هناك سباق محموم بين البيت الأبيض وهوليوود على التباهي والاستعراض بالعناوين ذات الصيغ التي تثير الإبهار .. "الصدمة والرعب"، و"عاصفة الصحراء"، و"جيرانيمو"، والعديد من الأسماء الحركية الأخرى. أعلن الرئيس الأمريكي ترامب، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى العام الماضي، عزمه إقامة تحالف استراتيجي في منطقة الشرق الأوسط أطلق عليه إعلاميا "الناتو العربي". تشمل الأهداف المعلنة للتحالف إقامة درع دفاع صاروخية في المنطقة، بالإضافة إلى التدريب لتحديث جيوش تلك الدول، وتعزيز التعاون في مجالي الطاقة والاقتصاد. أعيد طرح هذه الصيغة خلال زيارة وزير خارجية الولايات المتحدة مايك بومبيو إلى عدة دول عربية، في دعوة تحمل عنواناً براقا لملف تكتنفه تعقيدات شديدة.
المؤكد أن ضمن أهداف زيارة بومبيو للقاهرة محاولة دفع مصر إلى دخول التحالف الذي تنوي أمريكا إقامته ضد إيران، وهو عبارة عن خطوط عريضة تبشر بسياسة أمريكية جديدة في الشرق الأوسط، دون عرض آلية تحقيق هذا التحالف، تقوم على إشراك ما يعرف بدور معسكر الاعتدال العربي، مصر، والسعودية، ودول مجلس التعاون الخليجي، والأردن، في التصدي للمشروع التوسعي الإيراني، وتحميلها التكلفة المالية والبشرية لهذه المبادرة رغم أن الإشارات الأولى لا تتجه نحو تحقيق مصالح الحلفاء، بل تتبنى أساسا الحفاظ على المصالح الاستراتيجية الأمريكية. المثير للدهشة أن بومبيو طرح دعوة "الناتو العربي" متجاهلا وجود تحالف رباعي قائم بالفعل تربطه علاقات وثيقة بالأردن في إطار تدريبات ومناورات عسكرية مشتركة وتعاون اقتصادي.
استقال أنتوني زيني -المبعوث الأمريكي لحل الأزمة بين دول مجلس التعاون الخليجي وقطر- مباشرة قبل جولة بومبيو، بعدما طلبت منه إدارة ترامب تقديم المشروع لدول المنطقة، على غرار التحالف الأمني لحلف شمال الأطلسي، لكن زيني فضل الاستقالة مرجعا حتمية فشل فكرة التحالف في ظل استمرار الأزمة بين دول الخليج وقطر، مع عدم توقع إيجاد حلول لها في المستقبل القريب. هذه الخطوة فجرت اللغم الأول في طريق التحالف. إنهاء هذه الأزمة يمثل إشكالية أساسية لنجاح خطة أمريكا خصوصا أمام تمسك دول الخليج ومصر بمواقفها العادلة. في حين أن الأزمة ذاتها مثلت العقبة أمام تنفيذ المقترح الذي أعلن عقب قمة الدول العربية - الإسلامية في 2017 بمشاركة أمريكا، حين أيدت الدول المشاركة إنشاء تحالف "الناتو العربي" . لكن يبدو أن أمريكا عادت إلى محاولة إحياء الفكرة مع تكرار تصريح ترامب عن "خسائر أمريكا من الاستثمار في حماية الحلفاء"، وتصعيد الخطاب التهديدي لترامب ومسئولي إدارته ضد إيران.
اللغم الثاني يكمن في ارتباك السياسة الخارجية الأمريكية، وهي لا تمثل حالة عارضة تمر سريعا. فالمرجح أن التخبط الأمريكي سيستمر لفترة قد تتجاوز مدة حكم ترامب. أمريكا تتحالف في المنطقة مع أطراف كثيرة متناقضة المصالح، وبالتالي صراعات هذه المصالح المتضاربة هي التي فرضت نفسها على المشهد المرتبك بدلا من العمل على استقراره، مما أدى إلى كشف زيف كثير من الوعود الأمريكية لحلفائها. أبرز دلائل هذا التخبط مدى مصداقية أمريكا في حربها الاقتصادية ضد إيران وتشديد العقوبات عليها، بينما هي تمنح استثناءات لدول وشركات عالمية بالاستمرار في التبادل التجاري مع إيران! ضبابية الرؤية الأمريكية للسياسة الخارجية ألقت ظلالها على العلاقات مع حليفتها التاريخية تركيا. التصريحات العنيفة المتبادلة بين مسئولي البلدين أخيرا تشير الى ضعف العلاقات بينهما في أزمة هي الأخطر من نوعها .. في إطار تهديد ترامب الأخير بتدمير تركيا اقتصاديا إذا هاجمت الأكراد في شمال سوريا، فقد سبق لأمريكا إعطاء تركيا درس عابر حين وقفت خلف الحرب الاقتصادية التي أدت إلى انهيار الليرة التركية خلال شهر أغسطس الماضي على أرضية التعنت التركي في إطلاق سراح القس الأمريكي اندرو برونسون. وصول علاقات الحليفين إلى هذه الدرجة من التوتر الذي ترحج احتمالات مساره نحو المزيد من التصعيد، يجعل من فكرة ضم تركيا إلى دول التحالف كفيلة بالإعلان عن وفاته بالسكتة "السياسية" فور تأسيسه، تحديدا مع الأدوار العدائية التي تضطلع بها تركيا ضد مصر، والسعودية، والإمارات.
مصر، كطرف أساسي، اختارت صيغة التوازن في السياسة الدولية كنهج لعلاقاتها مع الدول والقوى المختلفة، مما جعلها أكثر قوة في التفاوض، لذا هي بالتأكيد تملك رؤيتها الموضوعية عن ملفات الأمن القومي العربي، تحديدا المتعلقة بدول التي لا تزال تشهد اقتتالاً أو أزمات سياسية .. هذا الوعي والتوازن يستدعي دراسة موقف عميقة بمنأى عن توريط التحالف في فخ حروب مذهبية لا تزال تنهش فى جسد بعض الدول. تحول مسار الإدارة الأمريكية إلى التركيز على توفير المليارات التي تنفقها على القواعد العسكرية والاتجاه بقوة نحو دعم المنافسة الاقتصادية لمواجهة العملاق الصيني تجاريا، مما يعكس التفسير الواقعي لكلمات ترامب "لا نريد لأمريكا أن تلعب دور شرطي العالم بعد الآن" . في المقابل، فإن مصر والدول العربية المؤثرة أمنيا واقتصاديا قادرة على الأخذ بزمام المبادرة في حل أزمات وصراعات المنطقة، لكن وفق سياسات تضمن مصلحة الأمن القومي العربي دون تعريضه للمزيد من التهديدات، خدمة لأجندات أمريكية أو إقليمية مثل إسرائيل وتركيا .
رابط دائم: