نموذج 'لولا' يتكرر:| حدود التغير في السياسة الخارجية البرازيلية 27-8-2011 أمل مختار * باحثة بمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام. أنهي الرئيس البرازيلي "لويس دا سلفيا" الشهير ب - "لولا" فترة رئاسته في ديسمبر 2010، تاركا منصبه وفقا للدستور البرازيلي، الذي لا يسمح بفترة رئاسية ثالثة. ولا شك في أن وجود "لولا" علي رأس السلطة في البرازيل ولمدة ثماني سنوات كان مرحلة فارقة في تاريخ البرازيل. حيث أصبح "لولا" محط إعجاب واهتمام دول العالم كافة، لأن هذا الرئيس الذي بدأ حياته عاملا في مصانع الصلب، ثم تدرج في العمل السياسي والحزبي كمعارض للحكم الديكتاتوري في البلاد، استطاع أن يقفز بالبرازيل من مجرد دولة من دول العالم الثالث، مثقلة بالديون الخارجية ومعدلات التضخم والفقر الشديد والبطالة، إلي قطب جنوبي صاعد لديه ثامن أقوي اقتصاد علي مستوي العالم، بالإضافة إلي خطط وطموحات لمكانة دولية مرموقة في الساحة الدولية. وقد وضعت الرؤية البرازيلية للسياسة الخارجية هدفين رئيسيين، الأول: الاستفادة من السياسة الخارجية في توطيد العلاقات الاقتصادية والتجارية مع دول محددة، لتحسين الأوضاع الاقتصادية الداخلية، والتي تعود بالنفع المباشر علي المواطن البرازيلي. الثاني: بلورة وضع متميز للبرازيل، والظهور كفاعل مهم في الساحة الدولية، بهدف تعديل بنية النظام الدولي، ليكون نظاما متعدد الأقطاب تشارك فيه أقطاب جنوبية صاعدة، لا أن يظل منغلقا علي سيطرة الفاعلين الدوليين الكبار، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية. ومن أهم ما يميز إدارة "لولا" في تحقيق أهداف السياسة الخارجية هو إدراك الحجم الفعلي لقوة البرازيل، دون الوقوع في خطأ التهويل أو خطيئة التقليل من شأن هذه القوة. لقد نجحت إدارة "لولا" في فهم أن البرازيل قوة دولية متوسطة، تسعي لتعظيم دورها الدولي والمشاركة بفاعلية أكبر في الساحة الدولية، من أجل إحداث تغيير في بنية النظام الدولي. وهي تقوم بذلك دون التهويل من حجم قوتها، أو التصرف باعتبارها إحدي القوي العظمي، بمعني أنها تعلم جيدا عدم قدرتها علي مواجهة الولايات المتحدة مواجهة عدائية صريحة، علي نهج الرئيس الفنزويلي "شافيز"، ولكنها أيضا لا تقع في خطيئة التقليل من شأن القوة البرازيلية الصاعدة. أولا- التكامل الاقليمي لقارة أمريكا الجنوبية : علي الرغم من أن البرازيل تعد أكبر دول أمريكا الجنوبية، من حيث المساحة وعدد السكان، فإنها ظلت لسنوات عديدة قوة إقليمية خامدة. ولكن هذا ما بدأ يتغير في العقدين الماضيين، حيث أصبح واضحا أن الاتجاه نحو التكامل اللاتيني، تحت زعامة برازيلية، هو من أهم ركائز السياسة الخارجية البرازيلية. حيث قال وزير الخارجية السابق "سيلزو أموريم" في أحد تصريحاته: " قطعت حكومة لولا عهدا علي نفسها، منذ يومها الأول، بالعمل علي توحيد قارة أمريكا الجنوبية عن طريق التجارة وتدعيم البنية التحتية والحوار السياسي". لقد ساعد انتشار المد اليساري في معظم دول أمريكا الجنوبية الرئيس "لولا" اليساري في القيام بدور إقليمي مهم داخل القارة الجنوبية، ذلك المد اليساري الذي انتشر كالعدوي بين دول أمريكا الجنوبية عن طريق الانتخابات الديمقراطية. وقد سهل هذا المناخ للبرازيل الظهور كقوة إقليمية عظمي، وبديل مرحب به عن الولايات المتحدة الأمريكية، التي تشترك كل الحكومات اللاتينية اليسارية علي مقاومة هيمنتها، التي كثيرا ما فرضتها علي دول القارة. وتقوم السياسة الخارجية البرازيلية علي أساس التكامل الاقتصادي الاقليمي، الذي يمثله بقوة تجمع الميركوسور، بالإضافة إلي اتباع المنهج السلمي في التعامل مع جيرانها، والقيام بدور الوسيط في حل النزاعات داخل القارة، والمحاولة الدائمة في الوجود قبل الولايات المتحدة. وتعد بعثة الأمم المتحدة لحفظ الاستقرار في هايتي خير مثال علي ذلك، حيث حرصت البرازيل علي أن تتكون هذه البعثة من وحدات عسكرية لدول من أمريكا الجنوبية تحت قيادة برازيلية، دون وجود لأي دولة من خارج القارة. كما دعا الرئيس لولا في عام 2008 لإنشاء مجلس دفاع أمريكا الجنوبية بهدف الوصول به إلي ما يماثل حلف الناتو، وذلك بهدف إيجاد آليات إقليمية لفض النزاعات داخل القارة الجنوبية، بدلا من آليات "منظمة دول الأمريكتين". إذن فالبرازيل تجد في الزعامة الإقليمية طريقا طبيعيا للعالمية، لأن لعب دور ريادي في قارة أمريكا الجنوبية هو انطلاقة منطقية نحو دور فاعل علي مستوي الجنوب كله، تمهيدا للمطالبة بمقعد دائم في مجلس الأمن، من منطلق فكرة أن يكون هناك عضو دائم في مجلس الأمن يمثل دول الجنوب. ولكن هذا الاهتمام الحثيث للسياسة البرازيلية نحو دول الجوار يقابل بمواجهة الولايات المتحدة، التي كثيرا ما اعتبرت القارة بمثابة الفناء الخلفي لها، ودائما ما حرصت علي وجود حكومات موالية لها في هذه الدول، حتي وإن كانت حكومات ديكتاتورية أو فاسدة، كما كان الوضع في حكومة "فوجيموري" في البيرو، والذي كان حليفا قويا للولايات المتحدة، وقدم استقالته عقب فضح الإعلام البيروفي لملفات فساد له. ولكن الواقع في أمريكا الجنوبية أن المصالح الأمريكية في القارة الجنوبية باتت مهددة وبشدة، بسبب تغير تلك الحكومات الفاسدة والديكتاتورية التي كانت موالية للولايات المتحدة، واستبدالها بحكومات يسارية جاءت إلي الحكم عن طريق الانتخابات الديمقراطية، مما يعكس رغبة الشعوب اللاتينية في تحقيق العدالة الاجتماعية، وحل المشكلات الاقتصادية التي كثيرا ما عانتها شعوب القارة، وحملت كلا من الولايات المتحدة وحكوماتهم الموالية لها سبب هذه الأوضاع الاقتصادية المتردية. ولهذا السبب، نجد أن الجهود البرازيلية في شأن العمل اللاتيني المشترك، سواء في المجال الاقتصادي أو الأمني أو العسكري، تلقي ترحيبا من دول القارة أكثر من المجهودات الأمريكية، وهو الأمر الذي يؤثر بالسلب في المصلحة الأمريكية في المنطقة. من جهة أخري، فإن الدور البرازيلي المتنامي في القارة يقابل أيضا بمنافسة قوية من قوة إقليمية أخري، وهي فنزويلا شافيز. فعلي الرغم من أن حكومة شافيز في فنزويلا هي حكومة يسارية هي الأخري، وتتفق مع حكومة "لولا" علي حتمية التكامل داخل القارة ومواجهة الهيمنة الأمريكية، فإن هناك فوارق عديدة بين الإدارتين. ففي حين يلتزم "لولا" بصراع بارد مع الولايات المتحدة، نابع من إدراك واع لميزان القوي بين الدولتين، فإن شافيز يستخدم لغة واضحة وصريحة في شن هجوم لاذع علي الولايات المتحدة ورؤسائها. ويسعي شافيز بقوة واندفاع نحو تكامل قارة أمريكا الجنوبية، باعتبار أن هذا التكامل هو الضمان القوي لمواجهة الهيمنة والاستغلال الأمريكي لدول القارة. ولتحقيق هذا التكامل، يقوم شافيز بالإنفاق الواسع، مستخدما في ذلك قدرات فنزويلا النفطية. ففي حين يسكن مواطنو فنزويلا في العشوائيات ويرزحون تحت نير الفقر المدقع، يقوم شافيز، الرئيس اليساري الثوري، بالإنفاق بسخاء لاستمالة الدول اللاتينية، حتي إن شافيز قد عرض علي دول القارة في اجتماع البديل البوليفاري(ALBA) بيعها البترول الفنزويلي بنصف الثمن. كما قام شافيز بشراء سندات حكومية في الأرجنتين بما يعادل 3 مليارات دولار أمريكي، الأمر الذي مكن الأرجنتين من أداء ديونها لدي صندوق النقد الدولي، ومكنها من العودة إلي الأسواق الرأسمالية الدولية. أما البرازيل، فإنها تحاول جاهدة مقاومة هذا الإسراف الفنزويلي بمزيد من التحركات الدبلوماسية مع قليل من الإنفاق، لأن الناخب البرازيلي غير مقتنع بضرورة دفع ثمن مادي كبير مقابل تحقيق الزعامة الإقليمية. ثانيا- الصراع البارد مع الولايات المتحدة الأمريكية : إبان فترة الحكم العسكري في الستينيات والسبعينيات، ارتبطت البرازيل، شأنها شأن معظم دول القارة، بعلاقات قوية فيها قدر كبير من التبعية للولايات المتحدة. لكن هذا ما اخذ في التغير عقب التحول الديمقراطي، فتحول باتجاه العلاقات نحو دول القارة الجنوبية. وأصبح التكامل الإقليمي هو مسألة أمن قومي بالنسبة للبرازيل، وليس التحالف مع الجارة الشمالية العظمي. ومن هنا، بدأ التوتر يطفو إلي سطح العلاقات الثنائية بين القطبين الشمالي والجنوبي. ولكن حرصت إدارة "لولا" علي اتباع سياسة الصراع البارد، القائم علي أساس الاعتراف بقوة الولايات المتحدة، وضرورة الإبقاء علي قدر معقول من حسن العلاقة، ولكن في الوقت نفسه الإعلان عن موقف برازيلي واضح عن حماية المصالح داخل القارة، وفقا لرؤية لاتينية، وليس أمريكية. وقد ظهر ذلك في قيادة البرازيل لموقف أعضاء "الاتحاد الجمركي لجنوب أمريكا" من وضع حد للمشروع الذي طرحته الولايات المتحدة بشأن التبادل التجاري الحر بين أمريكا الشمالية والجنوبية. كما ظهر أيضا، حينما رفعت البرازيل الرسوم الضريبية علي مجموعة من المنتجات الأمريكية المستوردة إلي خمسين بالمائة، مما تسبب في خسارة تقدر بأكثر من 590 مليون دولار للولايات المتحدة، وهي أمور تثير غضبا أمريكيا كبيرا. وتتراوح كفتا الميزان في الصراع الدائر بين القطبين، مرة لصالح القطب الشمالي، وأخري لصالح الجنوبي، ولكنه دائما ظل صراعا قويا وباردا في الوقت نفسه. فعندما وافقت الحكومة الكولومبية الموالية للولايات المتحدة علي وضع سبع قواعد عسكرية أمريكية داخل أراضيها، أعلن "لولا" عن رفضه الصريح والقاطع لهذا التصرف، وقام بمحاولات عديدة للحيلولة دون ذلك، وهو الأمر الذي انتهي لصالح البرازيل، بعدما أوقفت المحكمة الدستورية الكولومبية الاتفاق في أغسطس 2010. وفي موقف آخر، وعندما وقع الانقلاب في هندوراس، رفضت البرازيل واتحاد أمم أمريكا الجنوبية هذا الانقلاب، وأعادت الرئيس المخلوع لإتمام فترة ولايته. ولكن مع تأزم الوضع مجددا، لجأ الانقلابيون إلي إعلان تشكيل حكومة جديدة، وهنا اعترفت إدارة أوباما -الراعية للديمقراطية- بانقلاب عسكري يعيد هندوراس إلي فترة الحكم العسكري، ويضيع سنوات من التحول الديمقراطي، وهو الأمر الذي رفضته البرازيل بشدة، واعتبرته جولة خاسرة أمام القطب الشمالي. ولا تقتصر جولات الصراع البارد بين القطبين داخل قارة أمريكا الجنوبية فقط، بل اتبع "لولا" سياسة جديدة، هي الخروج من الإطار الإقليمي إلي العالمي. فنجد البرازيل تقوم بدور قوي في ملفات مهمة مطروحة علي الساحة الدولية، ظلت هذه الملفات ولفترة طويلة حكرا علي الهيمنة الأمريكية. وبالطبع، يأتي دائما الموقف البرازيلي علي طرف النقيض مع الولايات المتحدة. وقد ظهر هذا بوضوح في التعامل مع قضيتي الصراع العربي- الاسرائيلي، والملف النووي الإيراني، وهو ما سيأتي ذكرهما لاحقا. ثالثا- التوجه نحو الجنوب: كما سبق ذكره، فإن إدارة "لولا" الرامية إلي بلورة مكانة دولية متميزة علمت جيدا كيف تتصرف، باعتبارها قوة دولية لا يمكن أن يستهان بها، ولكنها لا يمكن لها أن تتصرف باعتبارها قوة عظمي. لذلك، أدركت تماما أن مزيدا من التوجه نحو الشمال يعني مزيدا من التبعية. في حين أن مزيدا من التوجه نحو الجنوب يعني مزيدا من القوة لإيجاد مكانة مرموقة لها بين الأقوياء في النظام الدولي. ويمكن رصد صور من أشكال هذا التوجه نحو الجنوب في التالي: 1- الاهتمام بالقضايا الساخنة في الشرق الأوسط: ربما يكون اهتمام البرازيل بقضايا الشرق الأوسط جاء متأخرا، وهذا ما جعل الفاعل الرئيسي، وهو الولايات المتحدة، يرفضه ويصوره علي أنه مجرد محاولة برازيلية للإضرار بالمواقف الأمريكية التقليدية والمصالح الثابتة في المنطقة. وإن كان هذا التصور الأمريكي فيه قدر كبير من الصحة، فإنه لا يكشف عن الصورة الكاملة، وهي أن البرازيل تسعي بالفعل للعبث بالأوراق الأمريكية في الشرق الأوسط، الذي يعتبره القطب الشمالي منطقة نفوذ خاصة به، علي غرار ما تقوم به الولايات المتحدة من اختراق داخل حدود قارة أمريكا الجنوبية. لكن أيضا هناك دافع برازيلي آخر، هو القيام بدور سياسي دولي متميز في قضايا مهمة تشغل الرأي العام العالمي، وأن تؤدي هذا الدور بأسلوب مختلف عن منافسها الشمالي، وتقدم حلولا جديدة لتظهر أمام دول العالم بوصفها قطبا جنوبيا صاعدا، وهذا بدوره يخدم الحلم البرازيلي في الحصول علي مقعد دائم في مجلس الأمن. وقد ظهر هذا الدور في قضيتي الملف النووي الإيراني، والصراع العربي - الإسرائيلي. الملف النووي الإيراني: بدأت إدارة "لولا" تدخلها في الملف النووي الايراني بإعلان موقفها الواضح في حق إيران في امتلاك تكنولوجيا نووية سلمية، وليس سلاحا نوويا، وإعطاء طهران الوقت لإثبات الطبيعة السلمية لملفها النووي، وعدم التسرع في اتخاذ خطوات غير دبلوماسية ضد طهران، أو حتي عقوبات اقتصادية، وذلك لتفادي السيناريو العراقي. كما أن الموقف البرازيلي من تلك القضية يتسق مع موقفها الرافض لتوقيع معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية، واعتبار دعوة الولايات المتحدة الدائمة لهذه المعاهدة نوعا من أنواع الازدواجية التي تعانيها السياسة الأمريكية التي تمتلك السلاح النووي، وتزيد من الإنفاق الحكومي علي تطوير التكنولوجيا النووية، في حين تسعي لفرض عقوبات علي طهران لتشككها في نوايها السلمية من التكنولوجيا النووية. بالإضافة إلي ذلك، فهناك سبب آخر هو أن "لولا" نفسه قد أعلن خلال ولايته الثانية عن نيته تفعيل الأنشطة النووية واستئنافها بعد توقف دام قرابة 20 عاما. وفي هذا الصدد، قدمت البرازيل وتركيا حلا لتهدئة المخاوف العالمية من الملف النووي الإيراني، عن طريق توقيع اتفاقية بين إيران وتركيا تحت إشراف برازيلي من أجل تبادل اليورانيوم الإيراني ضعيف التخصيب بوقود نووي عالي التخصيب يعد في تركيا، وهو الأمر الذي يعني أن إيران ستخفض من عملية تخصيب اليورانيوم بنسبة 20%. ولكن هذا الأمر أثار حفيظة الولايات المتحدة، حيث اعتبرت وزيرة الخارجية الأمريكية "هيلاري كلينتون" أن هذا التدخل البرازيلي لا يؤدي إلي حل الأزمة الإيرانية، وإنما يقلل من فرص الولايات المتحدة في كبح جماح المارد الإيراني، حيث قالت: "نعتقد أن منح إيران الوقت يمكنها من تجنب الموقف الدولي الموحد فيما يتعلق ببرنامجها النووي، ويجعل العالم أشد خطرا بلا شك". الصراع العربي - الإسرائيلي: اعتمد "لولا" تكتيكا تدريجيا في التعامل مع القضية، حيث بدأ أولا بالظهور خفية، عندما قام في مارس 2010 بزيارة لمدة أربعة أيام لإسرائيل والأراضي الفلسطينية والأردن، قوبلت باستحسان عال من جميع الأطراف. ثم تدرج حتي وصل إلي العلانية، بل وإلي طرح مبادرات جديدة، حيث جاءت فكرة الاعتراف بالدولة الفلسطينية ضمن حدود 4 يونيو 1967، علي أن تكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية. تلك الفكرة التي تم طرحها في نهاية العام الماضي، جاءت من داخل البرازيل. والواقع أنه عند طرح هذه المبادرة، اعتقد البعض أنها مبادرة لا تأتي بالجديد، لأنه بالفعل هناك العديد من دول العالم تعترف بالدولة الفلسطينية، وتستضيف بعثات دبلوماسية علي أراضيها. ولكن الواقع أن الجديد في المبادرة البرازيلية ليس فقط أنها جاءت من خارج الفاعلين التقليديين في عملية السلام التي أصابها الجمود، ولكن لأن المبادرة تحاول الخروج قليلا من متاهات مفاوضات السلام التي ظلت لسنوات طويلة تدور في حلقات مفرغة، والتركيز علي نقطة واحدة يتم تكثيف التعامل الدولي معها، وهي الاعتراف بحدود يونيو 1967 كحدود فاصلة بين دولتين، هما دولة إسرائيل داخل حدودها، ودولة فلسطين داخل حدودها أيضا وعاصمتها القدس الشرقية. وهنا، يكون الاعتراف الدولي ليس فقط بقيام دولة فلسطينية، بل دولة ذات حدود واضحة وعاصمة معترف بها. وقام "لولا" بمجهود كبير في إقناع دول أمريكا الجنوبية بالاعتراف بالدولة الفلسطينية علي هذا الأساس الواضح. وقد نجح بالفعل في هذا، حيث توالت اعترافات دول القارة بالدولة الفلسطينية. كما تلقي الطرف الفلسطيني الخيط البرازيلي، وسعي إلي شحذ اهتمام عالمي بتلك المبادرة، التي من الممكن أن تؤثر بالسلب في عمليات الاستيطان الإسرائيلية داخل حدود الدولة الفلسطينية. وهو الأمر الذي أثار استياء إسرائيل، بل وأيضا استياء الولايات المتحدة، التي اعتبرت تدخل البرازيل في هذه القضية أمرا غير مبرر، وغير مفيد لتقدم عملية السلام. 2- الدخول في تحالفات دولية: تدرك البرازيل جيدا أنها قوة وسطي صاعدة، وتسعي دوما للتأثير في الساحة الدولية من خلال الدخول في مجموعات صغيرة أو مؤسسات دولية. ولذلك، اتبعت إدارة "لولا" سياسة خارجية نشطة في هذا الشأن. ويعد الدور الذي تلعبه البرازيل في اجتماعات "مجموعة العشرين" دورا حيويا جدا، حيث يعد هذا الحلف الجنوبي- الجنوبي منبرا مهما لإيصال صوت دول الجنوب والدفاع عن مصالحها الاقتصادية في مواجهة دول الشمال. وفي يونيو 2003، ومن برازيليا، انطلق منتدي الحوار المعروف باسم "إيبسا IBSA" (India، Brazil، South Africa (IBSA) Dialogue Forum)، والذي يضم الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا. وقد بدأ المنتدي باعتباره تحالفا بين دول جنوبية صاعدة بهدف الدفاع عن المصالح المشتركة للدول النامية، واتخاذ مواقف مشتركة تخدم هذه المصالح في المؤسسات الدولية، بهدف تكوين قوة تحاول اختراق بنية النظام الدولي الحالي والتأثير فيه. ويتشارك أعضاء المنتدي في إرادة حقيقية للوجود الفعال في الساحة الدولية، والتأثير في مجريات الأمور الدولية، وهو الأمر الذي انعكس علي الدور الذي يقوم به المنتدي. ويلاحظ أن السياسة الخارجية التي تتبناها البرازيل، بالإضافة إلي زعماء دول منتدي "إيبسا IBSA"، هي سياسة استخدام المؤسسات الدولية لتحدي شرعية النظام الدولي القائم ولتغيير المعايير المهيمنة. رابعا - السياسة الخارجية البرازيلية بعد "لولا": مع بداية عام 2011، بدأت "ديلما روسيف" فترة رئاستها الأولي، باعتبارها أول رئيسة منتخبة للبرازيل. وقد حققت "روسيف" فوزا صعبا في الجولة الثانية، حيث حصلت علي نسبة 57% من أصوات الناخبين في البرازيل. ومن المهم تأكيد أن الفضل الحقيقي لفوز "روسيف" كان التأييد والدعم القوي الذي حصلت عليه من الرئيس "لولا"، حيث إن "روسيف" هي مرشحة "لولا" وحزبه للرئاسة، وهي أيضا رئيسة الوزراء في حكومته الأخيرة. إذن، فالناخب البرازيلي حينما كان يصوت لروسيف كان في الأصل يصوت لاستمرار سياسة "لولا" الذي عجز عن الدخول في الانتخابات الرئاسية للمرة الثالثة، لأن الدستور البرازيلي لا يسمح بذلك. وقد أعلنت "روسيف" بدورها مرارا أنها مجرد استمرارا لمرحلة "لولا"، لدرجة أن البعض يتصور أن وجودها في الرئاسة هو وجود مؤقت، خاصة بعد ما أعلن "لولا" إمكانية ترشحه مرة أخري في الانتخابات الرئاسية القادمة في 2014. ولكن من المهم الإشارة إلي أن تصريحات "روسيف" التي أدلت بها في نهاية العام الماضي 2010، عقب إعلان فوزها، وقبل تسلمها الرسمي للسلطة، اتسمت بالتركيز علي الشئون الداخلية، وحل مشكلات الفقر والبطالة، ولم تتطرق إلي السياسات الخارجية، وهو الأمر الذي يثير مخاوف البعض من أن "روسيف" لن تكون في نفس مكانة وقوة "لولا" في الشئون الخارجية. ومن المبكر جدا الحكم علي مواقف "روسيف" الخارجية، ولكن من الممكن التكهن بأنها لن تخرج كثيرا عن إطار خلفها "لولا"، خاصة وقد قامت "روسيف" بالإبقاء في حكومتها الجديدة علي 11 وزيرا من الفترة السابقة. ولكن أيضا يمكن رصد موقف يمكن أن يفسر علي أنه تحول في السياسة الخارجية للبرازيل، وهو ما أعلنه وزير خارجية روسيف، "انتونيو باتريوتا" من أن البرازيل تعلن توقفها عن عمل أي وساطة فيما يخص الملف النووي الايراني، أو عن طرح أي مبادرات جديدة. وقال "أعتقد أنه سيكون من المبكر قليلا بالنسبة لنا أن نقوم بمحاولة أخري، علي غرار ما فعلنا العام الماضي." وأضاف "لكننا نبقي القنوات مفتوحة." ولكن أيضا، ينبغي تحليل مثل هذه التصريحات أو غيرها تحليلا منطقيا، بمعني أنه من الطبيعي أن قرارات السياسة الخارجية تتغير وفقا لمعطيات داخلية وإقليمية ودولية متغيرة. إذن، لا يمكن تفسير أي تحول يطرأ علي السياسة الخارجية البرازيلية علي أنه ارتداد عن طريق "لولا" الذي تعهدت "روسيف" بأن تسير عليه. خاتمة: كثيرا ما يفسر النجاح البرازيلي، سواء علي المستوي الاقتصادي أو مستوي السياسة الخارجية، علي أنه نجاح مرتبط بشخصية الرئيس "لولا"، لما يتمتع به هذا الرجل من ذكاء حاد، وقدرة كبيرة في إدارة الحوار، وحكمة كبيرة في الوقوف في نقطة وسطي بين فاعلين دوليين مختلفين، بل وأحيانا متصارعين. وإن كان هذا التحليل فيه شئ من الصحة، فإنه لا يوضح الصورة البرازيلية الكاملة. فالحقيقة أن ما شهدته البرازيل من تقدم مذهل في السنوات الماضية كان نتاج تحول ديمقراطي بدأ في 1994، عندما انتخبت البرازيل الرئيس السابق "فرناندو كاردوسو". وقد كانت بداية جيدة لاستقرار قيم الديمقراطية، والتي يعود إليها الفضل الحقيقي فيما قام به "لولا" من نقلة كبيرة في البرازيل. فالتحول الديمقراطي جعل من البرازيل دولة مؤسسات قوية، يكون فيها "قصر ايتا ماراتي" - وزارة الخارجية - مؤسسة قوية لديها رؤية واضحة، وسياسة عمل محددة لخدمة المصالح البرازيلية، وليس شخص الرئيس أو نظامه. ولهذا، يمكن أن نجد في البرازيل تحولا جذريا في السياسة الخارجية بين مرحلة ما قبل الديمقراطية وما بعدها، وليس بين "كردوسو" و"لولا"، أو بين "لولا" و"ديلما روسيف". ولكن يبقي دور تأثير الشخصية المتميزة للرئيس السابق لولا تأثيرا موجودا لا يمكن تجاهله، لكن مع تأكيد أن إنجازات السياسة الخارجية البرازيلية لا تساوي "لولا"، فإذا ذهب تنتهي من بعده كافة تلك الإنجازات أو تتوقف، ولكنها إنجازات دولة تنتمي إلي الجنوب، تحققت فيها الديمقراطية، فأنتجت مؤسسات قوية استطاعت أن تعبر بهذه الدولة وشعبها من الفقر والتخلف إلي الازدهار والتقدم، ولا تزال تطمح إلي المزيد، من خلال سياسة خارجية قوية تسعي لوضع البرازيل في مرتبة عالمية تنافس بها الدول العظمي. ------------------------------------------ (*) منشور في مجلة السياسة الدولية ، العدد 184 ، إبريل 2011 رابط دائم: