تنتقل المباراة الصراعية بين الفرقاء الليبيين إلى مرحلة جديدة ستلقي بتأثيراتها على حسابات موازين القوى، خلال الفترة المقبلة، في ضوء تطورين رئيسيين، أحدهما يتعلق بسيطرة الجيش الوطني الليبي على كامل منطقة الشرق، إثر تحرير مدينة درنة أخيرا من الإرهابيين. أما التطور الآخر، فيرتبط بقرار الجيش الليبي نقل تبعية إدارة موانئ الهلال النفطي إلى الحكومة المؤقتة في الشرق، مما أثار رفضا من حكومة الوفاق ومصراته، فضلا عن القوى الدولية التي دعت إلى تسليم الهلال النفطي لمؤسسة النفط في طرابلس.
لقد عنى مضمون هذين التطورين أن موازين القوى الميدانية والسياسية في المشهد الليبي ستميل أكثر نحو الاتجاه الصاعد في شرق ليبيا، والذي يعول على استراتيجية اللاعب المركزي ( الجيش الوطني الليبي) الذي يمكنه إحلال الاستقرار، والخروج من المأزق الانتقالي، مقارنة باتجاه آخر في غرب ليبيا، ينتهج استراتيجية الحفاظ على توازن الضعف، أي استمرار انتشار القوة بين فاعلين كثر، بحيث لا يملك أي منهم القدرة على الحسم الميداني والسياسي، خاصة أن سنوات ما بعد القذافي خلفت بزوغا لقوى سياسية وميليشاوية ومناطقية وقبلية تسعى لتأمين نصيبها في السلطة والثروة.
مسار مأزوم
بقدر ما ترتبط استراتيجيتا اللاعب المركزي، وتوازن الضعف بتفاعلات تحرير درنة والسيطرة على إيرادات الهلال النفطي، فإنها قد تفسر نسبيا التعثرات المتتالية لأطر التسوية للأزمة السياسية، منذ اتفاق الصخيرات في ديسمبر 2015، مرورا بفشل تعديلات الخريطة الأممية في سبتمبر 2017، وانتهاءً باتفاق باريس "الشفهي"، حول إجراء الانتخابات في مايو 2018، والذي يواجه شكوكا حول ما إذا كانت الظروف السياسية والأمنية والدستورية مهيأة لعقدها من عدمه.
صحيح أن منطق هذه الاتفاقات انبنى على التكيف البراجماتي مع توازن الضعف الليبي عبر اللجوء - نظريا - إلى تسويات تعتمد على توزيع السلطة لاستيعاب الفاعلين المتعددين، إلا أن خبرة السنوات الماضية دللت على أن مثل هذه المقاربة لم تؤت أؤكلها لعدة أسباب جوهرية، أولها غياب الحد الأدني من التوافق الليبي على مسألة بناء مؤسسات الدولة الليبية، حيث ظلت هذه المؤسسات، خاصة التنفيذية والأمنية، منقسمة مناطقيا( حكومة الوفاق في الغرب، الحكومة المؤقتة في الشرق). ثانيها: طبيعة التحالفات الداخلية الهشة والمتغيرة، والتي حفزت كل طرف على عرقلة اتفاقات التسوية، إذا ما وجد أن بنودها لا تصب في صالحه. ثالثا وأخيرا: تباين مصالح القوى الإقليمية والدولية في ليبيا، مما دفعها للاعتماد على حلفاء داخليين متنازعين أو حتى انتهاج سياسة التدخلات المحدودة لخدمة مصالح محددة ، كحالتي التدخل الايطالي والأمريكي لمساندة حكومة الوفاق في مكافحة الهجرة والإرهاب.
لذلك، دخلت التسويات الليبية في مسار مأزوم. فتارة، تعترض قوى الشرق على الشق الأمني (خاصة مسأـلة التعيينات للوظائف الأمنية والعسكرية) في اتفاق الصخيرات، لكونه يحجم سعي هذه القوى إلى فرض فكرة اللاعب المركزي ( الجيش الوطني)، مما أدى إلى تجميد الاتفاق، وعدم منح مجلس النواب للثقة لحكومة الوفاق. وتارة أخرى، ترفض قوى في الغرب الليبي تقليص المجلس الرئاسي، وفصله عن الحكومة إبان جهود المبعوث الأممي غسان سلامة لتعديلات الصخيرات، برغم أن هذا المجلس عمق الانقسام بسبب منطق المحاصصة الذي انبنى عليه اختيار أعضائه التسعة.
وتارة ثالثة، يواجه الخيار الانتخابي - منذ تبنيه كملاذ أخير من المبعوث الأممي غسان سلامة، ثم اتفاق باريس الأخير- عراقيل بسبب الخلاف حول مسودة الدستور وغياب أطر قانونية. والأهم أن ذلك الخيار قد يحل أزمة سياسية في دولة مستقرة المؤسسات، لكنه قد لا يمثل مقاربة فعالة لتسوية سياسية في دولة تفتقد مؤسسات موحدة ومتوافقا عليها، كي تستطيع حماية نتائج الانتخابات، وعدم تكرار دورة الانقسامات، كما جرى عقب انتخابات 2012 و2014.
الأولوية للميدان
في سياقات مأزومة كهذه، أعطى الفرقاء الليبيون وحلفاؤهم الخارجيون الأولوية للحسابات الميدانية لتحصيل أكبر قدر من النقاط لتحويلها إلى مكاسب أو شروط سياسية على الأطراف الأخرى في المباراة الصراعية. وبالتالي، شكل الصعود المتدرج للجيش الوطني الليبي، بقيادة خليفة حفتر، قبل أكثر من أربع سنوات، ثم توسع سيطرته على مدن الشرق، وآخرها درنة، فضلا عن أجزاء من الجنوب، إشارة جوهرية ببزوغه كلاعب مركزي قد يمثل حارسا لقواعد اللعبة السياسية.
من هنا، انتابت المخاوف قوى الغرب الليبي، خاصة حكومة الوفاق بحكم اعتمادها نفوذها على الميليشيات المتعددة في طرابلس، وكذلك جماعة الإخوان العائدة أخيرا للمشهد السياسي، عبر خالد المشري، رئيس مجلس الدولة، إضافة إلى نشوب خلافات بين حكومة الوفاق ومصراته التي تم تحجيم نفوذها في العاصمة، وهو ما برز في رفض الأخيرة حضور اجتماعات باريس، بل وبدأت في التصالح مع الزنتان خلال الأشهر الماضية، برغم المعارك الدامية تي نشبت بين مليشياتهما في عام 2014.
بدا الهاجس الأكبر للغرب الليبي من أن تصب السيطرة الميدانية المتصاعدة للجيش الوطني الليبي في بناء قوة مركزية قد تراهن عليها قوى داخلية وخارجية في استعادة الاستقرار المفقود. لذلك، لم يكن مصادفة تزامن مناشدات حكومة الوفاق، ومعها جماعة الإخوان للقوى الغربية والأممية، لمنع عملية الجيش الوطني الليبي في درنة، وتصويرها على أنها تستهدف المدنيين أكثر من الإرهابيين، مع إشعال جبهة الهلال النفطي عبر إعادة ميليشيات الجضران وحلفائه من سرايا الدفاع عن بنغازي ومرتزقة تشاديين للسيطرة على ميناءي رأس لانوف والسدرة في شهر يونيو الماضي، قبل أن تستعيدهما ثانية قوات الجيش لتواصل السيطرة الأمنية على الهلال النفطي منذ سبتمبر 2016.
واستهدف التزامن بين معركتي درنة والهلال النفطي أمرين، الأول: نزع ورقة السيطرة الأمنية للجيش الليبي، وتحجيم صعوده كلاعب مركزي. وربما لوحظ في هذا السياق أن ميليشيات الجضران كان دعت إبان سيطرتها لأيام قليلة على ميناءي السدرة ورأس لانوف إلى نقل السيطرة الأمنية عليهما إلى حكومة الوفاق.
أما الأمر الثاني والأخير، فيتعلق بسعى قوى الغرب الليبي إلى بناء نطاق جغرافي حاجز في وسط ليبيا يكرس صيغة توازن الضعف، عبر منع أي احتمال لإقدام الجيش الليبي على غزو طرابلس. ولعل ذلك يفسر نسبيا توسيع السيطرة الأمنية لحكومة الوفاق لتشمل سرت ومدن الوسط الليبي،عبر إطلاق عملية "عاصفة الوطن" في إبريل 2018 للتصدي لعودة اختراق خلايا داعشية لهذه المدن، وكذا تعزيز الدعم الأمريكي لحكومة الوفاق، كما برز جليا في غارة جوية لقوة "أفريكوم" على متهمين بالانتماء لـ "داعش" في يونيو 2018 قرب مدينة بني الوليد، أحد معاقل نظام القذافي.
توسع اللاعب المركزي
مع نجاح الجيش في تحرير درنة، ثم اتخاذه لقرار بنقل تبعية إدارة موانئ النفطية إلى الحكومة المؤقتة، بدت هنالك مكاسب أساسية لحفتر وحلفائه في موازين القوى الميدانية، بما قد يعزز من استراتيجية توسعه كلاعب مركزي، ومن أبرزها ما يلي:
أولا- منع ارتداد الجماعات الإرهابية: إذ شكل تحرير درنة رسالة ذات شقين، أحدهما يتعلق بنجاعة استراتيجية الجيش الوطني الليبي لمكافحة الإرهاب والميليشيات في مدن شرق ليبيا، حيث إن المعارك العسكرية، التي بدأت ضد الإرهابيين في درنة خلال شهر مايو 2018، جاءت بعد سنوات من الحصار والتفاوض، مما أضعف البنية التحتية لمجلس شورى مجاهدي درنة، وقصر نسبيا مدة تحرير المدينة، مقارنة بطول أمد معركة بنغازي. أما الشق الآخر، فيتربط بكون المدينة تمثل نقطة اتصال جغرافي في قلب الشرق الليبي. لذلك، فإن تطهيرها من الإرهابيين يؤمن مكاسب أمنية للجيش من قبيل عدم السماح بأي ارتداد محتمل للتنظيمات الإرهابية، لاسيما وأن بعضا من فلول الإرهابيين من بنغازي كانوا قد توجهوا إلى درنة وبعض مناطق الجنوب.
ثانيا- امتلاك أوراق مضافة للتفاوض السياسي: ذلك أن سيطرة الجيش على شرق ليبيا، مضافا لها أجزاء من الجنوب، وكذلك ورقة النفط، يعني قدرة الجيش الليبي على فرض شروطه على مسار التسوية السياسية، خاصة المتعلقة بالانتخابات المحتمل إجراؤها في نهاية العام الجاري. إذ تميل قوى الشرق الليبي لإجراء هذه الانتخابات، مع تصاعد مكاسبها الميدانية، مقارنة بقوى في الغرب الليبي التي تجد أن البيئة السياسية والأمنية غير مواتية لذلك الخيار، سواء لغياب الإطار القانوني أو الدستور، والأهم ضعف موقفها الميداني.
ثالثا- تعزيز صعود حفتر كقائد سياسي: ذلك أن نجاح الرجل في تحرير درنة، ومن قبلها مدن الشرق من الإرهاب، قد يحوله إلى الخيار الأقوى سياسيا، من وجهة نظر القوى الخارجية، لمكافحة الإرهاب، خاصة إذا علمنا أن مدينة درنة التي ظلت مخزنا للإرهابيين بدت عصية على الحكومات الليبية المتعددة، بما فيها سنوات حكم القذافي. ومن ثم، شكل تحريرها من الإرهاب دلالة رمزية تصب في مصلحة حفتر كقيادة، والجيش الليبي كمؤسسة.
رابعا- الضغط على موارد حكومة الوفاق وحلفائها: هنا، يمكن الإشارة إلى تصورين أساسيين مختلفين لمكاسب الجيش من نقل تبعية إدارة موانئ النفط إلى الحكومة المؤقتة في شرق ليبيا. التصور الأول يتعلق بأن سيطرة حكومة شرق ليبيا على إدارة الموانئ النفطية، وتمسكها بهذا الموقف قد يسهمان في إضعاف موارد الظهير الميليشياوي في طرابلس، والذي يتلقى رواتبه من حكومة الوفاق، في إطار ما يعرف بمنطق الأمن الهجين بعد سقوط القذافي.
لكن ذلك المكسب يبدو الرهان على استمراره صعبا وغير عملي بالأساس، لعدة أمور، منها رفض القوى الدولية، خاصة الولايات المتحدة، وايطاليا، وفرنسا، بريطانيا، والتي أصدرت بيانا رباعيا رأت فيه ذلك مخالفا لقرار مجلس الأمن. وكذلك، فإن استمرار تبعية مؤسسة النفط لبنغازي قد يدفع قوى الغرب الليبي للتوحد، وشن حرب أهلية لاستعادة الموانئ، لاسيما وأن عوائد النفط تمثل المورد الأساسي لكل فرقاء النزاع، إضافة إلى أن نقل تبعية مؤسسة النفط إلى بنغازي أدى إلى وقف عملية التصدير النفطي، مما عمق خسائر الاقتصاد الليبي، وهو ما قد ترتد آثاره نحو الشرق والغرب معا.
أما التصور الثاني، فيتعلق بأن نقل تبعية مؤسسة النفط إلى بنغازي ربما يكون خطوة تكتيكية للجيش الليبي يستهدف عبرها فرض شروط على الفرقاء في غرب ليبيا في مسألة توزيع عائدات النفط والرقابة عليها من البنك المركزي، وتحجيم تمويل الميليشيات، بخلاف زيادة الدعم المالي للجيش الليبي. ومن ثم، يتم رهن إعادة تبعية مؤسسة النفط الليبي إلى طرابلس مرة أخرى بتنفيذ هذه الشروط، لاسيما وأن ثمة اتهامات للصديق الكبير، محافظ البنك المركزي، بتوفير التمويل للميليشيات والسماح لها بالتغلغل في بنية الاقتصاد السياسي للعاصمة طرابلس.
مما يدعم التصور الثاني إعلان الجيش الليبي- على لسان متحدثه العميد أحمد المسماري يوم الأربعاء الماضي- تأييده تنفيذ قرارات مجلس النواب بتعيين محمد الشكري محافظا للبنك المركزي، والذي يسيطر على توزيع عائدات النفط، أضف لذلك إصدار قرار بتشكل لجنة تقصي حقائق بشأن مصادر تمويل الجماعات الإرهابية، وذلك بالتزامن مع بعث رسالة بالتزام الجيش بالاتفاقات النفطية مع الشركات العالمية، في مسعى لتطمين القوى الغربية حول تدفقات النفط.
تحديات مطروحة
إذا ما استطاع الجيش الليبي فرض شروطه في مسألة إيرادات النفط، فذلك سيعني توسع استراتيجية كلاعب مركزي في الساحتين الأمنية والسياسية، وبالمقابل إضعاف أكبر لاستراتيجية توازن الضعف لفرقاء غرب ليبيا. لكن تلك النتيجة تجابهها تحديدات أخرى. فبخلاف أن تحالفات شرق ليبيا تحتاج إلى إعادة ترميم داخلي، فلا يزال هنالك حظر دولي على السلاح الليبي يحد من قدرات الجيش على التوسع الميداني أكثر في الجغرافية الليبية الشاسعة.
علاوة على أن ثمة معضلة تتعلق بتأمين المناطق المحررة من الإرهابيين، وهو ما تجلى في عودة ميليشيات الجضران مجددا للهلال النفطي، برغم هزيمتها سريعا من الجيش الليبي. أما التحدي الأهم، فيتعلق بتأمين الجيش لمكاسبه في مرحلة ما بعد درنة والهلال النفطي، حيث سيرتبط ذلك بمدى قدرته على إكمال سيطرته على جنوب ليبيا، خاصة مع محاولة فلول الإرهابيين من وسط وشرقي البلاد إعادة بناء خلاياهم بالمنطقة، فضلا عن زيادة التنافس الدولي عليها لكونها تشكل معبرا للمصالح الغربية في الساحل الإفريقي.