ثمة عدد من التحولات النوعية يشهدها الداخل الفلسطينى، أهمها يتمثل فى تداعيات أزمة الانقسام الفلسطيني، بالتوازى مع تنامى الخطوات الأمريكية لإنجاز مشروع السلام المعروف إعلاميا بـ "صفقة القرن"، إذ تبقى التفاهمات الفلسطينية- الفلسطينية هي الركيزة الأساسية نحو إنهاء الانقسام، والتفرغ لتطويق تحركات "صفقة القرن" التى أعلن الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" عن سعيه لصياغتها لإنهاء الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ومحاصرة المحاولات المختلفة لإسقاط القضايا الخلافية من عملية التسوية، مثل: عودة اللاجئين ووضع مدينة القدس المحتلة، والاستيطان فى الضفة الغربية، وغيرها، ليدفعنا إلى التساؤل حول مدى إمكانية إنجاح خطوات المصالحة بين طرفى المعادلة الفلسطينية فى ظل جدليات الانقسام المتعددة، وما يقابلها من انعكاسات على مستقبل "صفقة القرن" وطبيعة مساراتها المحتملة.
جدليات الانقسام:
من الصعوبة إرجاع الانقسام الداخلى لفواعل القضية الفلسطينية إلى نقطة جدلية واحدة يتم التغلب عليها بإجراء مزيد من الحوارات بين "فتح" و"حماس"، دون النظر إلى المسببات الأخرى للانقسام ومعالجتها من الداخل، بدءاً بإعادة هيكلة الحركة الوطنية الفلسطينية، والتوافق على البرنامج السياسي العام من قبل مختلف الفصائل والقوى ومؤسسات المجتمع المدنيز فالشراكة هي السبيل الوحيد لإنهاء الانقسام، أو إعادة إنتاجه من جديد. ومن خلال تتبع تطورات الانقسام الفلسطيني ومحطاته، وإخفاقات الحوارات والنقاشات السابقة لإنهائه، نستطيع رصد أبرز جدليات الانقسام على النحو الآتي:
جدليات داخلية:
1. يسود الفصائل الفلسطينية الاختلاف الأيديولوجي، وتنوع الاستراتيجيات السياسية والنضالية، مما يؤدي في النهاية إلى نهج في العمل الفصائلي مختلف ومتناقض أحياناً في مجابهة المشروع الصهيوني، في ظل غياب البرنامج السياسي العام، ويفتح الباب على مصراعيه للتأويل والتفرد بالمشروع الوطني لفصيل سياسي دون آخر.
2. اقتصار جلسات الحوار على حركتي فتح وحماس، أي حوارات تركز على أشكال من المحاصصة على السلطة، وليس بناء مشروع وبرنامج سياسي وطنيين تُجمع عليه مكونات الحقل السياسي الفلسطيني.
3. غياب الإطار الفلسطيني الجامع لكل فصائلة، والمعبر عنه في منظمة التحرير بعد إعادة بنائها، وفقا للنهج الوطنى التشاركى، وكذلك تحديد العلاقة بين السلطة والمنظمة كمرجعية وطنية عليا، بعد تشابك وتداخل الصلاحيات فيما بينهما.
جدليات خارجية:
1. التداخل الإسرائيلى في تعميق هوة الانقسام الفلسطيني، جغرافياً وسياسياً، وعرقلة جميع الجهود لإتمام المصالحة الفلسطينية التي يراها تهديداً لاستراتيجيته القائمة على تجزئة الشعب الفلسطيني، وتقسيم أرضه، وتفريغ القضية من مضمونها لخدمة أهدافة الاستيطانية، وخريطة "إسرائيل الكبرى".
2. التجاذبات الخارجية، الإقليمية والدولية، التي ساعدت طرفي الانقسام على الاستقواء بمواقف ودعم أطراف خارجية لتعزيز موقفهما في حوارات المصالحة بطريقة أسهمت في إطالة عمر الانقسام، وذلك بالنظر إلى شروط اللجنة الرباعية الدولية التي عمدت كل من إسرائيل والإدارة الأمريكية لتوظيفها كعقبة في طريق جهود المصالحة.
خطوات المصالحة:
منذ فوز حركة حماس بالأغلبية في انتخابات المجلس التشريعي عام 2006، وتشكيلها الحكومة الفلسطينية، انتهجت العلاقات بينها وبين حركة فتح نفقًا مظلمًا من الانقسام والمناكفات السياسية والصدامات الدامية بين الحركتين، أسفرت عن عزلة شبه تامة بين رام الله، حيث سلطة حركة فتح وغزة، حيثما تتمركز حركة حماس، ليُعاد إنتاج العلاقات بين طرفى الخلاف، وفقا لعدد من الخطوات الإقليمية والدولية، المتمثلة فى:
خطوات إقليمية: اتخذت القوى الإقليمية، وفى مقدمتها مصر، عددا من الخطوات الداخلية والخارجية لإنهاء حالة الانقسام بين حركتي فتح وحماس، بدءاً باتفاق مكة لعام 2007، مروراً بالورقة المصرية فى 2009، ثم اتفاق القاهرة 2011، واتفاق الدوحة 2012، واتفاق الشاطئ 2014، وصولا لاختبار اتفاق القاهرة 2017 الرامى لتوحيد مؤسسات السلطة وتمكين حكومة الوفاق الوطني من حكم قطاع غزة، الأمر الذى تم إنتاجه مجددا بمبادرة فتح الجديدة برعاية مصرية فى أبريل 2019، والتى تتضمن استكمال تنفيذ اتفاق 2017، وصولًا إلى انتخابات تشريعية ينتج عنها تشكيل حكومة وحدة تعطي كل فصيل حجمه الذي حصل عليه في صندوق الاقتراع.
خطوات دولية : فى سياق مغاير، اتخذت القوى الدولية خطوات "دعم المصالحة"، تمثل أهمها فى مخرجات "اللجنة الرباعية" عام 2006، التى شارك فيها كل من الولايات المتحدة، والاتحاد الأوربى، وروسيا، والأمم المتحدة، وأخيراً ما يتعلق بالخطوات الروسية لإنهاء حالة الانقسام باستضافة طرفى المعادلة الفلسطينية "فتح وحماس" فى يناير 2019.
مقاربات ثنائية:
انطلاقا من التساؤل الرئيسى حول مدى إمكانية نجاح خطوات المصالحة الفلسطينية وسيناريوهات إنهاء انقسام طرفى المعادلة "فتح وحماس"، تظهر مسارات الانعكاس لنتائج تلك السيناريوهات على مستقبل "صفقة القرن"، فى إطار من "المقاربات الثنائية"، حيث:
المقاربة الأولى- نجاح المصالحة وتمرير الصفقة
انطلقت المصالحة الحالية من "إعلان القاهرة 2017"، والتنفيذ خطوة وراء أخرى دون توافق على خط النهاية، إذ بعد تمكين الحكومة، عبر تسلمها لمؤسسات السلطة وتسلم حماس قيادة السلطة في القطاع إلى حكومة رام الله ونزع أسلحة المقاومة، يتم بحث مختلف القضايا الأخرى على أسس الشراكة السياسية لكل مكونات الحقل السياسي، بما ينهي حقبة الهيمنة والتفرد في القرار الفلسطيني، سواء في الضفة أو القطاع، وهو ما قد ينتهى به إلى إقرار سيناريو إعادة بناء المشروع الوطنى الهادف إلى توحيد الصف الفلسطينى، وتوفير بيئة مناسبة لمسار التسوية.
فى تلك الحالة، من المرجح تمرير الصفقة بعد "تأهيل" الأطراف الفلسطينية والعربية لقبولها، استنادا لوجود "صوت فلسطينى موحد"، وذلك بتسويق وتلميع الطرف الفلسطيني الملتزم بمسار التسوية، بحسبانه صامداً ومحافظاً على الحقوق الفلسطينية، مقابل "تراجع" الطرف الإسرائيلي والأمريكي عن بعض النقاط التى تم تسريبها من هيكل "صفقة القرن"، وتقديم ذلك كانتصارات للطرفين الفلسطيني والعربي، بالتزامن مع تمرير قضايا جوهرية معلقة أو تأجيلها، لأن تكون المحصلة النهائية اتفاقاً جديداً بتنازلات جديدة؛ خاصة في مواضيع القدس واللاجئين والسيادة على الأرض. فعلى سبيل المثال، يتم تخفيف التشدد الإسرائيلي فيما يتعلق بمساحة السيطرة الفلسطينية في الضفة الغربية من 60% إلى 40% أو 12%، وتتم جدولة "إعادة الانتشار" الإسرائيلي بطريقة يُمكن تسويقها، أو يتم توسيع دائرة النفوذ الفلسطيني في شرقي القدس، وإعطاء قدر من الإدارة المشتركة فيما يتعلق بالبلدة القديمة، أو يتم الاكتفاء بالمستعمرات القائمة دون ضم البؤر الاستيطانية، أو أن تتم الموافقة على إعلان الدولة الفلسطينية في إطار زمني قريب، مع توفير بعض أشكال "السيادة" والاستقلال الاقتصادي، ورفع الحصار عن القطاع، والموافقة على إنشاء الميناء والمطار، وتوفير ممر آمن بين الضفة والقطاع.. إلخ.
المقاربة الثانية- التقاسم الوظيفى وفشل الصفقة:
بالنظر إلى المآلات التفاوضية بين "فتح" و"حماس"، نجد أن مضمونها يسعى للمحاصصة في مؤسسات السلطة، ويرجع فشل جهود الحوار والمصالحة السابقة لفشل التوافق فى تطبيق ما تم الاتفاق عليه، وتغليب المصالح الحزبية، والتفرد والهيمنة على المصالح الوطنية، وتأسيس شراكة سياسية.
ومن ثم، فالتقاسم الوظيفي الفئوي بين الحركتين تحت مظلة حكومة واحدة قد يكون أحد سيناريوهات الاتفاق الأخير، لأنه يجنب كلاً من الطرفين تحمل مسئولية إفشال جهود المصالحة، ويبقي على مواقع قوتهما ونفوذهما في مؤسسات السلطة في القطاع، من خلال وجود موظفي الحركتين فيها، على أن يتم التوافق أولاً على معايير وأسس موجهة للجنة الخاصة بدمج وتنظيم أوضاع موظفي السلطة في القطاع بالتوافق الفصائلي دون تهميش، وعلى أسس تراعي الكفاءة والمهنية والاحتياجات الفعلية من الموظفين في كل مؤسسة.
فى حال تمت المحاصصة الهيكلية بالسلطة الفلسطينية، فمن المرجح إفشال مخطط "صفقة القرن" التى لا تصل بتسربياتها إلى الحد الأدنى الذي يقبل به الأطراف الفاعلة بالعملية السياسية الفلسطينية، بمن فيها الأطراف المؤيدة لمسار التسوية .
كما أن الطرف الفلسطيني، من خلال تحركاته على الأرض، ومن خلال مقاومته قادر على إفشال الصفقة، كما أفشل العشرات من مشاريع التسوية طوال السبعين سنة الماضية، فضلا عن كون البيئة العربية باتت غير متحمسة لإنفاذ الصفقة وفقا للتحركات الأمريكية الحالية .
المقاربة الثالثة- إعادة إنتاج الانقسام ونجاح الصفقة:
رغم توافر الدعمين، الشعبي والمؤسسي، ورغبة مؤيدي "فتح" و"حماس" في إتمام المصالحة، فإن مسار الفشل مطروح لأسباب عدة خلافا للخبرات التاريخية، أهمها انشغال طرفي الانقسام بعملية تطبيق هدف "تمكين الحكومة"، دون وجود فهم مشترك للتمكين وآلياته، واستمرار الإجراءات العقابية التي اتخذتها السلطة ضد القطاع، إضافة إلى وجود ملفات عدة وقضايا خلافية، كقضية العلاقة بين سلاح كل من السلطة والمقاومة، والبرنامج السياسي القادم للحكومة في ظل تأجيل بحث قضايا تطوير المنظمة إلى ما بعد تسلم الحكومة مؤسسات السلطة في القطاع، فضلاً عن الضغوط الخارجية، خاصة الإسرائيلية والأمريكية، التي تحاول فرض شروط على مشاركة "حماس" في مؤسسات النظام السياسي على مستوى الحكومة والمنظمة.
ومن ثم، فمن المُحتمل إنجاح الصفقة، وفق الشروط والمعايير الأمريكية المعروضة حالياً، أو حسبما تسرب من الصفقة، استنادا للمؤشرات التالية: حالة الانقسام بين الأطراف الفاعلة بالعملية السياسية الفلسطينية، والضغط الأمريكي بإقصاء الرئيس أبو مازن من العملية السياسية واستبداله بزعامة فلسطينية جديدة تُوفر الغطاء اللازم فلسطينياً لمسار التسوية، وإصرار الولايات المتحدة على إنفاذ خطوات التسوية عملياً على الأرض، وهو ما انعكس على قرار القدس وسيادة هضبة الجولان، بالإضافة إلى الضغط الأمريكي على الأنظمة العربية لإجبارها على دعم الصفقة.
فى الأخير، ثمة اتفاق موضوعى مفاده أن صفقة القرن تواجه مأزقاً حقيقياً بسبب صمود الشعب الفلسطيني وقواه الفاعلة رغم عدم إنجاز خطواته نحو إنهاء الإنقسام بين فصائله، بالإضافة لتراجع الدعم العربى للصفقة، فضلا عن ارتباك السياسة الخارجية الأمريكية بتحركاتها الأخيرة فى الشرق الأوسط. ومن ثم، فبالنظر للمقاربات الثلاث، فقد تكون المقاربة الثانية هى الأكثر ترجيحا فى ضوء التحركات الفلسطينية والعربية الأخيرة، بينما المقاربة الأولى لن تكون مستبعدة وتظل "تحت المراقبة". وبالنظر للمقاربة الثالثة، فعلى الرغم من اتساق جزئها الذى يتعلق بإعادة إنتاج الانقسام الفلسطيني بالمشاهدات الواقعية بين مختلف الفصائل، فإنها مقاربة مستبعدة فيما يتعلق بإنجاح "الصفقة" لأمور تتعلق بالتوافق العربى حول محاصرة محاولات الإدارة الأمريكية والإسرائيلية لإسقاط القضايا الخلافية من عملية التسوية، ومشروع السلام المُزمع والمعروف إعلاميا بـ "صفقة القرن"، وهو ما تم إقراره بـ "إعلان تونس" مارس 2019، و"البيان الختامى" لاجتماع مجلس الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية فى أبريل 2019.