نعلم جيداً أنه خلال الحكم النازى بألمانيا، كانت الدعاية السياسية أقوى الأسلحة التى اعتمد عليها الحزب، وكانت الأيديولوجيا السياسية القائمة عليها هى غزو العالم، وكانت القوة المستخدمة فى تلك الفترة هى القوة الناعمة بمفهومها الحديث الذى أطلقه جوزيف ناى. ولكن آنذاك، لم يكن المصطلح قد وضع بعد، وإنما تناول مفهوم القوة الناعمة يرجع لآلاف السنين لأى محاولة استعمارية من أمة على أمة أخرى. والمقصد هنا الانتباه لما حدث فى ألمانيا باستخدام الشائعات، والإعلام، والإذاعات لتوصيل الرسائل التى يستهدفها الحكم النازى للسيطرة ؛أى أن القوة الناعمة لعبت دوراً مهماً إبان تلك الفترة. واستخدم زعيمهم أدولف هتلر فكرة الدعاية السياسية للقيام بهذه المهمة، حيث إيمانهم بقدرتهم على التأثير والإقناع وليس الإكراه، باستغلال الأوضاع الاقتصادية المتردية التى عانتها البلاد، وشعر المواطنون باليأس الشديد، فبدأت الدعاية للالتفاف حوله بأنه المخلص الوحيد والمنقذ من الفوضى وحالة الضياع بعد أن اجتاحت الاضرابات والاحتجاجات ألمانيا بصورة مكثفة، نتيجة للفقر المدقع، وسوء الأحوال المعيشية، وما نتج عنها من آثار وسلبيات، بالإضافة لحالة التضخم الشديد التى تلت هزيمة ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى، وما فرضته الدول المنتصرة من تعويضات باهظة عملت على مضاعفة الأزمة الاقتصادية. لذا، اعتمد هتلر على رفيقه جوزيف جوبلز الذى تفنن فى استخدام وسائل الإعلام للترويج عن الفكر النازى، كما وضع مدرسة متفردة فى الدعاية السياسية، ويعد مؤسس النظم الدعائية الحديثة.
استطاع جوبلز باستخدام وسائله المتعددة أن يقنع الشعب الألمانى بالتيار النازى، وبما سيقدمه هتلر من خلاص لكل أشكال الضعف والهوان التى تتعرض لها ألمانيا، وابتكر وسيلة خداع جديدة، حيث أقلع هتلر بطائرة تطوف حول مئة قرية ألمانية ليتأكد من شعبيته، كما ابتدع جملة شهيرة "القائد فوق ألمانيا"، والتقطت الصور التذكارية لهتلر من الطائرة وعرضت فيما بعد فى جميع أنحاء ألمانيا، وهى بذلك كانت إحدى الوسائل المهمة بحسبانها أحد أشكال القوة الناعمة آنذاك. ولم يكتف جوبلز بهذا الحد، وإنما نظم مسيرة بالمشاعل للميليشيات العسكرية النازية ليلاً في برلين وبعض المدن الألمانية الكبرى، وصولاً إلى مقر المستشارية بعد فوز هتلر بمنصب مستشار ألمانيا، وأشاع وقتها جوبلز أن أعداد هؤلاء فاقت المليون. إلا أن البعض قدر تلك الأعداد بما لا يزيد على خمسة عشر ألف شخص. وبعد وصول النازيين للحكم عام 1933 واستيلائهم على حكم البلاد، أنشأ هتلر وزارة جديدة تحت اسم وزارة التنوير والدعاية السياسية ترأسها صديقه جوبلز، إذ تعمل هذه الوزارة على ضمان نشر الرسالة النازية بنجاح، من خلال الفنون، والموسيقى، والمسرح، والأفلام، والكتب، والإذاعة، والمواد التعليمية، والصحافة.
وبالفعل، استطاع هتلر أن يحظى بشعبية جارفة رغم ديكتاتوريته وعدم قبوله للآخر، لكن أساليب الدعاية الممنهجة صنعت منه زعيماً، وتحولت ألمانيا على يديه إلى الحكم الديكتاتورى القائم على حكم الحزب الواحد بدلاً من الديمقراطية، ونظم النازيون حملة دعاية هائلة لكسب ولاء وتعاون الألمان. وتولت وزارة الدعاية النازية برئاسة جوزيف جوبلز جميع أشكال الاتصال في ألمانيا، مثل وسائل الإعلام كالصحف والمجلات والإذاعة والكتب، وأيضاً الاجتماعات العامة والحشود، إلى جانب الفنون والموسيقى والأفلام. كما تم حظر الآراء التى تهدد المعتقدات النازية أو نظام الحكم بأية طريقة من الطرق، كما تم إلغاؤها من جميع وسائل الإعلام.
لقد خاطبت الدعاية النازية المشاعر وتلاعبت بالعواطف فلم تترك للشعب فرصة للتفكير الهادئ فتبلدت عقوله حتى كف عن التفكير، ولم يعد يشغله سوى أمر واحد (هتلر هو القوة، بل القوة الوحيدة الحقيقية). وتأكيداً على ذلك، يقول هتلر "لقد أوصلتنى الدعاية إلى الحكم، وبالدعاية حافظنا على مراكزنا، وبها سوف نستطيع غزو العالم كله"، ويرى كذلك أنه "بالاستخدام المستمر للدعاية الماهرة باستطاعتك أن تصور للجمهور الجنة وكأنها الجحيم، أو الحياة البائسة للغاية وكأنها الجنة"، وكل هذا يعكس قدرة الدعاية الناجحة على استقطاب الجماهير إليها مهما تكن مزيفة للحقائق، ومهما تكن صعوبة توجهاته، لكن باستخدام وسائل القوة الناعمة تستطيع أن تحرك مشاعر المواطنين وعواطفهم فيما ترغبه الدولة. وفى هذا الشأن، يقول جوبلز "إن الدعاية يجب أن تكون مستخدمة في حكم الشعب، ويجب أن تكون مكانتها الأولى بين تلك الفنون، ولا يمكن الاستغناء عنها فى بناء الدولة الحديثة، والهدف منها هو قيادة الناس إلى الأفكار التي ترغب الدولة في أن يعتنقها الجميع".
علينا قراءة التاريخ جيداً والاستفادة من الماضى، والتعلم من دروس الآخرين. ونظراً لما تعانيه المنطقة العربية من أخطار محدقة، ومؤامرة صهيونية دنيئة لمصلحة العدو الصهيونى الذى تم استزراعه كجرثومة تنشر سمومها بين الحين والآخر فى أى اتجاه أرادت، وتسطو بخستها على مقدراتنا وخيراتنا جميعاً، وتروج هذه المؤامرة لأهدافها، من خلال وسائل الإعلام المختلفة، وأساليب الدعاية الحديثة لقلب الحقائق وسيرها فى الاتجاه المراد لهم، لا نزال للأسف نعانى أثر التغييب، ولا يزال الكثيرون لا يدركون حجم تلك المؤامرة، ولم يع كثير من شباب أمتنا أننا فى حرب وجود، وهى أشرس حرب نجابهها وعلينا الانتباه. سيدى الرئيس إن وطننا فى حاجة قوية لاستخدام الإعلام بشكل أكثر جاذبية وفاعلية وتأثيرا، كذلك استخدام الفنون بتوجيه مباشر لخدمة بلدنا وخدمة الأغراض السياسية البناءة، وهذا ليس عيباً، بل علينا دعم جميع المؤسسات فى اتجاه دولتنا الحديثة وأهدافها ومصالحها بوضع خطة استراتيجية للدعاية والتنوير باستخدام مختلف أشكال القوة الناعمة حتى تسير وفقاً لها جميع الوزارات المعنية، وتكون لهذه الاستراتيجية القدرة على تحقيق الأمن القومى بنشر الوعى والأمن الفكرى لشبابنا واستعادة هويتنا الثقافية، والتعاون فى تشكيل شخصية مصرية متزنة. فبناء الإنسان أهم أولويات السيد الرئيس فى المرحلة الرئاسية الثانية.
كذلك فنوننا التى تعكس ثقافتنا التى تهاوت كثيراً وبعضها يدعم العنف والتطرف والإرهاب، وحتى ما يتم طرحه ويلقى استحسان الجماهير نجده ينتمى لتراثنا الثقافى فى ماضينا المشرف، ولكن أين نحن الآن فى صناعة الثقافة والفن فى حاضرنا ومستقبلنا! أعتقد أننا فى حاجة ملحة لإعادة النظر فى وضع خطة استراتيجية شاملة تكون مظلة لعدة وزارات وهيئات، أهمها الإعلام، والثقافة، والشباب والرياضة، والتعليم، والتعليم العالى.
وفي هذا الإطار، لا بد من إعادة النظر في الدور الذي تقوم به المجالس المختصة بإدارة الإعلام على الطريق نحو استعادة التأثير والفاعلية المطلوبين، حتى لو اتخذنا من أدوات السياسات الإعلامية لجوبلز نموذجًا.
رابط دائم: