عُقدت الدورة العادية الثلاثون للمجلس المركزى لمنظمة التحرير الفلسطينية فى رام الله يومى28 و29 أكتوبر 2018. وقد تضاربت الآراء بشأن جدوى الانعقاد، وما إذا كان المجلس يحمى القضية الفلسطينية أم يضر بها فى ظل الانقسام الفلسطينى – الفلسطينى، وتعثر المصالحة، وتعقد البيئة الداخلية والخارجية المصاحبة لانعقاده، مما يستدعى التساؤل: كيف نفهم ذلك الحدث؟ وما الدور المنوط بالمجلس المركزى؟ وما دلالة انعقاده فى الوقت الراهن؟ وما القرارات التى اتخذها؟ وما تأثيرها فى المسارات المحتملة للقضية الفلسطينية؟ وكيف تفاعلت الفصائل الفلسطينية مع الدعوة لانعقاد المجلس؟ وما الموقف الإسرائيلى من قرارات المجلس؟ وهو ما تسعى السطور الآتية للإجابه عنه.
أولاً- دور المجلس المركزى واختصاصاته:
تقرر تشكيل مجلس مركزى لمنظمة التحرير الفلسطينية فى الدورة الـحادية عشرة للمجلس الوطنى الفلسطينى- أعلى هيئة تشريعية تمثيلية للشعب الفلسطينى- عام 1973، لمعاونة اللجنة التنفيذية فى تنفيذ قرارات المجلس الوطنى وإصدار التوجيهات المتعلقة بتطورات القضية الفلسطينية. وقد اتخذ المجلس قراراً بتشكيل السلطة الفلسطينية عقب اتفاق أوسلو الذى وقعته منظمة التحرير الفلسطينية مع الحكومة الإسرائيلية فى العام 1993 لكى تتسلم مهام إدارة شئون الضفة الغربية وقطاع غزة من إسرائيل.
يبلغ عدد أعضاء المجلس المركزى 140 عضواً والنصاب القانونى لصحة انعقاده 71 عضواً. ووفق لائحته، فإنه يجتمع كل شهرين بناء على دعوة رئيسه وتتخذ قرارات المجلس بأغلبية أصوات الحاضرين. يتوزع أعضاء المجلس المركزى على الفصائل الفلسطينية، كل فصيل ممثل بعضوين، بالإضافة لممثل الفصيل فى اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، والتى لا تمثيل لحركة حماس أو الجهاد فيها، إلى جانب رؤساء اللجان البرلمانية، وهيئة رئاسة المجلسين التشريعى والوطنى، ويضاف إليهم 42 من المستقلين فى المجلس الوطنى، ورؤساء الاتحادات الشعبية، ومن3 إلى5 من العسكريين يحددهم القائد العام (الرئيس محمود عباس). ويعد المجلس المركزى الهيئة الوسيطة ما بين المجلس الوطنى الذى يمثل برلمان منظمة التحرير، واللجنة التنفيذية التى تمثل الجسم التنفيذى وذلك بهدف تطوير الأداء والقدرة على التحرك، فعدد أعضاء المجلس الوطنى يفوق الـ 700 عضو مما يصعب انعقاده، علاوة على مواجهة متطلبات مرحلة تتعاظم فيها التحديات.
تجدر الإشارة إلى أن المجلس المركزى عقد منذ عام 1985 عدد 29 دورة. وفى دورته الثامنة والعشرين يناير 2018، قرر تكليف اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بتعليق الاعتراف بـإسرائيل إلى حين اعترافها بدولة فلسطين على حدود عام 1967 وإلغاء قرار ضم شرقى القدس، إلى جانب الانفكاك من علاقة التبعية الاقتصادية مع الاحتلال التى كرسها اتفاق باريس الاقتصادى. غير أن هذه القرارات لم تنفذ بعد. أما الدورة الـ 29 فى أغسطس 2018، فقد اتخذت فيها قرارات برفض "صفقة القرن" الأمريكية، وتأكيد استمرار قطع العلاقات السياسية مع الاحتلال لحين تراجع الإدارة الأمريكية عن قراراتها غير القانونية بشأن القدس واللاجئين والاستيطان.
ثانياً- سياق انعقاد المجلس المركزى:
قاطعت كل من الجبهة الشعبية، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، والمبادرة الوطنية الدورة الحالية للمجلس لعدة أسباب وفق رأيها، وهى: عدم تطبيق القرارات السابقة للمجلس، وتفرد فتح بالقرار الوطنى الفلسطينى، والإصرار على انعقاد المجلس في ظل غياب قوى رئيسية. وقد حذرت الجبهة الشعبية من فرض عقوبات جديدة على قطاع غزة. يأتي ذلك بالتزامن مع عدم مشاركة الفصائل خارج المنظمة (حماس والجهاد الإسلامى) فى الدورات كافة لعدم تلقيهما دعوة للمشاركة إضافة لمقاطعة العديد من الشخصيات الوطنية. أما حركة فتح، فقد أدانت تخلف البعض عن المشاركة فى ظل الظروف القاسية التى تمر بها القضية الفلسطينية نتيجة لمحاصصة أو مناكفة حزبية.
يلفت النظر اتجاه المقاطعين والمتغيبين إلى عقد مؤتمر مواز بعنوان "المؤتمر الشعبى الفلسطينى لمواجهة التفرد والإقصاء والعقوبات" شاركت فيه فصائل حماس والجهاد. وحذر المؤتمر فى بيانه الختامى من فرض عقوبات جديدة على قطاع غزة أو حل المجلس التشريعى خلافًا للقانون بما قد يدفع نحو فصل قطاع غزة عن الوطن، وطالب بالاستجابة للجهود المصرية لإنقاذ عملية المصالحة، والدعوة إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تتولى إزالة كل آثار الانقسام، وتعمل على التحضير لإجراء انتخابات في المجلس الوطنى والتشريعى والرئاسى خلال 6 أشهر إلى سنة وفقًا لقانون التمثل النسبي الكامل، وتقديم كل أشكال الدعم والمساندة في المقاومة الجماهيرية لمواجهة مخططات الاحتلال، والعمل على رفع الحصار ودعم مسيرات العودة وكسر الحصار، واعتماد رؤية شاملة تنطق من ضرورة التخلى عن اتفاق أوسلو عبر عملية تدريجية.
يتبين من مجمل تلك التفاعلات استمرار تبادل الاتهامات بين حركتى فتح وحماس، حيث ترى قيادات حركة فتح أن حماس تكرس سياسة الأمر الواقع وتبحث عن سبل واتفاقيات فى الباطن باتجاه التهدئة والإغاثة والتنمية لتثبيت الدويلة بغزة وإعاقة تحقيق المصالحة. أما حماس، فاستبقت اجتماعات المجلس المركزى بالتصريح بأنها غير شرعية مؤكدة رفضها لكل ما يصدر عنها، ورأت أن انعقاد المجلس غطاء لما يمس الوحدة ويعزز الفرقة ويكرس التفرد والإقصاء، دون أى إشارة لسيطرتها المنفردة إثر الانقلاب على الشرعية الذى قامت به فى قطاع غزة عام 2007 عقب فوزها بأغلبية مقاعد المجلس التشريعى الفلسطينى.
ثالثاً- قرارات المجلس المركزى وفقاً للبيان الختامى:
أكد البيان الختامى رفض صفقة القرن تحت أى مسمى ومواجهتها بكل السبل، واعتبار الإدارة الأمريكية شريكاً لحكومة الاحتلال الاسرائيلى، وقطع الاتصالات معها لحين تراجعها عن قراراتها غير القانونية بشأن القدس والاستيطان واللاجئين، والتمسك بالدعوة لمؤتمر دولى للسلام برعاية الأمم المتحدة، ومطالبة جميع الدول العربية بوقف جميع أشكال التطبيع مع الاحتلال وفقاً لمبادرة السلام العربية 2002. وجاء بالبيان أن الهدف المباشر للشعب الفلسطينى هو استقلال فلسطين وعاصمتها القدس الشرقية على حدود 1967، وإنهاء جميع التزامات منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية تجاه اتفاقاتها مع سلطة الاحتلال، وفى مقدمتها تعليق الاعتراف بدولة إسرائيل إلى حين اعترافها بدولة فلسطين، ووقف التنسيق الأمنى مع الاحتلال، والانفكاك الاقتصادى، ورفض قرار الحكومة الإسرائيلية اقتطاع مخصصات أسر الشهداء والأسرى والجرحى من المقاصة الفلسطينية بما يخالف للقانون الدولى. كما تطرق البيان إلى وجوب قيام اللجنة التنفيذية بتنفيذ القرار الخاص بتمثيل المرأة بما لا يقل عن 30 % فى جميع المؤسسات الفلسطينية، وتأكيد أن التهدئة مع الاحتلال الإسرائيلى مسئولية وطنية لمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعى والوحيد للشعب الفلسطينى وليس عملاً فصائلياً، وتحميل حركة حماس المسئولية الكاملة عن عدم الالتزام بتنفيذ جميع الاتفاقات التى تم توقيعها وإفشالها، وآخرها اتفاق المصالحة فى أكتوبر 2017 برعاية مصر، ورفض ما يطرح تحت مسمى مشاريع إنسانية وموانئ ومطارات، وتأكيد أنه لا دولة فى قطاع غزة، ولا دولة دون قطاع غزة، والعمل على إزالة الخلافات بين فصائل منظمة التحرير، وتثمين خطوات القيادة الفلسطينية بإحالة ملف جرائم الاحتلال إلى المحكمة الجنائية الدولية، واستمرار الجهود المبذولة لحصول فلسطين على العضوية الكاملة فى الأمم المتحدة، وجوب دعم حركة مقاطعة إسرائيل B D S، وتأكيد الحق فى مقاومة الاحتلال بمختلف الوسائل وفقاً للقانون الدولى، وتثمين مسيرات العودة البطولية فى غزة مع ضرورة الالتزام بسلميتها، وكذلك الصمود فى قرية الخان الأحمر وموقف المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية فاتوا بن سودا، على أساس أن هدم القرية يرقى إلى جريمة حرب، والإثناء على صمود الفلسطينيين فى القدس والتصدى لمحاولات المستوطنين اقتحام الحرم المقدسى وتغيير الواقع الديموجرافى، واستنكار الاعتداء الإسرائيلى على بطركية الأقباط الأرثوذكس، وإجراء التعديلات اللازمة على قانون الضمان الاجتماعى بأثر رجعى، فقد أثار جدلاً فى الشارع الفلسطينى بشأن الاشتراكات وحساب الراتب التقاعدى وشروط استحقاقه، وقد كلف المجلس الرئيس واللجنة التنفيذية متابعة وضمان تنفيذ ذلك.
رابعاً- فاعلية قرارات المجلس المركزى ومستقبل القضية الفلسطينية:
على ضوء تلك القرارات، يمكن توقع عدة سيناريوهات مستقبلية كما يلى:
1- تنفيذ قرارات المجلس المركزى والضغط على إسرائيل لقيام دولة فلسطينية على حدود 1967عاصمتها القدس الشرقية:
يعد هذا السيناريو الأكثر تفاؤلاً، فالجديد هنا هو تكليف المجلس المركزى للرئيس واللجنة التنفيذية متابعة تنفيذ القرارات. وبالفعل، عقدت اللجنة الوطنية العليا التى شكلها الرئيس محمود عباس للاستمرار بتنفيذ القرارات اجتماعها الأول فى 30 أكتوبر، كما أكد مجلس الوزراء برئاسة الدكتور رامى الحمدالله تأييده للمواقف التى أعلنها الرئيس محمود عباس فى خطابه أمام المجلس المركزى ودعمه الكامل لنتائج الاجتماعات وترجمتها عملياً، علاوة على استمرار الجهود المصرية لإنهاء الانقسام، فقد وصل إلى قطاع غزة فى اليوم التالى لاجتماعات المجلس وفد من المخابرات وذلك للمرة الرابعة فى الأسبوعين الأخيرين فى إطار الجهود المبذولة فى ملفى التهدئة مع الاحتلال الإسرائيلى والمصالحة الوطنية.
ومن جانب آخر، ربما يُستبعد حدوث ذلك السيناريو فى ضوء عدة أسباب، هى: التحيز الأمريكى المطلق إسرائيل ويستدل عليه بقرار نقل السفارة الأمريكية والاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وغلق مكتب منظمة التحرير بالولايات المتحدة ووقف التمويل الأمريكى للأونروا، وعدم اكتراث نتيناهو بجهود عملية التسوية، فخطابه فى الجمعية العامة للأمم المتحدة لم يتضمن أى إشارة للقبول بحل الدولتين، وصدور قانون القومية العنصرى الذى يعرف إسرائيل بأنها الدولة القومية للشعب اليهودى.
2- الفشل فى تنفيذ القرارات وتمرير الرؤية الأمريكية الإسرائيلية للتسوية:
يعزز هذا السيناريو عدة مؤشرات هى : غياب التوافق الفلسطينى – الفلسطينى على رؤية وطنية موحدة وتعثر مسار المصالحة حتى الآن، واتخاذ المجلس المركزى قرارات مماثلة فى اجتماعاته السابقة منذ عام 2015 ولم يتم تنفيذها. من زاوية أخرى، فإنه يصعب عملياً تنفيذ بعض تلك القرارات. فمثلاً، يعنى التنسيق الأمني الاتصال بين السلطة الفلسطينية وسلطة الاحتلال الاسرائيلى من خلال لجان ارتباط مشتركة مدنية وعسكرية بهدف معالجة القضايا المشتركة مثل الانتشار الأمنى وحالات التسلل بين الضفة وغزة وإسرائيل وحفظ النظام العام. وفى الوقت ذاته، ستعمل إسرائيل على التصعيد وفرض العقوبات على السلطة وتكبيدها ثمناً فادحاً وتوقف أمريكا تمويلها إذا أوقفت التنسيق الأمنى مع الاحتلال. وفيما يخص الجانب الاقتصادى، رسم بروتوكول باريس التبعية المطلقة والربط الكامل للاقتصاد الفلسطينى مع الاقتصاد الإسرائيلى وذلك من خلال شمولها أربعة قطاعات اقتصادية هى: العمل، والعلاقات التجارية، والمسائل المالية، والترتيبات النقدية. وأدت بنود هذه الاتفاقية والقيود الاسرائيلية المتخذة ضد الفلسطينيين إلى عرقلة نمو الاقتصاد الفلسطينى، وزيادة العجز فى الميزان التجارى مع إسرائيل، وتعميق الاعتماد على السوق الاسرائيلية. لا تألو اسرائيل جهداً فى التنكيل بالقضية الفلسطينية دوماً، فقد حجبت الحكومة الإسرائيلية جزءاً من تحويلات الضرائب المستحقة للسلطة لثلاثة أشهر متتالية، رداً على انضمامها لعدد من المعاهدات الدولية فى مطلع سنة 2015 وتسببت فى أزمة مالية هددت السلطة بعدم القدرة على دفع رواتب موظفيها. وقد نشرت الصحافة الإسرائيلية عددا من التصريحات تبين الموقف الإسرائيلى من قرارات المجلس المركزى، فقد ذكر يائير لبيد، رئيس حزب يوجد مستقبل، "أن قرار السلطة الفلسطينية بتعليق الاعتراف بإسرائيل نكتة سيئة، لقد أنشأنا دولة إسرائيلية رائعة هنا بأيدينا وبدون أن نطلب أحداً، سنواصل بناء إسرائيل قوية وآمنة. وعندما يقرر الفلسطينيون الاعتراف بالواقع، فالمجال مفتوح لهم للاتصال بنا".
3- التنفيذ الجزئى لقرارات المجلس المركزى وإجبار الجانب الإسرائيلى على التنازل مرحلياً:
يظل هذا السيناريو الأقرب للواقع، فاستمرار اسرائيل بعدم اعترافها بالدولة الفلسطينية وتنصلها من اتفاق أوسلو يستدعيان إعادة تقييم العلاقة معها. وبالفعل، اتخذت السلطة عدة خطوات مثل تقديم ملف بالانتهاكات الإسرائيلية للمحكمة الجنائية الدولية. كماعلق نتنياهو قرار هدم قرية الخان الأحمر تحت وطأة الصمود الفلسطينى، ورفض الاتحاد الأوربى وقف الدعم المالى للسلطة الفلسطينية بسبب الادعاء بأن المناهج الدراسية الفلسطينية هي مناهج تحريضية. وإذا ما خفضت السلطة من مستوى التنسيق الأمنى مع اسرائيل، فسيكون العبء الأمنى على كاهل إسرائيل ثقيلًا تحت وطأة عمليات المقاومة وتهديد أمن إسرائيل.
مجمل القول إنه فى ظل صعوبة اجتماع المجلس الوطنى الفلسطينى، وتعطل المجلس التشريعى، وصعوبة التوافق الوطنى، بسبب استمرار الانقسام، فإنه يتم التعويل على المجلس المركزى لمنظمة التحرير. فمنذ تأسيسه، كان دوره محدوداً بسبب دورية انعقاد المجلس الوطنى، وعدم وجود قوى فلسطينية خارج منظمة التحرير تنافسها على صفتها التمثيلية. وما حدث خلال السنوات الثلاثة الأخيرة هو تفعيل وتنشيط المجلس المركزى، بحيث أصبح اجتماعه الإطار المتاح الذى يمكن أن يجتمع فيه ممثلون عن معظم قطاعات الشعب الفلسطينى، ويبقى تفعيل قراراته لخدمة القضية الفسلطينية، وأن تتعدى كونها مجرد توصيات، وهذا رهن الإرادة الوطنية الفلسطينية.