د. رضوان السيد
هناك الكثير مما يجري في العالم العربي وينبغي متابعته، ومن سوريا إلى العراق إلى ليبيا واليمن والبحرين. بيد أن ما جرى في الأسبوع الماضي فيما بين سيناء والقاهرة أو غزة وإسرائيل، لا يقلُّ عن ذلك أهمية وإثارة للهواجس والمخاوف والتقديرات المتناقضة. فقد بدأ الأمر بمقتل عناصر من الشرطة المصرية بسيناء على أيدي جماعات مجهولة قيل تارةً إنهم عناصر "القاعدة" الذين تسلَّلوا إلى سيناء، وقيل تارةً أخرى إنها تفلُّتات قبلية شأن ما يحدث في سيناء دائماً ومنذ عقود وعقود. وبسبب الظروف الاستثنائية التي تمر بها مصر، ولأنّ حالات التفلُّت تكررت منذ قيام الثورة في تلك المنطقة الحساسة، فقد ذهب رئيس المجلس العسكري إلى سيناء، وذهب من بعد رئيس أركان حرب الجيش، وأرسل تعزيزات وأعلن عن قرار بإطلاق النار على كلّ مَنْ يتجاوز الحدود أياً كان. وهذا يعني أن الجهات الأمنية المصرية تعتقد أن المعتدين على مراكز الشرطة والجيش بسيناء هم قادمون من غزّة في الغالب. وما انقضت أيام على الإغارات في سيناء حتى قامت عملية إيلات. فقد أغارت مجموعة فلسطينية على المدينة بفلسطين المحتلة، وقتلت وجرحت عشرات. وقد اقترن ذلك بإطلاق صواريخ من غزة على المستوطنات. وما أعلن أحد من الأطراف بغزة عن مسؤوليته بداية، إنما كان الواضح أن "حماساً ما كانت مشاركة ولا راضية بالعملية. وسارع الإسرائيليون للرد" على العملية بالإغارة على مقراتٍ سريةٍ للمقاومة الشعبية، وقتْل قادة لأفواج المقاومة تلك. بيد أنّ إسرائيل ما اكتفت بذلك، بل أعلنت أن مهاجمي إيلات ما أتوا إليها من جهة البحر من غزة مباشرة، بل عبر سيناء المصرية، وسارعوا إلى قتْل ثلاثة في مركز للشرطة على الطرف المصري من الحدود. ثم اشتعلت الجبهة بين غزة وإسرائيل، الإسرائيليون يغيرون على القطاع بالطائرات، وبعض الفصائل الفلسطينية التي قُتل قادتها في الغارة الأولى تردُّ بالقصف الصاروخي للمستوطنات. أما في مصر فقد أعلنت السلطات عن غضبها لمقتل رجال الشرطة عن طريق تجاوُز الإسرائيليين للحدود، واشتعلت التظاهرات بالقاهرة أمام السفارة الإسرائيلية للمطالبة بطرد السفير الإسرائيلي من البلاد.
ما معنى هذا الذي حصل فجأة، ومن هو صاحبُ المصلحة فيه؟ أبو مازن سارع للقول إن إسرائيل أشعلت الجبهة مع غزة لصرف الأنظار عن التظاهرات الحاشدة بالداخل الإسرائيلي لمطالب اجتماعية وسياسية، وحشْد الداخل من جديد ضد "الإرهاب" الفلسطيني. وهذا التعليل يمكن أن يكون صحيحاً لو أن الإسرائيليين هم الذين بدأوا بالإغارة على غزة كما في كل مرة منذ أعوام وأعوام. فالأحرى القول هذه المرة ما دامت "المقاومة الشعبية" هي البادئة بالحركة، فإن حكومة إسرائيل اليمينية انتهزت الفرصة، لإثبات حرْصِها على "أمن المجتمع الإسرائيلي" من جهة، وللقول للعالم إن الفلسطينيين الذين يذهبون إلى الأمم المتحدة بعد أقل من من شهرين غصباً عن إسرائيل وإدارة أوباما، للحصول على اعتراف بالدولة الفلسطينية المستقلة، لا يريدون السلام بالفعل لأنهم يمارسون الإرهاب، كما أثبتت عملية إيلات! فمن هو الطرف الذي قام بهذه العملية لإعطاء الحجة لإسرائيل وإرباك "حماس" ومصر والسلطة الفلسطينية معاً؟! إن التنظيمات الداخلية في "المقاومة الشعبية" منها المتطرف وغير المتطرف، لكنّ مصادر دعمها غامضة، فلا شك أنها إنما قررت القيام بهذه العملية الآن لإحراج "حماس" باعتبارها قد انصرفت للتصالح مع "فتح"، وتخلّت عن الكفاح المسلًّح، وتريد أن تترك السلطة تجرّب الفرصة الأخيرة بالتوجُّه إلى المجتمع الدولي. وهذا الموقف من جانب "حماس" هو خروج من جانبها على الإرادة الإيرانية والسورية، وإصغاء للمتغيرات الحاصلة في سوريا، ورغبة في التجاوُب مع مصر بعد الثورة. والمعروف أن خالد مشعل كان قد ذهب إلى مصر قبل عشرة أيام، والتقى وفداً من "فتح"، كما يقال إنّ المفاوضات بين "حماس" وإسرائيل على شاليط كانت تتقدم، في الوقت الذي تبحث فيه "حماسٌ" عن ملاذٍ خارج سوريا الأسد الذي أحرجت قواته كل الفلسطينيين بالإغارة على مخيّم الرمل الفلسطيني باللاذقية.
فالمقصود إذن إرباك "حماس" ودفعها باتجاه الاشتباك مع إسرائيل الآن بالذات، ولا مصلحة لأحد في ذلك غير الجانبين الإيراني والسوري للتأثير على مجريات الأحداث في سوريا وبخاصة إذا تطورت الاشتباكات إلى حرب إقليمية صغيرة تشلُّ جهود السلطة الفلسطينية، وتخدم إسرائيل بالتشكك الذي سيحدث لدى الداعمين في الأمم المتحدة إذا سقط إسرائيليون في هجمات فلسطينية عليهم.
أما هدفُ إحراج مصر من وراء فرض الاضطراب على الحدود بينها وبين إسرائيل ومن طريق دفع الآلاف للتظاهر المستمر أمام السفارة الإسرائيلية بالقاهرة، فهو شديد الوضوح. فصحيحٌ أن الإعلام الإيراني، والوفود الإيرانية للقاهرة، لا تتوقف عن امتداح الثورة المصرية، لكنّ مصر الثورة ما تغيّرت مصالحها الاستراتيجية، فهي صاحبة مصلحة في حلٍ عادلٍ للقضية الفلسطينية يحصل بموجبه الفلسطينيون على دولة في حدود عام 1967، وتعود الوحدة بين الضفة وغزة بدلاً من أن تبقى غزّة شوكة في خاصرة مصر، ومصدراً لنشر الاضطراب الأصولي في سيناء. ولا مصلحة للإيرانيين من جماعة الرئيس نجاد والحرس الثوري في العقد الأخير من السنين في شيء من ذلك. فقد خلقوا أيام بوش الابن بؤراً وامتداداتٍ بالعراق وسوريا ولبنان وغزة والبحرين، وتارة من أجل نشر النفوذ وتحدي عرب المنطقة، وطوراً من أجل إرغام الولايات المتحدة على التفاوض والمشاركة في الشرق والخليج. وهذه البؤر جميعاً مهدّدةٌ وبخاصة بعد قيام الثورات العربية. فهناك فوضى ضخمة في العراق، وثورة في سوريا، وابتعاد عن "حماس" في غزة، وقوات خليجية في البحرين، وتجاذباتٌ من حول "حزب الله" في لبنان. ولذلك تجد إيران نفسها في موقع صاحب المصلحة في "كسر مزراب العين" تنبيهاً إلى أنها حاضرة ولن تتنازل عما حصلت عليه في السنوات الماضية! والطريف إنما غير الظريف هذا التنافس في التسابق بينها وبين الولايات المتحدة وتركيا في نُصرة الثورات العربية. لكن الموقف الأميركي يبدو أكثر منطقية لأنه لا استثناء فيه، في حين يستثني الإيرانيون الثورة السورية ويدعمون النظام هناك بشدّة في مواجهة شعبه. ثم هم يريدون أن تعود "حماس" إلى أحضانهم، كما يريدون أن تندفع مصر باتجاه النزاع مع إسرائيل!
لا تؤكد الأمم المتحدة أن الفلسطينيين الذين أغاروا على إيلات جاؤوا عن طريق سيناء، لكنها تؤكد أن الإسرائيليين تجاوزوا الحدود مع مصر وضربوا مركز الشرطة المصري، مما اضطر باراك وزير الدفاع الإسرائيلي لإبداء الأسف الشديد لهذا الخطأ. لكننا نعلم أنّ المتشددين يتحركون بسيناء منذ شهور، كما نعلم أنَّ أفواج المقاومة الشعبية بغزة ما قاموا بعمليات منذ زمن. وينبغي القول إن الصلة بين متشددي سيناء، ومتشددي غزة غير واضحة، لكنّ المصالح مشتركة بين إيران وإسرائيل في الإفادة من الاضطراب الحاصل الآن على طرفي الحدود بين غزة ومصر. فإسرائيل تملك أن تشكّك في نوايا السلطات المصرية تُجاهها، كما تملك أن تشكّك في قدرات أبومازن على تأمين الأمن لإسرائيل إن أقام دولته عليها. أما نحن العرب، فإنّ لنا مصلحةً غلاّبة في أن تنجح الثورات العربية في صنع التحول الديمقراطي، وتكوين السلطات الجديدة، وفي طليعتها الثورة المصرية. كما أن لنا مصلحةً في أن ينجح الفلسطينيون في الحصول على اعتراف العالم بدولتهم رغم المعارضة المعلنة لإسرائيل والولايات المتحدة. في حين لا تقبل إيران تغييراً ديمقراطياً في سوريا، ولا عودة للتوحُّد بين الفلسطينيين، ولا قياماً للدولة الفلسطينية في حدود العام 1967، ولا إخضاعاً لسلاح حزب الله للسلطة اللبنانية.
إن هذا التضارب في المصالح بين إيران وإسرائيل والعرب، يُحوِّل المتطرفين باسم الإسلام سواء أكانوا من "القاعدة" أو من التنظيمات المتطرفة الأخرى أو من "حزب الله"، إلى عناصر وعوامل إعاقة وابتزاز، يمكن استغلالها بالتوجيه أو بالاختراق، لزعزعة الأمن والتأثير في التوجهات والمسارات شأن ما كان يحصلُ على مد العقود الماضية. فالمتطرفون يخدم بعضهم بعضاً بقصد أو من دون قصد، وسواء أكانوا دولاً أم تنظيمات، لكن الدول أقدر على الإفادة من هَبَل المتطرفين، ومن انسداد الأفق في وجوههم بعد نزول الجمهور إلى الشارع منذ مطلع عام 2011.
(*) نقلا عن صحيفة الاتحاد الاماراتية
رابط دائم: