انقضت ستة أشهر على بدء الربيع العربي، وآن الأوان لإجراء محاولات أولية لتلخيص الآثار التي خلّفها لغاية اليوم. بادئ ذي بدء، يبقى الربيع العربي حدثاً ثورياً ينطوي على تبعات يتطلب ظهورها سنوات عدّة. وينطبق الأمر بالطريقة ذاتها على الدول والأنظمة التي بقيت بعيدة نسبياً عن تأثيرات الاحتجاجات الشعبية، كفلسطين أو دول الخليج العربي، وعلى الدول التي نجحت فيها الثورات إما في إطاحة رئيس ديكتاتوري أو في إخضاع النظام لامتحان صارم. ويبيّن التاريخ أنّ الثورات لا تقتصر على إطاحة نظام قديم، بل غالباً ما تشتمل على نضال طويل يهدف إلى استبدال النظام بآخر. هذا وتضطر البلدان المجاورة إلى توخي الحذر وإلى اعتماد سياسات هدفها الحدّ من انتشار هذه الثورات. وبالتالي، تعتبر جميع التقارير المتحدثة عن موت هذه الأخيرة سابقة لأوانها. وعلى الرغم من وجود عدد من التحركات المضادة للثورات في سورية وليبيا مثلاً، ليس هناك أي سبيل واقعي للعودة إلى الوراء.
ثانياً، من الواضح أنّ الربيع العربي هو حدث عربي شامل وناجم عن القضايا المشتركة في أنحاء العالم العربي، وأنّ ارتداداته امتدت من المغرب وصولاً إلى الخليج. وقد حصلت أحداث كان يصعب تصوّرها سابقاً، كالفرار المفاجئ لرجل قوي مثل بن علي أو المحاكمة الحالية للرئيس السابق حسني مبارك. هذا فضلاً عن الوعود التي قُطِعَت بمحاولة استخدام أموال العائدات المتراكمة التي يدرها النفط والغاز الطبيعي على أنظمة دول الخليج لمعالجة المشاكل الكامنة على صعيدي التنمية المستدامة وبطالة الشباب. إلا أنّ العمل الجدي يبقى ضرورياً للوفاء بهذه الوعود. في الوقت ذاته، سبق أن برزت تناقضات جدية بين المصالح المحلية والمصالح العربية كتلك التي برزت مثلاً بين المؤيدين والمعارضين للانتخابات الشعبية أو بين الأنظمة، هذا إلى جانب الأنظمة التي تعتمد على التحويلات التي يرسلها المواطنون العاملون في البلدان العربية ذاتها.
ثالثاً، لا يزال توقع المستقبل صعباً، وذلك لأسباب عدّة. ويعزى السبب الأهم إلى عدم دراية الفاعلين السياسيين بالطريقة الأنسب لترويج مصالحهم الخاصة ومصالح التحركات الثورية أو القومية الأوسع نطاقاً في آن. ويسهل رصد هذه الظاهرة في شرائح المجتمع المصري والتونسي كافةً، بدءاً بأعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر ووصولاً إلى أولئك الذين إما ينشئون أحزاباً جديدة أو يحاولون أن يعرفوا ما هي الأحزاب التي سيصوتون لها. كما يمكن رؤية ذلك أيضاً في الصراعات المؤيدة أو المعارضة لتحرّك مهم يسعى لإرساء نظام ملكي ذات طابع دستوري أكبر في البحرين والأردن والمغرب.وعليه، يمكن لغاية الآن استخلاص بعض العبر. سأذكر خمساً منها لأنها تعتبر الأهم من وجهة نظر تحليلية.
العبرة الأولى، وقد تعتبَر الأكثر استفزازية، مفادها أنّ الثوّار، مهما كانت مطالبهم محقة ونيتهم حسنة، ليسوا بالضرورة أفضل من الأشخاص الذين حلّوا مكانهم في تولي أنشطة الحكومة الأساسية. ولا عجب في ذلك أبداً. فما نجحوا فيه هو تنظيم الاحتجاجات غير المسلحة في أنحاء شاسعة من بلادهم. إلا أنهم كانوا أقل براعةً في محاربة أنواع أكثر تقليديةً من النزاع المسلح، أو في تنظيم الأحزاب السياسية، أو في إيجاد طرق جديدة لمحاسبة الحكومة والشرطة.
ثانياً، على الرغم من وجود كيان شبيه بما كان الأتراك يسمّونه الدولة العميقة – وهو عبارة عن شبكات خاصة ببلد ما، تضمّ ضباطاً وضباطاً سابقين يدعمون بعضهم البعض من داخل أجهزة الاستخبارات والقوى الأمنية – فهو لم يبدُ خطيراً بالقدر الذي تخيّله ثوار شبان كثيرون في مصر وتونس في بداية المطاف. وسيخضع استمرار نفوذه لامتحان واضح حين ينشئ أعضاء ينتمون إلى هذه الشبكات أحزاباً سياسية كوسيلة للمشاركة في الانتخابات الجديدة. وبالنظر إلى الأدلة القائمة حالياً، تبدو قدرتهم على اكتساب دعم الشعب، الذي يبدو مدركاً إلى حد معقول للعبتهم، مثيرة للشكوك. وكذلك، سيرى المرء، لو حاول التخمين، أنه لن يسعهم تنظيم ثورة مضادة حقيقية في حال شعروا أن مكانتهم معرضة لخطر كبير.
ثالثاً، إنّ عملية إيجاد مكانة مرضية للجيش والقوى الأمنية في إطار نظام ديموقراطي جديد يقوم على المحاسبة بدأت بالكاد، وهي ستبقى تشكّل مصدر قلق لبعض الوقت. ويقوم الحل الأمثل على تولّي وزير دفاع مدني حماية مصالح الجيش. لكن بالنظر إلى طبيعة الجيش المصري خصوصاً، الذي يحظى بموازنة سرية ويتابع أنشطة اقتصادية هائلة وسرية بمعظمها، ويفتقر إلى القدرة العملية عموماً، فإنه سيرغب حتماً في ضمان أمنه الخاص أكثر من قبل، بدلاً من الاكتفاء بالأمن الذي يمنحه إياه تدبير بهذه البساطة.
رابعاً، من الضروري أيضاً إيجاد مكان، في أيّ نظام يبرز بعد الثورة، لقوى الإسلام السياسي. ويطرح ذلك، بنظر عدد كبير من العلمانيين، مشكلة أساسية. لكن هذه المهمّة باتت أسهل بكثير في ظلّ وجود منظمات مثل «الإخوان المسلمين» الذين شاركوا، أياً كانت شوائبهم، في السياسة الوطنية على مدى عقود، ويملكون بالتالي عدداً من المهارات الضرورية للمساومة والتفاوض على التحالفات. فضلاً عن ذلك، وبالنسبة إلى إيجاد مكان للجيش في البنية السياسية الجديدة، يبقى من الضروري مواجهة هذه المشكلة التي لا يمكن تفاديها، ومن المهم تشجيع المحاولات الجدية بهدف إيجاد حلّ قابل للاستدامة بعد سنوات عديدة من محاولات الادعاء بأنّ المشكلة ليست موجودة.
خامساً وأخيراً، يتساءل البعض عن كيفية وضع حدّ نهائي للماضي السياسي الذي شاهدناه مؤخراً. وقد تعطي المحاكمات إجابة محتملة عن هذا السؤال. لكن ما السبيل لتوحيد عملية يتمّ خلالها تحقيق عدالة سياسية - كالضرر الذي لحق بجيل كامل، على حدّ تعبير الشباب المصري - باسم الشعب كله؟ من الواضح أنّ القضاة في محاكمة مبارك القائمة حالياً مدركون تماماً لهذه المسؤولية الكبيرة. ومع ذلك، يبقى هذا الأسلوب بعيداً كل البعد عن الوسائل التي استخدمتها مفوضية الحقيقة والعدالة والتي حققت نجاحاً كبيراً في جنوب أفريقيا. وهنا كما في أي مكان آخر، يُعتبَر ما يحصل في مصر نموذجاً مهماً، وإن لم يكن مرضياً بالضرورة، عمّا يحصل أو قد يحصل في القسم المتبقي من العالم العربي.
--------------------------------
(*) نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية
رابط دائم: