ظل لبنان حيناً طويلاً من الزمن متصدراً المشهد السياسي العربي، تارة بسبب احتدام التنافس الإقليمي والعالمي على مقدراته، وتارة أخرى بسبب الاعتداءات الإسرائيلية عليه، التي وصلت ذروتها بعدوان 2006، وتارة ثالثة بسبب الاستقطاب السياسي الداخلي الحاد بين فصيليه الرئيسيين (8، و14 آذار)، وخاصة أن عوامل التنافس الإقليمي والعالمي قد غذّت هذا الاستقطاب.
عندما غمرت موجة التغيير الراهنة عديداً من البلدان العربية فيما عرف بـ"الربيع العربي" تراجعت الأحداث اللبنانية عن موقعها في صدارة المشهد العربي لتفسح الطريق لأحداث التغيير في تونس ومصر وغيرهما. بل إن لبنان نفسه شُغِلَ بالتفاعل الكثيف مع تلك الأحداث، خاصة في مصر التي أحدث غيابها عن الساحة اللبنانية غصة في حلق قطاعات مهمة من الرأي العام اللبناني اعتبرت الحضور المصري عامل توازن مهمّاً في تلك الساحة.
يعود لبنان الآن إلى صدارة المشهد من النافذة نفسها والصراع ذاته. تغيرت أمور كثيرة في الوطن العربي، ولكن لبنان بقي على حاله، ولم يكن له أن يعود إلى صدارة السياسة العربية من باب التغيير، فهو بالغ العسر -إن لم يكن مستحيلاً- في الظروف الراهنة، حيث إنه لا يعني الانتفاض على نظام استبدادي للحكم، فليس هذا هو حال لبنان، وإنما لابد أن يتجه إلى البنية الاجتماعية والطائفية ذاتها، وهي عملية تاريخية معقدة لم تتوفر شروطها الموضوعية بعد. ولكن عودة لبنان إلى صدارة المشهد من جديد سهَّلتها عوامل شتى ربما يكون من بينها أن اللحظات المثيرة في عملية تغيير النظم الاستبدادية الحاكمة، وبالذات في تونس ومصر قد ولَّت، وأخلت الطريق لتفاعلات بالغة التعقيد. ومنها أن عملية التغيير تجري ببطء كما تبدو الأمور في اليمن وليبيا وسوريا. ولكن هذه العوامل ربما تفسر الأهمية النسبية التي اكتسبتها الأحداث الأخيرة في لبنان، غير أنها لا تفسر تطور هذه الأحداث أصلاً.
ويمكن أن تُرَد البداية الحقيقية للجولة الراهنة من جولات الصراع السياسي الداخلي في لبنان إلى الطريقة التي فقدت بها حكومة 14 آذار أغلبيتها البرلمانية التي حققتها في آخر انتخابات تشريعية، إذ إنها لم تفقد هذه الأغلبية بسبب انتخابات جديدة، وإنما نتيجة تغير في الولاء السياسي لبعض عناصر تحالف 14 آذار. وقد أطلق قادة هذا التحالف على ما وقع وصف "الانقلاب"، وما هو بانقلاب، فمن المعتاد في أية حكومة تقوم على ائتلاف سياسي أن تفقد أغلبيتها إذا انشق عليها أحد مكوني الائتلاف أو أكثر، وكان بحوزته أو حوزتهم عدد من المقاعد البرلمانية كفيل بتحويل الأغلبية إلى أقلية. وقد فتح ذلك التطور الباب على مصراعيه لتشكيل حكومة يتسيدها تحالف 8 آذار، وإن حاول ميقاتي ألا يجعلها حكومة "اللون الواحد". وبعد مخاض عسير عودتنا عليه السياسة اللبنانية وُلِدَت حكومة ميقاتي، وبدأت معركة كسب الثقة في مجلس النواب، وهي معركة بدا الانتصار فيها مضموناً إلى حد بعيد على ضوء الأغلبية التي تتمتع بها الحكومة في المجلس.
في هذا التوقيت تحديداً صدر القرار الظني للمحكمة الدولية المكلفة بنظر قضية اغتيال الحريري، وهو توقيت يعزز حجج القائلين بـ"تسييس المحكمة"، إذ بدا وكأن المطلوب هو إحداث قدر من الارتباك للحكومة اللبنانية الوليدة. وجاء رد الفعل متوقعاً من جانب "حزب الله"، فقد رفض قرار المحكمة جملة وتفصيلاً، ومعروف أن له موقفه الرافض أصلاً للمحكمة ذاتها. وقد أكد الأمين العام للحزب في خطاب أعقب صدور القرار مباشرة أن المحكمة "مسيسة"، واتهم بعض محققيها والعاملين فيها بتقاضي رشى للتأثير على قراراتهم، واتهمها كذلك بالتواطؤ مع إسرائيل، بدليل نقل أجهزة الحاسوب التي تضمنت التحقيقات إليها حيث يمكن أن تتعرض المعلومات التي تحتويها للتلاعب، وأكد -وهذا هو المهم- أن كائناً من كان لن يمكنه الوصول إلى المتهمين الأربعة الذين ينتسبون إلى الحزب. وبطبيعة الحال فإن الحزب يستند في هذه المواقف القاطعة لا إلى المنطق السياسي وحده ولكن إلى موازين القوى التي تعطي الحزب وضع "الدولة داخل الدولة". صحيح أن السلاح الذي يملكه الحزب هو "سلاح المقاومة"، ولكنه استخدم وقت اللزوم في حسم سريع لبعض الخلافات السياسية الكبرى بين تحالفي 8 و14 آذار، وهكذا فإن الحزب مثلاً هو الذي تحرى الاختراق الأخير في صفوفه من جانب الاستخبارات المركزية الأميركية واكتشفه، وذلك وفقاً لما أعلنه الحزب، وهو بالتأكيد الذي سيقوم بالمحاكمة، وكان الوضع الطبيعي يشير إلى ضرورة أن يسلم الحزب ما بحوزته من أدلة ومتهمين إلى سلطات الدولة اللبنانية لتتصرف وفقاً لمقتضيات النظام القانوني اللبناني.
وردت قوى 14 آذار "التحية" بأحسن منها، وتبنت في المقابل خطاباً تصعيديّاً يحذر من أن عدم التزام الحكومة اللبنانية بقرار المحكمة الدولية يهدد بتحويل لبنان إلى دولة مارقة، ويطالب من ثم رئيس الوزراء بتبني موقف واضح يؤكد الالتزام بالمحكمة والانصياع لقراراتها، وإلا فعليه أن يرحل. ولن يستطيع تحالف 14 آذار بطبيعة الحال أن يغير ما يراه من "منكر" بيده، فالقوة في أيدي خصومه، وبالتالي فإن الوسائل المتاحة أمامه سياسية. منها مثلاً أن يحاول كسب معركة حجب الثقة عن حكومة ميقاتي في مجلس النواب، وهو أمر بالغ الصعوبة إن لم يكن مستحيلاً كما سبقت الإشارة، ومنها كذلك أن يحاول النزول إلى الشارع، وهو بديل غير مضمون النتائج، أولاً لأن الفريق الآخر يستطيع أن يلجأ إلى الشارع بالطريقة نفسها، ويحقق حضوراً لا يقل في تأثيره عن قوى 14 آذار. وثانيّاً لأن المواطن اللبناني قد ملَّ اللعبة فيما يبدو، وهو الذي كان يتطلع إلى تشكيل الحكومة كي تنتظم أموره الحياتية اليومية، وقد لا يكون سعيداً على الإطلاق بالعودة إلى نقطة الصفر. ومنها كذلك أن قوى 14 آذار قد تحاول إغراء القوى الكبرى بالتدخل، أو على الأقل استصدار قرارات من مجلس الأمن تدين الحكومة اللبنانية و"حزب الله"، وهذا كله على رغم أهميته لم يعد يخيف أحداً، فها هي قوات "الناتو" تكاد تكمل الخمسة شهور عمراً من مهمتها في ليبيا دون أن تحقق شيئاً يذكر في مواجهة نظام يفترض أن شرعيته قد تآكلت. كما أن الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين لديهم ما يكفي من مشاكل التدخل وتداعياته في أفغانستان والعراق، ولا يشجع الوضع السياسي الداخلي في تلك الدول على المبادرة بتدخل فعال في الساحة اللبنانية. أما دخول إسرائيل في الصورة بعمل عسكري فهو للأمانة ليس وارداً لدى قوى 14 آذار، بالإضافة إلى العقدة الإسرائيلية التي لم تنفك بعد من "حزب الله" منذ عدوان 2006، وقد لا تكون هذه هي الظروف المثالية سياسيّاً لتكرار عمل من هذا النوع.
والخلاصة أن لبنان مقبل على الدخول في حلقة جديدة من حلقات الأزمة السياسية الممتدة فيه، ولأن الحل الجذري لهذه الأزمة بعيد المنال بمنظور الحاضر فسيظل لبنان يدور في الحلقة المفرغة ذاتها حتى يحين موعد الانتخابات التشريعية القادمة، وساعتها سيقول المواطن اللبناني رأيه مع تحالف 8 آذار أو 14 آذار، وقد تتغير المعادلة السياسية القائمة نتيجة انتخابات كهذه، ولكن التوازن -أو بالأحرى الخلل فيه- سيبقى على حاله إلى حين قدوم "الربيع اللبناني"، وما أصعبه من قدوم
====================
(*) نقلا صحيفة الاتحاد الإماراتية
رابط دائم: