تحول طويل المدي:| هل نحتاج لإعادة تعريف الظاهرة الثورية؟ 28-9-2011 د. أمل حمادة * مدرس العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة اختلف المفكرون والمراقبون حول تعريف ما حدث ويحدث في أنحاء الوطن العربي، فالبعض يري أن المواجهات بين الجماهير ورموز الدولة الأمنية- التي انتهي بعضها برحيل النظام، ولا يزال بعضها مستمرا- لا تخرج عن كونها حركات احتجاجية واسعة النطاق، ولا ترقي لأن تكون ثورة. ويشير البعض الآخر إلي التجربتين التونسية والمصرية علي أنهما ثورتان ناجحتان، وأن البقية ستأتي في كثير من الدول العربية التي لا تزال شعوبها تعاني قدرة النظم السياسية علي مقاومة الضغط الشعبي المطالب بالتغيير. وهناك معسكر ثالث يري فيما حدث في مصر وتونس خاصة محاولات ثورية قابلة للنجاح، وإن كان يتحفظ كثيرا علي بطء التغير والتحول في السياسات والمؤسسات، ناهيك عن التغير في القيم الحاكمة للمجتمع. ما يجمع بين هذه المعسكرات الثلاثة هو تعريف للثورات استقر عبر سنوات طويلة من الأدبيات الغربية التي تري أن الثورات تتعلق بالتغيير الراديكالي لكل من القيم والمؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلي التغير في النخبة السياسية والاقتصادية. بعبارة أخري، لا يمكن الحديث عن ثورة دون حدوث حالة من التغيير الكامل في المشهد السياسي والاقتصادي الحاكم بما يشكل حالة من الانقطاع عن الماضي. ارتبط التعريف الكلاسيكي للثورات كذلك بالحديث عن تنظيم سياسي أو عسكري يقود عملية التغيير المجتمعية، والمواجهة مع النظام السياسي القديم، ويوفر قاعدة لتجنيد النخبة السياسية الجديدة. وفي هذا الإطار، تظهر أهمية عمليات التطهير وإجراءات محاسبة الفاسدين والمفسدين في النظام السابق، والتي اتخذت أشكالا عنيفة في معظم الثورات الكبري في تاريخ الإنسانية. كما أن الخلاصة لدي بعض هذه الأدبيات تري عدم جدوي الثورات بناء علي حساب للمكاسب والمخاسر، فما يرتبط بالثورة من خسائر اقتصادية وحالات من الفوضي الأمنية يجعل من غير المفيد دعم منظور الثورات مقابل ما يبدو من عقلانية مشاريع التحول الديمقراطي التدريجية. في ضوء كل ذلك، يمكن فهم مكمن اعتراض البعض علي وصف ما حدث في مصر وتونس بأنه ثورة كاملة، فلا يزال شكل النظام السياسي مستقرا (الجمهورية) دون أن يبدو أن هناك أية نية لتغييره، ولا يزال كثير من رجال النظام القديم وبعض رموزه يلعبون دورا في المشهد السياسي الجديد. كما أنه لا يبدو في الأفق نية لإعادة رسم الخريطة الاجتماعية، عبر إعادة توزيع للثروات من خلال إجراءات تأميمية، أو مصادرة لأملاك أو ثروات بعض من رجال الأعمال. وتتسم عمليات التعقب القانوني والمحاسبة بدرجات عالية من البطء، بما يوحي بعدم ثوريتها. وأخيرا، فقد غاب عنصر التنظيم السياسي الذي يقود حركة الجماهير، أثناء اللحظة الثورية، ويطرح نفسه لقيادة النظام الجديد. لقد تولي مهمة الدعوة الأساسية لتظاهرات 25 يناير صفحة "كلنا خالد سعيد"، التي لم يكن يعرف منشئها ومديرها، كما أن الائتلافات العديدة التي تكونت