من الأقوال البليغة لعلي بن أبي طالب، كرم الله وجهه (آلة السياسة سعة الصدر) بمعنى الوعي والمرونة. آراء عديدة تناولت بموضوعية التعديلات الدستورية التي قُدِمت للبرلمان .. للأسف، لم يرتق طرح الموضوع الى المستوى المطلوب في الجدال الدائر بكثافة على وسائل التواصل الاجتماعي. تم اختزال كل المواد الإيجابية المقترحة في التركيز على فقرة مد الولاية الرئاسية لست سنوات، رغم أن التعبير عن الالتفاف الشعبي الذي يحظى به الرئيس عبدالفتاح السيسي هو حق للمواطن لا يخضع لمراجعات مجموعة أو فئة. مثل هذه الهواجس قد تبدو مشروعة خلال أجواء الفترة التاريخية التي شهدت صياغة دستور 2012، والتعديلات التي أدخِلت عليه عام 2014 .. لم يكن تعافي المواطن من الصدمات السياسية المتلاحقة قد اكتمل بعد.. أشباح الترهل السياسي الذي امتد عقود بكل تبعاته على المشهد العام، وسرعة استثارة المسار الشعبي، حتى بدعاوى التضليل .. كلها ألقت بظلالها على أي خطوة سياسية تهدف للتهدئة، وإعطاء الوطن مساحة لالتقاط الأنفاس.
بداية، لا يوجد سبب منطقي للمبالغات في التحفظ على التعديلات الدستورية عبر منصات لا علاقة لها بالقضية أو حتى دون طرح رؤية موضوعية بعيدا عن الرفض لمجرد الرفض. بديهيات المنظومة السياسية أنها تعتمد صيغ المرونة، إذ لا يمكن لخطاب جامد أن يواكب واقعاً متغيراً، وبالتالي لا أحد يملك مصادرة حق الشعب في تعديل دستوره، خصوصا في ظل إجماع عام على أن النظام الانتخابي والاستفتاءات في مصر تخلصا من كل الشوائب التي كانت تجعلها موضع شكوك الناخبين.. تخلصت آلية التصويت الانتخابي من مناورات تزوير إرادة الناخبين والتلاعب السياسي الذي كان يمارس لتحويل مسار الإرادة الفعلية للناخب، أو المتاجرة باحتياجات المواطن اليومية البسيطة ضمانا لصوته، وهي لعبة انتخابية أتقنت ممارستها جماعة الإخوان. الأعوام الستة الماضية لم تعد فقط جسور الثقة بين الناخب والصندوق بعدما أيقن أن صوته سيوجه إلى اختياره الفعلي، وليس إلى "المجهول"، لكنها أيضا منحته وعيا وحصانة ضد "فيروسات" التوجيه الخاطئ أو الانسياق وراء أكاذيب.
الاعتراضات المطروحة لم ترتق إلى مستوى المشهد العام الحالي على أرض الواقع. أعتى الديمقراطيات في العالم لم تبق أسيرة دساتير وضعت بنودها تحت ظروف طارئة.. الواقع أن مصر كانت تمر بما هو أخطر، وهي تحت تأثير مرحلة تلت موجة من التحولات المتوالية لم تتح للشارع آنذاك استعادة توازنه من نتائجها المتضاربة .. الناخبون توافدوا للاستفتاء على دستور تم إقراره لعلاج دستور آخر فقط لتمرير الموقف، والحصول على فرصة لالتقاط الأنفاس والتهدئة. هذه الحقيقة لا يمكن فصلها عن تصريحات سياسي مخضرم مثل عمرو موسى -رئيس لجنة الخمسين- وهو يعترف بحجم الضغوط الهائلة التي أحاطت بلجنتي العشرة والخمسين، سواء من الإعلام أو نتيجة حالة الشحن التي سيطرت آنذاك على الرأي العام بين تضليل مورِس عليه من جماعة الإخوان وتذمر نتيجة بقاء حاكم في السلطة لمدة 30 عاماً بكل تداعيات ما أسفر عنه من ترهل وجمود. مصادرة حق الشعب في مراجعة بنود الدستور –أو العقد الذي توافق عليه لتنظيم العلاقة بين سلطات الدولة في أداء مهامها- بهدف الوصول إلى صياغة أكثر تعبيرا عن الحالة الراهنة للوطن على أرض الواقع دعوة لا تنسجم مع طموح زيادة المساحة الديمقراطية، بعدما أظهر الشارع التزامه بحتمية استعادة الدولة على أسس مدروسة اقتصاديا، وخدميا، وأمنيا، وسياسيا مهما تبلغ المصاعب .. فالدول الكبرى لم تستعد قوتها بمنطق الأمثلة الخائبة، مثل "احييني اليوم .. وموتني بكرة".
إن تواري حالة "الضرورة"، التي سادت المشهد المصري بعد ثورة 30 يونيو تماما بفضل خطوات الإدارة السياسية للرئيس عبدالفتاح السيسي، التي نقلت مصر من منطقة الاضطراب إلى صلابة واستقرار الدولة المتماسكة أمنيا واقتصاديا، بالإضافة إلى فصل الدستور عن الهالة "القدسية" التي يحاول البعض إضفاءها عليه، ستكون الأطر الحاكمة للكلمة الأخيرة التي سيكتبها القرار الشعبي عند الاستفتاء على التعديلات الدستورية، وإذا ما كان الرأي العام بعد الممارسة والتطبيق يجد ما يستوجب تعديل الدستور، في ظل تغيير شامل خلق واقعاً مختلفاً كليا.
المؤكد أن ضمان الحفاظ على صلابة واستقرار الدول مرتبط بدعم قوة وطنية، خصوصا أن الشعب أعزل، لا يملك سوى الكلمات للتعبير عن مطالبه. في المقابل، بعد سقوط قناع "السلمية!" عن جماعة الإخوان، وكشف التسجيلات الموثقة للعالم عن حجم التسليح وتنوعه في أيدي ميليشياتها، التي لا ينقطع نهمها من أجل العودة لاختطاف مصر، حتى لو كان الثمن هو جثث ودماء الأبرياء، هنا تظهر أهمية بند أن تكون القوات المسلحة هي الضامنة والحامية لديمقراطية ومدنية الدولة من أجل ردع تهديدات لم تنقطع منذ عام 2011 حتى الآن من جماعة الإخوان بإغراق مصر في بحور دماء، وهو ما تؤكده صحيفة جرائمهم دون أي صيغ تهويل أو مبالغة بدليل العنف الذي ترتكبه التنظيمات والحركات الإرهابية المنتمية لها ضد الأبرياء من المدنيين أو أبطال الجيش والشرطة منذ عام 2013، حتى هذه اللحظة، لولا وقوف القوات المسلحة والشرطة كحائط صد لإفشال هذا المخطط الدموي.
رابط دائم: