يذكرني الإنسان المصري دائمًا بذلك الشاب الشهم النبيل الذي سُلِبَتْ منه حبيبته، وحُبِس ظلمًا طوال 25 عامًا، فانتابته حالة من اليأس والقهر والاسْتِكانَة، لكن معدنه الأصيل أعاده للوقوف صلبًا على قدميه، وإشهار سيفه في وجه التحديات، كما قرأنا عن الكونت دي مونت كريستو في رواية الكاتب الفرنسي آليكسندر دوماس.
دعني في البداية أرو لك طرفا من القصة. قبل أيام من انعقاد المؤتمر الوطني الدوري السادس للشباب، في يومي 28 و29 يوليو الماضي، تعطلت سيارتي، فأقلنى "تاكسي" للذهاب لعملي بجامعة القاهرة، فإذا بمذيع الراديو يعلن خبرًا لا تخفى رمزيته، وهو اختيار جامعة القاهرة كمقر لانعقاد المؤتمر الذي سيعلن فيه الرئيس السيسي الاستراتيجية القومية لتطوير التعليم وبناء الإنسان المصري بمحاورها الثلاثة، التعليم والصحة والسكان، بحضور ثلاثة آلاف مدعو، وهو ما يجعله مؤتمر الشباب الأكثر من حيث عدد الحضور، لاحظ السائق اهتمامي بالاستماع إلى الخبر، وسألني عما إذا كنت مدعوة لحضور المؤتمر، فأخبرته بحماس بأنني أحد المشاركين في تنظيمه مع مجموعة كبيرة من الشباب الذين يبذلون جهدًا شاقًا في البحث، والتخطيط، ووضع أجندة المؤتمر، وتنظيم فعالياته كاملة، فقال لي: «إذن انقلي رسالة مني إلى الرئيس بأن الحال في مصر لن تنصلح أبدًا، وأن محاولاته ستفشل ككل سابقاتها، لأننا لسنا أذكياء كالإنجليز الذين أحسنوا استغلال مواردنا خلال فترة الاحتلال، ومصر لن تلحق بهم مهما فعلنا، والأولى بنا أن نبحث عن لقمة العيش، وهذا يكفينا».
ربما تعبر وجهة نظر هذا السائق، الذي أكمل العقد الخامس من عمره، عن لسان حال عدد من المصريين الذين يتساءلون عن الجديد الذي يمكن أن تأتي به محاولات الإصلاح عما سبقتها، وعن إمكانية اللحاق بالدول المتقدمة المنطلقة بسرعة الصاروخ. في البداية، لا بد أن نلتمس العذر للرجل فقد عاصر كغيره من المصريين عشرات التجارب للإصلاح دون جدوى، بل كانت الحصيلة هي إنتاج عقول أغلبها يحفظ ولا يفهم، وأجساد أنهكها التلوث والمرض، وضمائر أتلف بعضها الفساد والمحسوبية، فأصبح الكثير منهم فاقدًا الثقة وخائفًا من المستقبل.
"مصر تستحق أجيالا قادرة على إنتاج المعرفة" هكذا بدأ الدكتور طارق شوقي، وزير التربية والتعليم، حديثه في مؤتمر الشباب لاستعراض استراتيجية تطوير التعليم ما قبل الجامعي، والتي ستحل محل النظام الحالي خلال الأعوام الاثني عشرا القادمة. وتمتاز الاستراتيجية الجديدة باعتمادها على ثلاثة محاور متكاملة.. الأول: التطوير المعرفي للمعلم والارتقاء بوضعه المهني، والثاني: تطوير مهارات الطالب العلمية والثقافية والرياضية بصورة متوازنة تثري مهاراته الحياتية، والثالث: تخفيض الكثافة في الفصول، وتطوير البنية التحتية للمدارس، بما تشمله من معامل وملاعب ومكتبات وأماكن للأنشطة.
"آلَةُ العَيشِ صِحّةٌ وَشَبَابٌ"... مقولة للمتنبي، والمقصود بها أن شابا دون صحة كآلة متعطلة، لذا كان الشق الثاني المكمل للتعليم هو تطوير "منظومة التأمين الصحي"، والتي تشمل عدة محاور تتعلق بتفعيل آليات خفض النمو السكاني، والقضاء على قوائم انتظار المرضى، واستكمال الحملة القومية للقضاء على فيروس "سي"، وتوفير الألبان والأمصال للأطفال، بالإضافة إلى إطلاق منظومة المستشفيات النموذجية، وتحسين بيئة عمل الأطباء ومقدمي خدمات الرعاية الصحية. وكلنا يعرف أن مشكلات التعليم والصحة في مصر لا تقف عند حد التراجع الفني والمهني، بل إن غياب المعلومات والبيانات الدقيقة حول السكان هو العائق الأساسي أمام وضع أي خطط إصلاحية فعالة، لذا فإن الضلع الثالث الذي تناوله المؤتمر هو تطبيق "المشروع القومي للبنية المعلوماتية للدولة المصرية" الذي يؤسس قاعدة بيانات سكانية وجغرافية شاملة لجميع المحافظات المصرية، وهو السبيل الأول لتمكين الجهات الحكومية من وضع سياسات مؤثرة، وتوجيه الخدمات نحو المستهدفين منها، وحصر الأنشطة والأعمال غير المقننة وتضمينها في الخطط القومية للتنمية.
كل ما سبق أيقظ الأمل بداخلي، فأول الغيث قطرة، وقد تأكد ذلك برؤيتي لنموذج واقعي للتفوق المصري، حيث دُعيت بعدها مباشرة للمشاركة في فعاليات "المؤتمر الدولي الثالث لبحوث وابتكارات الطلبة فى مرحلة البكالوريوس بالكلية الفنية العسكرية"، والذي عُقِد بمشاركة عدد من الدول، منها السعودية وعمان والسودان والأردن وكندا وفنلندا والهند والصين. وهناك استعرضت، مع مجموعة من زملائي بالبرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب للقيادة، ورقة بحثية حول "رؤية الشباب للأمن القومي وتحديات الغد"، تناولناها في ضوء ثلاثة محاور هي الإعلام، وحرب المعلومات، والأمن السيبراني، وكانت خلاصة رؤيتنا هي أن «تطوير وعي الإنسان وامتلاكه المعرفة والتكنولوجيا وقدرته على توظيفهم هو أساس بناء دولة حديثة تسير في ركب الأمم المتقدمة»، وأرى أن ما شهدته بالكلية الفنية العسكرية هو تطبيق عملي لتلك الرؤية، حيث يُؤَهَل الطالب ليكون شخصية إنسانية متزنة ومتكاملة من عدة نواح.
فعلى الصعيد العلمي، يقضي الطالب 6132 ساعة دراسية موزعة على الأفرع المختلفة للعلوم الهندسية الأساسية والتطبيقية والعلوم العسكرية، وتضع إدارة الكلية نظامًا لإدارة وقت الطالب وتقسيمه ما بين التدريبات البدنية، والمذاكرة، والتطبيقات العملية في الورش والمعامل والمصانع. وكما أشار اللواء الدكتور مصطفى عبد الوهاب، مدير الكلية الفنية العسكرية، فـ «إن الطالب يُمنح مساحة كبيرة من المرونة من خلال برنامج ابتكر.. ابدع.. صمم.. نفذ»، وهو عبارة عن مقرر دراسي حر لا يفرض أية قيود على الطالب بل يحفزه لابتكار فكرة من خياله، والبحث عن طرق تنفيذها، وتحويلها إلى منتج مفيد للمجتمع المدني أو العسكري بإشراف أعضاء هيئة التدريس بالكلية ومساعدتهم.
صحياً وبدنياً، يمارس الطالب تدريبات رياضية مكثفة داخل الكلية وخارجها من خلال فرق الصاعقة والقفز بالمظلات وغيرها. معنوياً وثقافياً، تعقد الكلية أنشطة ومسابقات فنية وثقافية دورية، وتنظم لقاءات مفتوحة بين الطلاب وعدد من المفكرين والعلماء.
ولا شك فى أن إحداث الطفرة المنشودة في التعليم لا يأتي إلا بتكاتف مؤسسات الدولة مع بعضها بعضا، والمثال على ذلك ما تقوم به الكلية الفنية العسكرية، بالتعاون مع وزارتي التربية والتعليم، والتعليم العالي، تنفيًذا لمبادرة الرئيس السيسي لاكتشاف الموهوبين في العلوم الأساسية "الرياضيات، والفيزياء، والكيمياء"، والتي شهدنا جزءًا من ثمارها كمشروعات وابتكارات علمية فريدة قدمها طلاب الكلية الفنية العسكرية والجامعات المصرية والعالمية، للعام الثاني على التوالي، بالمعرض العلمي السنوي للفنية العسكرية.
إن كل تلك الشواهد تؤكد أن القادم أفضل، وأن الإنسان المصري لا ينقصه فكر أو علم بدليل أن المنظومات السابقة أنتجت بأقل الإمكانيات نخبة من العلماء والمبدعين والمفكرين. ولكن نجاح ثلاثية بناء الإنسان المصري، علميًا وصحيًا ومجتمعيًا، يتطلب جرأة في التغيير، ومواجهة للتحديات، وإيمانًا وتكاتفًا بين الأفراد والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية لإنجاح التجربة، لأن نجاحها يعنى نجاحنا جميعًا.
رابط دائم: