تكشف التطورات الجارية في سوريا، والتي تتعلق بمرحلة ما بعد اتهام النظام السوري باستخدام السلاح الكيماوي في مدينة دوما السورية، التي تُعد آخر معاقل المعارضة المسلحة في الغوطة الشرقية، وتوجيه إسرائيل لضربات صاروخية جديدة على مطار التيفور الواقع في محافظة حمص السورية، على بعد حوالى 60 كيلومترا شرق مدينة تدمر، عن مشاهد وسيناريوهات جديدة ربما تبدو دراماتيكية في الفترة المقبلة، خاصة مع تباين الحسابات والتقديرات السياسية والاستراتيجية بالنسبة لكل طرف، سواء كان إقليميا أو دوليا.
حسابات متباينة:
1. قد يكون من المهم البحث حول المزاعم التي تساق دوليا، خاصة من قبل الولايات المتحدة، حول الاستخدام السوري للسلاح الكيماوي، خاصة في هذا التوقيت ، الذي جرت فيه تسوية جديدة تتعلق بترتيب المشهد السياسي والأمني في الغوطة الشرقية، والاتفاق على إجلاء مقاتلي "جيش الإسلام" من مدينة دوما، آخر جيب تسيطر عليه الفصائل المعارضة في الغوطة الشرقية قرب دمشق، وخروج كامل إرهابيي ما يسمى جيش الإسلام إلى جرابلس (شمال) خلال 48 ساعة. ويأتي الاتفاق إثر تعثر اتفاق سابق، واستئناف الجيش السوري هجومه ضد دوما. هذا التطور بكل تفاصيله المتعاقبة، واتهام النظام السوري، يذكر بما جرى من قبل في خان شيخون، منذ عام تقريبا، وبالتفاصيل نفسها التي تشير إلى علامات استفهام حول التوقيت والمزايدات الاعلامية من بعض الأطراف، وسرعة انتقال الموضوع إلى الأمم المتحدة.
2. إن الجهات التي أعلنت استخدام السلاح الكيماوي جهات غير متخصصة، من بينها الجمعية الطبية الأمريكية، والدفاع المدني السوري. وقد دخلت روسيا على الخط، وأعلنت دخول خبراء روس في دوما، وتكشفت الأمر ميدانيا، ولم تجد أي آثار لاستخدام للسلاح الكيماوي على الأرض، وهو ما يشير إلى أن الجانب الروسي استبق كل المحاولات بتوجيه الاتهام المسبق إلى النظام السوري، الذي تعامل مع المشهد بصورة احترافية. وقد كشف حديث المندوب السوري، بشار الجعفري في مجلس الأمن، عن مخطط سوري واضح للتعامل مع أية تهديدات، خاصة أن الموقف الغربي اتجه إلى إدانة النظام السوري بصورة مباشرة دون انتظار أية تحقيقات جادة، كما لم يتنظر ردود الفعل من قبل روسيا أو إيران .
3. تبدو الحرب الإعلامية واضحة المعالم لإقرار إدانة النظام السوري في ظل طرح تساؤلات سياسية وإعلامية حول ما الذي يدفع النظام السوري بالفعل إلى الإقدام على هذه الخطوة في ظل إبرام اتفاق سياسي يسمح بتطور سياسي واستراتيجي داخل الغوطة الشرقية، ومن شأن خروج "جيش الإسلام" من دوما أن يتيح للجيش السوري استعادة كامل الغوطة الشرقية، التي بقيت لسنوات المعقل الأبرز للفصائل المعارضة قرب دمشق، وهو ما كان يعمل عليه النظام السوري طوال الفترة السابقة. ومن الذكاء السياسي لاي نظام ألا يقدم على استخدام اساليب قد تفتح عليه النار من أي جهة دولية، خاصة أن النظام السوري بدأ في استعادة عافيته فعليا في اطار أولوياته وبدعم روسي- ايراني لافت سياسيا وميدانيا.
4. تتسق أغلب المواقف الاقليمية والدولية المثارة حول ما جرى في دوما مع التماهي مع تطورات الملف السوري بكل تبعاته وتداعياته، خاصة أن الاشكالية السورية باتت محل تنازع سياسي حقيقي في الفترة الراهنة. ومن المؤكد أن ما دار في مجلس الامن سيظل مستمرا ومطروحا ولن يتوقف، خاصة أن روسيا لن تهدأ أو تقبل بالتهدئة المنقوصة، وهي تري الاتهامات توجه لها من ممثلي الوفود في مجلس الامن ردا على موقفها الداعم لسوريا .
5. لم تعد القضية إلى أين تذهب التطورات السورية الحالية سواء في مجلس الامن أو خارجه؟ بل الامر مرتبط بإمكانية المضي في تشكيل موقف متماسك أو فتح تحقيق جديد لتحديد المسئول عن استخدام الاسلحة الكيميائية في سوريا، خاصة أن الولايات المتحدة قدمت مشروع قرار معدلا، وذلك للمرة الاولى للتعامل مع المشهد المقبل، وهو ما يشير الى مخطط امريكي متصاعد لمواجهة ما يجري بالفعل سوريا، كما برز في مجموعة ادارة الأزمة، التي تمثل مجموعة عسكرية بعد تعيين جون بولتون في مهامه، واعادة ترتيب الاجواء في البيت الابيض، والخارجية، والاستخبارات المركزية ، والتي ستبدأ في اعادة استشراف المصالح الامريكية ليس في سوريا، وانما في كوريا الشمالية وايران .
6. إن الإقرار الامريكي بتشكيل لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة بشأن استخدام الاسلحة الكيمائية في سوريا أو باعادة ترتيب الحسابات الخاصة بما جرى في مجلس الامن سيرتبط بسجال امريكي- روسي متوقع خلال الفترة المقبلة حول حدود الحركة الامريكية القادمة في سوريا، والتي لا ترتبط بالمرواغة السياسية التي اعلنها الرئيس ترامب بسحب القوات الامريكية، والعودة في موقفه لحين انتهاء خطر داعش، وهو امر وارد وموقف تصعيدي ويعمل في اتجاهات عدة تتعلق بالوجود الخاص بالجانب الامريكي لحين تسليم الجهات المحلية. وبدون تصنيف مباشرة المهام السياسية والامنية دون تحديد لأي جهة، سيكون تولي إدارة الاوضاع بصورة جدية في ظل ما يجري من تطورات ميدانية، وتأكيد ان تنظيم داعش لا يزال يملك جيوبا مؤثرة في مناطق مختلفة في سوريا، ومن المؤكد أنه سيتم تحريكها في الفترة المقبلة.
7.إن التوقع برد أمريكي يحمل شكل الشو الاعلامي والمزايدات السياسية والاعلامية والاتهامات المرسلة للنظام السوري سيستمر في الفترة المقبلة. وقد تقوم الولايات المتحدة بتوجيه ضربة رمزية على غرار ما جرى في الشعيرات بهدف تأكيد حضورها المباشر في الملف السوري من الآن فصاعدا. ولعل الإفصاح عن أن الجنرالات الامريكيين قادرون على معرفة من المسئول عن الهجموم الكيميائي يشير الى خطاب اعلامي امريكي مسبق لا يحمل جديدا، خاصة أنه تكرر في مواقع عديدة ويذكر بما جرى في الحالة العراقية، ومع ذلك لم يتحرك المجتمع الدولي حتى الان لتحديد أوجه الاتهام لمن قوض أركان دولة كبيرة مثل العراق، وهو ما يتكرر في الوقت الراهن ويحتاج الى مراجعة حقيقية، ولا علاقة لهذا بمواقف انسانية أو اخلاقية، في ظل المعايير المزدوجة التي تمارسها القوى الدولية في التعامل مع الملفات العربية، ومنها الملفان السوري واليمني، بل الصراع العربي- الاسرائيلي أيضا .
8. إن دخول اسرائيل على الخط وضرب مطار التيفور يحمل رسالة أولية تشير إلى أنه بإمكان إسرائيل مواصلة توجيه ضربات داخل سوريا في مستويات معينة لا تمس بالمصالح الروسية، وأن الاستنتاج الذي يجب أن تدركه إيران من الهجوم الأخير هو أن الجانب الروسي لن يمنع هجمات إسرائيلية قد تقوم بها الحكومة الإسرائيلية للتعامل مع المرحلة الاسرائيلية الجديدة في سوريا، حيث تتجه الأهداف الإسرائيلية- ضمن ما هو قائم في بنك الأهداف الإسرائيلية- إلى حصر الضربات على مواقع سورية وايرانية بالأساس. كما أن اسرائيل ستستمر تراقب أية تحولات إيرانية تكتيكية على طول حدودها، وسيظل المخطط الإسرائيلي في دعم التوجهات العسكرية المتنامية داخل الإدارة الامريكية قائما تجاه ايران في تطورات الملف السوري. ومن الواضح من ردود الفعل أن الجانب الإسرائيلي أحاط الجانب الأمريكي بالعملية وملابساتها، وانها تمت قبل دراسة الجانب الأمريكي لاحتمال توجيه ضربات جديدة على سوريا مثلما جرى في ضرب الشعيرات من قبل. وليس من المستبعد أن إسرائيل تمارس الضغط على الجانب الأمريكي لإعادة النظر في مستقبل الاتفاق النووي والعمل على توظيف الأجواء المعادية للجانب الإيراني في الدوائر الامريكية، التي ستعمل لصالح مراجعة الاتفاق في الكونجرس، وهو ما سيخدم مجمل الأهداف الإسرائيلية إزاء ايران في الوقت الراهن ليبقي السؤال المشروع حول مدى صحة الاكاذيب التي تساق غربيا بأن النظام السوري استخدم سلاحا كيماويا في دوما، أو أن الامر متعلق بتصعيد في مسار آخر.
9. لا يساور الشك أحدا من تحفظ المؤسستين، العسكرية والاستخباراتية في الولايات المتحدة ، على إعلان ترامب لتخوفها من أن يؤدي الانسحاب الى "فراغ في سوريا" تستثمره أطراف أخرى، وهو ما يرتبط بالاعلان عن بقاء القوات الامريكية لاستكمال مهمة إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش. وقد تواردت بعض التفاصيل عن نصائح وزير الدفاع جيمس ماتيس للرئيس بأن "القتال ضد داعش شارف على نهايته، لكن الإقدام على انسحاب كامل للقوات الأميركية في هذا الظرف ينطوي على مغامرة". أما وزير الخارجية، مايك بومبيو، فقد اتفق مع ماتيس وآخرين على الاعتراض على الانسحاب قائلاً: انسحاب الرئيس ترامب من سوريا الذي مزقته الحرب سيعد خطأً كبيرا .
10. قيام الإدارة الأمريكية بتجميد مبلغ 200 مليون دولار كان مخصصاً لدعم الملف السوري، بالتزامن مع توارد الأنباء الأمريكية عن تدمير الرقة بنسبة 80% ".. ومهما قدم الجانب الامريكي من دعم، فلن يكفي لأن المدينة مدمرة. أما توقيت الرئيس ترامب لإعلانه بالانسحاب من سوريا، واستقراء لما جرى، فربما كانت له دوافع انتخابية، نحو 6 أشهر تفصل عن الانتخابات النصفية المقبلة التي بدأت تلوح مقدماتها فى خسارة الحزب الجمهوري لبعض مقاعده في مجلسي الكونجرس، مما يقوض سيطرته الراهنة على السلطة التشريعية بالكامل.
ماذا بعد؟
نحن إذن أمام تطورات دراماتيكية، ويؤكد فتح الملف السوري على مصراعيه، بحجة النظر فيما جرى في دوما، أن التباينات الأمريكية- الروسية ستتضح في المدى المنظور، مع التوقع بأن الإدارة الأمريكية قد تقوم بدور استباقي، ولن تنتظر، في حال تقييمها بأن بقاء الوضع الراهن لا يتماشى مع توجهاتها السياسية والاستراتيجية، فسوف تبادر إلى تبني موقف تصاعدي، ولو من خلال ضربة شكلية، مع التغطية السياسية، وتوجيه الاتهامات المطلقة والمرسلة بأن النظام السوري أمعن في استخدام السلاح الكيماوي.