتبلور معالمها من خلال التدريبات العسكرية المشتركة مع كلٍ من السعودية، والإمارات، والبحرين، والكويت، واليونان، وإيطاليا، وروسيا، والصين، وأمريكا، وبريطانيا، وهو الأمر الذي يؤكد القدرة القتالية المصرية المدعمة لريادتها الإقليمية.
ويأتي المؤتمر العربي-الأوروبي الذي استضافته مصر بمدينة شرم الشيخ في فبراير 2019، بحضور خمسين من زعماء الدول العربية والأوروبية، ليؤكد مكانة مصر السياسية حالياً على الساحة الدولية ودورها المركزى فى المنطقة، وحلقة وصل ونقطة التقاء للحضارة العربية والأوروبية، وتم من خلال المؤتمر مناقشة العلاقات العربية-الأوروبية، من خلال تناول مجموعة من المشكلات والتحديات المشتركة، مثل التجارة، والاستثمار، والهجرة، وسبل مواجهة الإرهاب، وتطور الأوضاع فى سوريا، وليبيا، واليمن.
وعقب نجاح مصر في استضافة القمة العربية-الأوروبية التي عقدت في شرم الشيخ، وحضور عدد من قادة أوروبا، من بينهم رئيسة وزراء بريطانيا، تريزا ماى، والمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، انهالت على مصر دعوات للمشاركة في أكبر قمتين اقتصاديتين، التي تتوجه لهما أنظار العالم أجمع فى كل عام، ألا وهما الدول الصناعية السبع المعروفة بـ G7 ، وقمة العشرين G20.
وتأكيداً على مكانة مصر المتميزة عالمياً، تمت دعوة الرئيس السيسي لحضور مؤتمر قمة "منتدى الحزام والطريق الثاني للتعاون الدولي" في العاصمة "بكين" خلال أبريل 2019، والتي يشارك فيها 37 رئيس دولة وحكومة، وهو الأمر الذي يعكس قوة العلاقات المصرية-الصينية، ويؤكد مكانة مصر المتميزة في الربط بين القارات الثلاث الآسيوية، والأوروبية، والإفريقية، ويبشر بمجالات التنمية المنتظرة بين الدول المشاركة، من خلال الشراكات الاقتصادية والتجارية ومشروعات البنية التحتية إضافة إلى التفاعل والتبادل الثقافي بين الشعوب.
فها هي مكانة مصر الطبيعية تعود للريادة الإقليمية مجدداً لتتغلب على التحديات التي اعترضت طريقها، لتستفيد من تاريخها الريادي إقليمياً بترسيخ الإيجابيات وتجنب الوقوع في السلبيات المتعلقة بعلاقتها الاقتصادية والسياسية على المستويين العربي والإفريقي، لتنطلق إلى مستقبل واعد بقيادة حكيمة، استوعبت أخطاء الماضي، وأقسمت على عودة الريادة التاريخية لبلادنا لتتغلب على التحديات الراهنة، وتنطلق بمصرنا إلى مستقبل واعد.