عبر أيام الاعتصام وما بعده لا يبدو أنها تهتم بالسلطة والحكم في الوقت الحاضر. وبملاحظة ما يحدث حولنا في الوطن العربي، خاصة في اليمن وليبيا وسوريا، يبدو أن الوضع هناك يشبه حربا أهلية صريحة بين قوي عديدة في المجتمع، استطاعت استقطاب بعض من فرق الجيش أو القبائل الموجودة في الدولة لصالح مواجهتها ضد النظام السياسي الذي يستخدم أقصي درجات العنف والقمع. يبعد كل ذلك الموقف عن وصف الثورة، ويقر به من مفاهيم العنف المجتمعي والعنف الحكومي، بما يهدد بسقوط الدولة ككل أو تفككها، وليس فقط بتغيير النظام السياسي. الواقع أن التاريخ المعاصر لحركات التغيير الاجتماعي والسياسي، بداية من الثورة البرتقالية في أوكرانيا، ومرورا بلحظات التغيير السياسي في أمريكا اللاتينية، وانتهاء بما يحدث في الوطن العربي، يتطلب منا العديد من المراجعات لتعريف الأسباب والنتائج والآليات والقوي أو بعبارة أخري للظاهرة الثورية ككل. فإذا بدأنا بالأسباب، فقد ارتبطت الثورات تاريخيا بمجموعة من الأسباب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وغلب علي بعضها المطالب السياسية المرتبطة بالتطور الديمقراطي للنظام (كالثورة الإنجليزية)، وغلب علي تجارب أخري الأسباب الاقتصادية (كالثورة الفرنسية، والثورة البلشفية)، وارتبط بعضها بجهود التحرر من الاستعمار والنفوذ الأجنبي (ثورة 1919 في مصر، وثورة عبد القادر في الجزائر)، واستقر الأمر في آخر الثورات الكبري في القرن العشرين - ونقصد بها الثورة الإيرانية 1979- بمقاومة المشروع التغريبي الذي كان يتبناه الشاه في ذلك الوقت. لا نعني بالتحليل السابق أن الثورة تقوم لسبب واحد دون غيره، فهو تبسيط مخل، ولكن قيام الثورة يتطلب تضافر العديد من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتتمايز التجارب الثورية فيما بينها في غلبة أحد العوامل علي غيره. أما في القرن الحادي والعشرين، فبالرغم من الفقر، وانخفاض الدخل، وسوء الأداء الاقتصادي، وما يرتبط به من فساد في الإدارة، وسوء توزيع العوائد في الدول التي شهدت حالة ثورية، فتبدو الأسباب السياسية هي الأكثر قدرة علي الدفع في اتجاه الثورة، مع بقاء العوامل الاقتصادية بمثابة العامل المحفز للملايين علي الانضمام للفعل الثوري، بما يؤدي في النهاية إلي سقوط النظام السياسي. فالثورات التي حدثت في كل من أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية، ويبدو أنها تجتاح الوطن العربي، اندلعت دفاعا عن قيم الديمقراطية والعدالة والكرامة، بالإضافة إلي تبنيها الأجندة الاقتصادية التي يمكنها تعبئة مئات الآلاف في الشوارع وأحيانا الملايين. ولكن رغم معاناة قطاعات عريضة في هذه المجتمعات علي المستوي الاقتصادي، واستمرار الفشل في أداء الحكومات اقتصاديا، وفي سياسات إعادة توزيع الدخل وغيرها من القضايا، فإننا نزعم أن ما عجل بعملية انهيار النظم السياسية هو فشلها في التعامل مع المعطيات السياسية التي تضمن مشاركة للشعب في صنع القرار، وفي مواجهة الفساد السياسي والاقتصادي. يرتبط ذلك بنوعية النخب التي قادت هذه الحركات، والتي يبدو من الضروري إعادة النظر في المنظورات التقليدية لدراسة علاقتها بالثورة. وقد اتفقت الأدبيات علي أن توافر العوامل الموضوعية للثورة، سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية، لا تكفي بذاتها لقيام الثورة، وإنما لابد من توافر النخبة الثورية التي تأخذ علي عاتقها مهمة نقل الحالة الثورية من النخبة إلي الجماهير. تقوم هذه النخبة بتنظيم العمل الثوري (ذي الطبيعة السرية بشكل أساسي)، ثم قيادة اللحظة الثورية لإسقاط النظام السياسي، وقيادة عملية التغيير الحقيقي للنخبة الحاكمة، بما يمكنها من تغيير قواعد اللعبة السياسية وما يرتبط بها من أطر اجتماعية وقانونية واقتصادية. ونتيجة لقدرة القوات المسلحة في دول العالم الثالث علي الحشد والتعبئة، بالإضافة لطبيعة المطالب المرتبطة بالتحرر من الاستعمار، فقد لعبت هذه القوات دورا متميزا في قيادة الحركات الثورية. وارتبط هذا بسيادة سمات الطبقة الوسطي المدينية، خاصة الشرائح الدنيا منها، والتي تمتلك خلفيات أيديولوجية وحركية تمكنها من التعبئة والتجنيد. ولكن الأمر اختلف مع ثورات الوطن العربي التي بدأت من تونس، وانتقلت إلي مصر، لتنتشر شرارة التغيير. فطبيعة النخبة الثورية اختلفت من حيث التكوين والانتماءات الأيديولوجية والقدرة علي التحالف والتنسيق مع غيرها من القوي السياسية. فهناك درجة من التعقد في العلاقة بين المؤسسات العسكرية ونظم الحكم في الوطن العربي، نتيجة لأن معظم النخب الحاكمة في تلك الدول تنتمي إلي المؤسسة العسكرية، وتعتمد عليها كأهم قواعد شرعيتها ومساندتها في مواجهة أية معارضة محتملة. كما تعد المؤسسة العسكرية، بالإضافة إلي المؤسسة الأمنية، من أهم الفئات الاجتماعية المستفيدة من تلك الأنظمة، وذلك بسبب الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية التي تحصل عليها هاتان المؤسستان. وبالتالي، تضاءلت فرص أن تقود هذه المؤسسة حركة تغيير ثوري ضد القائد الأعلي للقوات المسلحة. من ناحية أخري، أحكمت هذه الانظمة سيطرتها علي الفضاء السياسي بشكل خنق كل القوي السياسية التقليدية التي تعمل من خلال الأحزاب أو حتي جماعة الإخوان المسلمين في مصر ونظيراتها في تونس وغيرها التي ظلت محجوبة عن الشرعية لعقود طويلة. المشهد السياسي إذن كان مغلقا أمام أي محاولات لتحول ديمقراطي تقوده النخبة الحاكمة، أو تضغط لدعمه النخب المعارضة التقليدية. في مواجهة هذا، ظهرت النخبة الثورية الجديدة التي تبنت العمل المدني والتنموي مدخلا للعمل السياسي، واعتمدت في وسائل حركتها علي تقنيات الاتصال الحديثة، والتي مكنتها من الانتشار الجغرافي دون التقيد بالإمكانيات المادية. اتسمت هذه النخبة الجديدة بعدد من السمات، أولاها أنها نخبة حديثة وحداثية، وتلقت تعليما مدنيا بشكل من الأشكال، وأدركت انغلاق الفضاء السياسي، ففضلت العمل المدني التنموي كوسيلة للوجود في الشارع، وتقوية الجماهير دون أن تصطدم بالضرورة مع السلطة السياسية. السمة الثانية لهذه النخبة الجديدة أنها لم تكن مركزة في العاصمة فقط، ولكنها - بسبب تقنيات الاتصال الحديث - انتشرت جغرافيا (صحيح أن هذا التوزع ليس متساويا) علي المدن الكبري في الدولة، حيث كان لديها القدرة علي التواصل مع بعضها بعضا من خلال التشبيكات المهنية، والثقافية، والسياسية. أما السمة الثالثة، فترتبط بطبيعة التقنيات الحديثة التي جعلت من هذه النخبة عرضة لسيل من التأثيرات المعلوماتية والأيديولوجية التي أضعفت تأثير التيارات السياسية التقليدية عليهم، ومكنتهم من ناحية أخري من تكوين التحالفات بشكل أكثر سهولة. ومن ثم، ظهر الدور الذي لعبته شبكات التواصل الاجتماعي في الدعوة للتظاهرات والتنسيق بين المتظاهرين ونقل الأخبار حول ردود فعل النظام، والقوي السياسية، والمجتمع الإقليمي والدولي. وظهرت في الميادين الكبري في تونس ومصر نخبة جديدة، أكبر حجما من النخب التقليدية، ولا تتمتع بهيكل واضح للقيادة، مما أربك النظام السياسي، وصعب من مهمة المواجهة واحتمالات قمعها أو السيطرة عليها. وتمكنت هذه النخبة، بسبب قدرتها علي توظيف وسائل الاتصال ووسائطه، من توسيع نطاق الاحتجاجات جغرافيا، دون أن يتركز في العاصمة. ولكن في هذا الإطار، يجب أن نشير إلي الاختلاف بين علاقة المركز بالأطراف في كل من التجربتين التونسية والمصرية. فبينما بدأت المظاهرات في الأطراف في تونس، وكان وصولها إلي العاصمة، إيذانا بسقوط النظام السياسي، بدأت المظاهرات المصرية يوم 25 يناير في القاهرة، والإسكندرية، والمحلة، والسويس. وحينما انتشرت المظاهرات جغرافيا إلي عدد أكبر من المدن المصرية، كان هذا مؤشرا بانهيار النظام انهيارا تاما. الأمر الأخير في هذا الإطار يتعلق بآليات الحشد والتعبئة التي ترتبط بثورات القرن الحادي والعشرين. جميعنا يتذكر الاعتصام الذي نفذه الشعب اللبناني في 2004 ولأيام طويلة، عقب اغتيال الرئيس الحريري للمطالبة بفتح تحقيق في الحادثة، هذا الاعتصام الذي رفع شعارات الحرية، والسيادة، والاستقلال. وبرغم بشاعة الحادث وضبابية المشهد حول المستقبل، فإن مدنية الاعتصام وسلميته أرسلتا إشارات تتعلق بتبني طرائق جديدة للحشد غير العنيف. وأكدت تجارب الثورات البرتقالية والمخملية في أوروبا الشرقية فرضية أن الاعتصام السلمي هو إحدي أدوات الضغط المهمة علي النظام السياسي، وأهم الأدوات التي يمكن استخدامها من أجل تعبئة الأغلبية الصامتة لصالح الثوار. ولكن الحالة المصرية طرحت السؤال عن كيفية تبني الاعتصام السلمي في مواجهة الآلة الأمنية الغاشمة التي تحشد آلافا من جنود الأمن لمواجهة بضع مئات من المتظاهرين العزل. وكانت الإجابة في القدرة علي زيادة أعداد المتظاهرين، بحيث يمكنهم تحمل الضربات الأمنية بما يسمح للاعتصام بالاستمرار، ويرفع من تكلفة المواجهة بالنسبة للنظام السياسي. وهذا ما حدث خلال الفترة من 25 إلي 27 يناير بشكل تدريجي، ثم بداية من جمعة الغضب بشكل اعتصام مفتوح في ميدان التحرير بالقاهرة، وميدان القائد إبراهيم بالاسكندرية، والميادين الكبري في السويس والإسماعيلية، وبعض مدن الصعيد. هذه القدرة الهائلة علي حشد اعتصام مفتوح في ميدان في وسط العاصمة ولمدة 18 يوما، وفي ميادين أخري في المدن الكبري، هي علامة فارقة في تعريف الثورات. أصبحت الثورات لا تعتمد فقط علي قدرة القوي السياسية علي حشد مظاهرات تجوب العاصمة والمدن الكبري من أجل إيصال صوتها للأغلبية الصامتة، ولكنها تحولت إلي قدرة علي ممارسة الأفعال اليومية البسيطة، البهيجة والمحزنة، القائمة علي التفاعل المباشر بين آلاف البشر في مكان واحد، والقادرة علي تجاوز الاختلافات بالقدرة نفسها علي تجاوز الخلافات. واقع الأمر أن هذا الاعتصام يحتاج لكثير من الدراسة علي المستوي الاجتماعي والنفسي والجمعي والسياسي، كما أنه يطرح نفسه كإحدي أهم مناطق التميز في محاولات تقديم تعريف جديد للثورة يتناسب مع طبيعتها الجديدة في القرن الحادي والعشرين. فقد استطاع المتظاهرون رفع تكلفة المواجهة مع القوات الأمنية إلي الدرجة التي اضطرت القيادة السياسية إلي سحب قوات الشرطة، وإنزال قوات الجيش لضمان الأمن. ففي الفترة من 25 يناير إلي مساء 28 يناير، استخدم النظام السياسي، مفتقرا الرؤية الاستراتيجية، أقصي درجات العنف في مواجهة متظاهرين عزل، وحصد أرواح مئات من الشباب الذين سقطوا داخل الميدان وخارجه، وآلاف غيرهم أصيبوا جراء استخدام الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي والرصاص الحي. وقد رفع قرار سحب قوات الشرطة وإنزال الجيش سقف التكلفة إلي مرحلة جديدة. فالمؤسسة العسكرية المصرية شكلت في الوعي العام حصنا آمنا للمواطنين الذين يحتفلون كل عام ب- 6 أكتوبر، يتذكرون فيه آخر مرة استطاعت الدولة المصرية فيها فرض هيبتها علي المسرح الدولي. وبالتالي، لم يكن منتظرا أن تجازف هذه المؤسسة بكل سمعتها وتراثها، وتتورط في مواجهات دامية مع المواطنين. ولكن في الوقت نفسه، لا يمكن القول إن الجيش كان قد حسم خياره بالانحياز إلي جانب الثوار بشكل كامل أم لا. ما يعنينا في هذا السياق هو دلالة الاعتصام السلمي المدني المجتمعي والممتلئ بتفاصيل الحياة اليومية (مشاركة في الطعام والمسكن، مشاطرة أهالي الشهداء الأحزان، زغاريد الفرح عند عقد القران، أطفال تتعلم الكتابة فتكتب شعارات الثورة ومطالبها)، وقدرته علي أن يشكل أهم آلة حشد للثورة الجديدة في القرن الحادي والعشرين، خاصة في مصر. ويري كثيرون أن ما يحدث في مصر، ما بعد تنحي أو إجبار مبارك علي التنحي وتسليمه مقاليد الحكم إلي المجلس العسكري، هو إجهاض لفكرة الثورة من حيث درجة التغيير في كل من النخب والسياسات والمؤسسات والقيم، وكذلك من حيث العلاقة مع رموز النظام القديم. كما أن النخبة الثورية لم تنجح في طرح نفسها كبديل كفء وفعال للنخبة القديمة، في ضوء استمرار قدرة النخب القديمة الأقل ارتباطا بفساد النظام. والواقع أن الرد علي هذه القضايا يكمن في نقطتين، الأولي أننا نعيش الحدث بينما يتشكل، وبالتالي فنحن سبب في تطور الأحداث، وموضوع لها، وهذا يصعب علينا مهمة الحكم علي الحدث ككل. وهنا، نستخدم مقولة إن الثورات الكبري في العالم استغرق استقرارها أعواما قبل أن يتبلور شكل النظام الجديد وعلاقات القوي بداخله. النقطة الثانية تعود بنا إلي تعريف الثورة في القرن الحادي والعشرين وارتباطه بمطالب الثورات التي اتخذت شكلا جديدا عن مثيلاتها في القرنين التاسع عشر والعشرين. فالثورات الكبري في القرنين السابقين ارتبطت بمطالب تغيير كامل لشكل النظام السياسي (من ملكية إلي جمهورية كما في حالة فرنسا وروسيا وإيران، مع اختلاف طبيعة الجمهورية في كل حالة) أو لشكل النظام السياسي ووجود القوي الأجنبية فيه، مثل الثورة المصرية في 1952 التي أنهت الاستعمار البريطاني، وأنهت عهد أسرة محمد علي، وغيرها من الثورات الإفريقية التي كانت جزءا من حركة تحرر وطني أكبر. ثورات القرن الحادي والعشرين لا تهدف بالضرورة لتغيير شكل النظام السياسي، وإن هدفت بالتأكيد إلي تغيير علاقات القوي وتوازناتها بداخله. فليس مطروحا علي الأجندة التونسية، أو المصرية، أو حتي السورية، واليمنية (تبقي الحالة الليبية شديدة الخصوصية بسبب طبيعة نظام القذافي) أن يتحول النظام من جمهورية إلي إمارة أو ملكية، وإن طرحت مسائل أخري تتعلق بكون النظام القادم رئاسيا أم برلمانيا، ومسائل تتعلق بسيطرة أقلية معينة علي هيكل السلطة ومؤسساتها. كذلك، تتشابه مطالب الثوار في هذه الدول في رفع مطالب يمكن تسكينها في الاتجاه العالمي الأكبر لتمكين المجتمعات، وإتاحة الفرصة لعدد أكبر من المواطنين للتمتع بحقوقهم السياسية والاجتماعية. وفي ضوء طبيعة النخبة الثورية الجديدة التي قادت اللحظة الثورية، وضعف المؤسسات والقوي السياسية التقليدية، وتزايد أهمية دور المواطن في تشكيل المستقبل بما يضمن تحولا ديمقراطيا حقيقيا ومستقرا، وفي ضوء أيضا حالة السيولة المرتبطة بالمراحل الانتقالية، بما فيها من محاولات لتشكل استقطابات جديدة في المجتمع، وما يكشف عنه النقاب كل يوم من تغلغل فساد الأنظمة المخلوعة بشكل هيكلي، وتداخل الفساد الداخلي والخارجي، نتيجة تشابك العلاقات بين المركز والأطراف علي المستوي الدولي، - يبدو من المفيد تبني شكل جديد للتحول الثوري، لا يتمتع بالسرعة نفسها التي تحولت بها مجتمعات شهدت ثورات تقليدية. ويمكن الرهان علي أن هذا التحول الأبطأ سيكون أكثر استدامة، نتيجة ارتباطه بقاعدة أوسع من مجرد النخبة التي قادت الحركة الثورية، التي كثيرا ما ارتبط تاريخها في الثورات الكلاسيكية بقدر أكبر من العنف والإجراءات الاستثائية، وقدرة جماعة داخل هذه النخبة علي الانفراد بالأمر والإطاحة بباقي عناصرها. هل نحن بحاجة لإعادة تعريف الثورة؟ نعم، فنحن نحتاج لتعريف يري في الثورة عملية تحول مجتمعي وسياسي واقتصادي، ويري في نخبتها الجديدة غير المركزية وغير الأيديولوجية وغير المؤسسة فرصا أكبر في مشاركة الجماهير في اختيار نظامها الجديد. نحتاج لتعريف يري الظاهرة ثورية وليست اللحظة فقط، ويرفض في الثورة استثنائية قوانينها وإجراءاتها ومؤسساتها، ويؤكد في المقابل مبدأ القانون، واحترام حقوق الإنسان لكل المواطنين، دون أن يكون لقناعاتهم السياسية والدينية والاقتصادية تأثير في مواطنتهم. رابط دائم: