حظيت زيارة الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" الأولى لمصر، التي استغرقت 3 أيام (27-29) يناير 2019، باهتمام دولي واسع النطاق، نظرًا لأهمية الدولتين الاستراتيجية والسياسية، ولطبيعة البيئة الإقليمية المضطربة بالشرق الأوسط والاتحاد الأوروبي. وتعد هذه الزيارة استكمالا لتعزيز الشراكة الاستراتيجية بين باريس والقاهرة التي تم تدشينها خلال زيارة الرئيس المصري "عبد الفتاح السيسي" لفرنسا فى أكتوبر 2017. وقد نجحت الزيارة على الأصعدة كافة، مما يؤكد استمرار الشراكة الاستراتيجية بين دولتين بينهما تاريخ سياسي وثقافي مشترك، وينتظرهما مستقبل مشرق يكتب مرحلة جديدة من العلاقات الثنائية الناجحة على ضفتي المتوسط.
دوافع الاهتمام الفرنسي بمصر:
حرص "ماكرون" على زيارة مصر لمدة طويلة نسبيا، حيث استمرت 3 أيام. وشمل الوفد الفرنسي خمسة وزراء، و24 شخصية أكاديمية وثقافية وعلمية، و12 رجل أعمال، كما تعددت أوجه الزيارة بين سياسية واقتصادية وثقافية، مما يدل على تنامي الاهتمام الفرنسي بمصر الذي ينبع من عدة دوافع هي:
*الداخل الفرنسي: تمر الدولة الفرنسية بأكبر أزمة سياسية منذ 4 عقود، تتمثل في احتجاجات السترات الصفراء المستمرة منذ شهرين ونيف، والمطالبة بزيادة الحد الأدنى للأجور وخفض نسب البطالة. وقد تعاملت الشرطة الفرنسية بالقوة مع تلك التظاهرات، مما أسفر عن وفاة 11 شخصا، وأدى لتراجع شعبية الرئيس الفرنسي "إيمانويل ماكرون" لأدنى مستوى منذ انتخابه في مايو 2017 ، حيث بلغت نسبة مؤيديه إلى ثلث الناخبين الفرنسيين فقط. وفي مسعى منه لاحتواء تلك الأزمة، بدأ ماكرون "حوارا وطنيا" مع رموز الاحتجاجات. وهذا الوضع الداخلي في مجمله يمثل عوامل ضغط على "ماكرون" الذي يسعى لإحراز أى نجاح على صعيد السياسة الخارجية بعد فشله داخليًا.
*الانقسام الأوروبي: لا حديث للأوساط السياسية الأوروبية سوى عن مستقبل الاتحاد بعد خروج بريطانيا الذي ربما يتم دون اتفاق، بعد فشل التصويت على البريكست أكثر من مرة وإرجائه حتى فبراير 2019، مما يؤثر فى صورة الاتحاد ككل وأصبح مهددا بالتفكك، لاسيما في ظل الانقسام الواضح بين كتلتين، الأولى التيار اليميني الشعبوي، والأخرى التيار الأوروبي الليبرالي. هذا الانقسام عمّق أزمة "ماكرون" المؤيد لاستمرار الاتحاد، والداعي لتأسيس جيش أوروبي موحد، ودفعه للبحث عن تعزيز علاقات فرنسا بدول خارج الاتحاد لإحداث توازن في علاقات باريس الخارجية، حال تفاقمت الأزمات داخل بروكسل، أو تفكك الاتحاد كمنظمة إقليمية.
*الثقل الإقليمي: نجحت مصر بفضل القيادة السياسية في استعادة دورها الإقليمي، وأصبحت القاهرة الآن تقود ملفات المصالحة الفلسطينية، وتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية، وانضمت للمجموعة المصغرة لحل الأزمة السورية سياسيًا، فضلا عن نجاح القاهرة في محاربة الإرهاب وتأمين الحدود الشرقية والغربية في بيئة إقليمية غير آمنة. كما نجحت القاهرة في إنشاء عدة منتديات، منها التحالف المصري- اليوناني- القبرصي، ومنتدى غاز المتوسط، ورابطة الدول المشاطئة للبحر الأحمر، فضلا عن رئاسة مصر للاتحاد الإفريقي عام 2019. ولذا، كان الاهتمام الفرنسي بمصر كمفتاح للاستقرار بالشرق الأوسط وإفريقيا التي ترتبط بها فرنسا بعلاقات متميزة. كما أن تعزيز التعاون الفرنسي مع القاهرة يهدف لمواجهة التنافس الاقتصادي مع ألمانيا التي نجحت في إبرام العديد من العقود الاقتصادية مع القاهرة خلال الأعوام الماضية، لاسيما في مجال الطاقة، والتنافس السياسي مع إيطاليا في ملفي ليبيا وملف الهجرة غير الشرعية، حيث تتسابق كل من روما وباريس لتوحيد المؤسسات الليبية، لاسيما بعد عقد مؤتمر "باليرمو" بإيطاليا، وحضور الرئيس "السيسي" له، مما يضع القاهرة في بؤرة الاهتمام السياسي الدولي، فلا تتوافر لدولة واحدة عدة دوائر خارجية للتحرك السياسي كمصر.
*التعاون الاقتصادي والعسكري: تحتل فرنسا المركز الـ14 بين الدول المستثمرة فى مصر بواقع 784 شركة برأس مال قدره 6.708 مليار دولار، وحجم تبادل تجاري ثنائي قدره نحو مليار يورو. وتسعى باريس لمضاعفة تلك الاستثمارات للاستفادة من الفرص الاقتصادية الواعدة في مصر ، وللإسهام في المشروعات القومية الكبرى، مثل تنمية محور قناة السويس، ومشروعات النقل والبنية التحتية، وصناعة السيارات، وإنشاء التجمعات العمرانية الجديدة، بما فيها العاصمة الإدارية الجديدة. كما شهد التعاون العسكري طفرة نوعية خلال السنوات الثلاث الماضية، حيث وقعت مصر عام 2015 عقود تسلح مع فرنسا بقيمة تزيد على ستة مليارات يورو، تشمل 24 مقاتلة من طراز "رافال" (حصلت على 23 منهم بالفعل)، وفرقاطة، وحاملتي مروحيتين من طراز "ميسترال"، وصواريخ. وأعلنت القاهرة عن عزمها شراء 12 مقاتلة رافال فرنسية جديدة. كما يتم بحث سبل شراء مصر لقمر صناعي عسكري فرنسي لمراقبة الحدود المصرية، لاسيما الغربية. وقد أصبحت فرنسا بين عامي (2013 و2017) أول مورّد للسلاح لمصر، واستوعبت مصر خلال تلك الفترة نحو 25% من الصادرات الفرنسية العسكرية. وخلال معرض "إيديكس" العسكري الأول بمصر، الذي عقد في ديسمبر 2018، وقّعت مصر عقوداً مع عدد من الشركات الفرنسية، من بينها شركة "سيلينجر" الفرنسية لتصنيع قوارب مطاطية. ووقعت الشركتان الفرنسيتان "داسو" و"رافال" صفقات لاستمرار توريد قطع غيار سلاح الجو لمصر. ويحقق استمرار التعاون الاقتصادي والعسكري بين البلدين أهدافا مشتركة لهما، حيث يحقق تنوع مصادر التسليح للجيش المصري، ويضع فرنسا ضمن أكبر الدول المصدرة للسلاح بالعالم.
نتائج متعددة:
عقد الرئيس المصري "عبد الفتاح السيسي" ونظيره الفرنسي "ماكرون" مباحثات ثنائية منفردة وموسعة، ثم عقدا مؤتمرا صحفيا يوم 28 يناير 2019، أظهر توافقا في رؤية الدولتين لمواجهة الملفات الإقليمية، وكذلك شهد الرئيسان توقيع عدة اتفاقيات اقتصادية لتعزيز التعاون بينهما.
*توافق سياسي: أكد الرئيسان "السيسي" و"ماكرون" تطابق وجهات النظر بينهما لحل عدة ملفات، هي: الملف الليبي عبر توحيد المؤسسات السياسية والعسكرية، ودعم جميع الجهود الأممية لإجراء انتخابات ليبية، لاسيما أن هناك تحركات إقليمية ودولية لنقل العناصر الإرهابية من سوريا لليبيا، مما سيضر بالأمن المصري والفرنسي. وفي السياق ذاته، أكد الرئيسان ضرورة الحد من الهجرة غير الشرعية التي تنطلق من ليبيا، وثمن "ماكرون" نجاح القاهرة في مواجهة هذه المشكلة. فمنذ سبتمبر 2016 ، لم تسجل أى حالة هجرة غير شرعية متجه من مصر للشواطئ الأوروبية. كما أكد الرئيس "السيسي" ضرورة تسوية القضية الفلسطينية وفق حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية على حدود 67، وعاصمتها القدس الشرقية، وكذلك العمل وفق المجموعة المصغرة لسوريا، التي تضم مصر وفرنسا لتسوية الأزمة السورية، وفق قرارات الامم المتحدة، وبما يحفظ وحدة الأراضي السورية، فضلا عن استمرار محاربة التنظيمات الإرهابية.
*طفرة اقتصادية: شهد الرئيسان "السيسي" و"ماكرون" فعاليات توقيع 8 اتفاقيات للتعاون الثنائي، تنوعت بين بروتوكولات تعاون، ومذكرات تفاهم، وإعلانات نوايا، وعقود استثمارية في مجالات الطاقة المتجددة، والنقل، والصحة، والحماية الاجتماعية، والتموين، وريادة الأعمال، والاتصالات، والمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتكنولوجيا السيارات، وتمكين المرأة. كما تزامن مع الزيارة عقد منتدى الأعمال الفرنسي- المصري، وشهد توقيع نحو 32 اتفاقاً بين القاهرة وباريس، كما أعلن "ماكرون" عن ضخ مليار يورو كمنح واستثمارات فرنسية في الاقتصاد المصري، خلال السنوات الأربع القادمة عن طريق الوكالة الفرنسية للتنمية.
*تعاون ثقافي: أعادت زيارة "ماكرون" التركيز على أهمية البعد الثقافي في تعزيز العلاقات الدولية، حيث إنه بدأ زيارته من معبد أبو سمبل بمناسبة اليوبيل الذهبي لنقل الآثار المصرية بالتعاون مع اليونسكو وباريس، كما أن 2019 هو العام الثقافى "فرنسا-مصر"، والذى أطلق بقرار من رئيسى الدولتين، بمناسبة مرور 150 عاما على افتتاح قناة السويس، وسيشهد العام تنظيم العديد من الفعاليات الثقافية بين القاهرة وباريس. وشهد الرئيسان توقيع اتفاق خلال الزيارة على تأسيس الجامعة الفرنسية في مصر بالعاصمة الإدارية الجديدة لتعزيز التعاون الثقافي والجامعي والفني. وقد ثمن "ماكرون" كثيرًا وضع اللغة الفرنسية كلغة ثانية إجبارية في نظام التعليم المصري الجديد، وأوضح أن التعليم باللغة الفرنسية هو إحدى وسائل تعزيز التعاون الثقافي والسياسي بين الدول.
دلالات استراتيجية:
*مفهوم أشمل لحقوق الإنسان: جدد الرئيس "السيسي" رؤيته لضرورة تبني مفهوم أشمل لحقوق الإنسان، وهو الطرح نفسه الذي طالب بتبنيه خلال زيارته لباريس في أكتوبر 2017، حيث دعا "السيسي" إلى عدم اقتصار حقوق الإنسان على الحقوق السياسية فقط، بل يجب أن تشمل الحقوق الاجتماعية، والاقتصادية. وأكد أن مصر تسعى لتحقيق التوازن الضرورى بين حقوق الإنسان بمفهومها الأشمل المتمثل في توفير"حياة كريمة" للمواطنين من سكن ملائم، ورعاية صحية، ومستوى تعليم جيد. كما طالب "السيسي" بضرورة مراعاة خصوصية كل دولة، لأن مفهوم حقوق الإنسان الأوروبي يختلف عن نظيره المصري، أو الآسيوي، أو الإفريقي. وأضاف أن الشعب المصري تصدى لمخطط دولي لإنشاء "دولة دينية قمعية" كانت ستغير الخريطة السياسية لمصر والشرق الأوسط ككل. وبدوره، كان موقف "ماكرون" من تلك القضية متناقضًا. فتارة، انتقد وضع حقوق الإنسان بمصر، ثم أعرب عن تقديره للحكومة المصرية ودورها في الحفاظ على الأمن ومحاربة الإرهاب، ووصف الرئيس "السيسي"بأنه يقود معركة ثقافية وفكرية في مصر بـ"كل شجاعة". هذا التناقض في موقف "ماكرون" إنما يدل على أنه دُفع لانتقاد القاهرة، وتلك التصريحات لا تعبر عن اقتناعاته الشخصية، وجاءت لإرضاء بعض جمعيات حقوق الإنسان المسيسة بفرنسا ليضمن دعمها له في ظل أزمته الداخلية المتعلقة باحتجاجات "السترات الصفراء".
*مصر منارة التسامح الديني: حرص "ماكرون" على زيارة الكاتدرائية الجديدة بالعاصمة الإدارية، كما زار قبل ختام زيارته يوم 29 يناير 2019 قداسة البابا "تواضروس"، بابا الإسكندرية بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية، وأعرب عن أن التعددية في مصر هي عنصر أساسي للسلام في المنطقة. كما التقى فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر "أحمد الطيب" خلال زيارته لمشيخة الازهر، وطالب بتدريب أئمة فرنسا بالأزهر لمساعدة فرنسا في التغلب على الإرهاب، ولتصبح مركزًا لنشر الفكر الوسطي في أوروبا. يؤكد ذلك أهمية الدور الثقافي والديني لمصر، الذي عاد التركيز عليه بعد افتتاح أكبر كاتدرائية، ورابع أكبر مسجد بالعاصمة الإدارية في 6 يناير 2019، لتؤكد مصر أنها مناورة للتدين الوسطي المعتدل للدين الإسلامي والمسيحي، وتؤكد كذلك رؤية الرئيس "السيسي" في أن المساواة بين المواطنين هي أعلى مراتب الحفاظ على حقوق الانسان.
*نجاح برنامج الإصلاح الاقتصادي: قرار "ماكرون" ضخ اسثمارات فرنسية في مصر بقيمة مليار دولار، بينما تمر بلاده بأزمة اقتصادية، إنما يدل على ثقته في عائد تلك الاستثمارات، وهذا لم يكن ليأتي دون تنفيذ إصلاحات اقتصادية جذرية، ضمن برنامج الإصلاح الاقتصادي المصري، المطبق منذ عامين ونصف عام، والذي حقق نجاحا ملحوظا أشادت به جميع المؤسسات الاقتصادية الدولية.
*تنسيق ثنائي لمواجهة تحديات إقليمية: تميزت العلاقة بين الرئيسين "السيسي" و"ماكرون"بتوافق ملحوظ، مما سينعكس إيجابيًا على التعاون الثنائي، لاسيما أن كلا من الرئيسين يتبني النهج نفسه في السياسة الخارجية لبلاده القائم على إرساء الأمن والاستقرار، ومحاربة الإرهاب، والالتزام بمبادئ الأمم المتحدة، لاسيما في الدائرة الأوسطية والمتوسطية. وبرز ذلك من خلال وصف "ماكرون" زيارته لمصر بأنها مهمة جدا لتعزيز علاقة بلاده مع شريك أساسي لها. وأوضح أن التشاور والتنسيق مع القيادة السياسية المصرية مستمر دوما في الملف الليبي، حيث جرت تلك المشاورات قبل عقد مؤتمر باريس في مايو 2017 حول ليبيا بحسبانها التحدي الأساسي للدولتين، فضلا عن التشاور والتنسيق مع مصر، بعدّها رئيس الاتحاد الإفريقي، خاصة أن البلدين لهما التوجه ذاته نحو إفريقيا، وهو دعم قوات حفظ السلام، وتسوية نزاعات القارة، وستعمل رئاسة مصر للاتحاد الإفريقي على تعزيز العلاقات بين دول الاتحاد وفرنسا، نظرا للأبعاد التاريخية والثقافية التي تربط يبن باريس ودول القارة السمراء. كما سيؤدي إلى تعزيز الجهود المصرية الفرنسية للدفع بجهود التنمية فى دول القارة.
خلاصة القول إنه في ظل البيئة الإقليمية المضطربة، تبقى مصر دولة مستقرة سياسيا، وصاعدة اقتصاديا، يسعى لزيارتها جميع رؤساء العالم. ومن هنا، تنبع أهمية زيارة "ماكرون" لمصر كدولة مركزية لتحقيق الاستقرار الإقليمي في الشرق الأوسط وإفريقيا، وأن استمرار التوافق والتنسيق بين الدولتين سيعزز من الدور الإقليمي لكل منهما في السياقات المتوسطية، والشرق أوسطية، والإفريقية.