نستكمل فى هذه الحلقة كيف بدأت أمريكا فى اتخاذ التدابير لإيجاد البديل لنظام الشاه، وكيف أنها استبعدت فكرة أن تتولى الشهبانو فرح السلطة فى حال وفاة الشاه بعد اكتشاف إصابته بالمرض اللعين السرطان، وإضافة مادة فى الدستور تتيح للإمبراطورة فرح ديبا الوصاية على ولى العهد وإدارة شئون البلاد فى حال وفاة الشاه .. لكن الإدارة الأمريكية اقتنعت أن رجال الدين هم البديل الأفضل والأنسب لمصالحهم وتثبيت أقدامهم فى المنطقة .. وإليكم ما حدث.
إذا كان من السهل تغيير نظام الشاه، فإن الصعوبة الحقيقية التى كان لابد أن تواجه مخططى السياسة الأمريكية فى إيران، هى كيفية ايجاد البديل الصالح لنظام يكون مستقرا فى حكم البلاد لفترة زمنية، يمكن خلالها تغيير مسار العمل الوطنى، وخلق طبقة جديدة فيها، فما هو البديل أو البدائل التى كان يمكن أن تكون موضوع الخيار، أمام مخططى السياسة الأمريكية عندما اتخذت قرارها بتحطيم عرش الطاووس؟؟
إن المشكلة التى لابد انها واجهت المخططين للسياسة الأمريكية، بعد اقتناعهم بضرورة إجراء مثل هذا التغيير، هى أن الخيار لإيجاد بديل لنظام الحكم الجديد فى إيران لابد أن يتميز بميزتين مهمتين:
الميزة الأولى هى أن يكون هذا النظام البديل قادرا على إثارة حماس الشارع الإيرانى وتفجير بركان الغضب الحبيس، وتجميع كافة الفصائل الوطنية الحية فى البلاد، لإعطاء التغيير الشكل الثورى والطابع القومى الضروريين لمثل هذا التغيير، وذلك بخلق قاسم مشترك أعظم يلتف حوله كل الإيرانيين ويجد فيه كل تيار سياسى وسيلة لخدمة طموحاته الوطنية وتحقيق مصالحه الخاصة.
أما الميزة الثانية التى يجب أن تتوافر فى هذا البديل، فهى أن يكون قادرا على التعامل مع المعطيات الجديدة التى أفرزتها حرب السادس من أكتوبر بين العرب وإسرائيل والتى غيرت مفاهيم قديمة بمفاهيم جديدة، وعقدت لأول مرة منذ اتفاقيات الهدنة عام 1948، اتفاقيات لفض اشتباك بين مصر وإسرائيل، ثم بين سوريا وإسرائيل.
ثم جاءت مبادرة السلام المصرية التى بدأت بزيارة الرئيس السادات للقدس، والتى فتحت الطريق لمرحلة جديدة من السلام فى المنطقة، والتزمت اكبر واقوى الدول العربية وهى مصر بتحقيقها والمحافظة عليها، الامر الذى كان ولابد ان يجعل الولايات المتحدة تغير فى سلم اولويتها الاستراتيجية للحفاظ على مصالحها فى المنطقة، والتى لم يعد نظام حكم الشاه صالحا للحفاظ عليها، والوقوف فى وجه الخطر السوفيتى الجديد، الذى اقتحم افغانستان ليتخذها نقطة انطلاق نحو تحقيق حلم القياصرة القديم والوصول الى المياه الدافئة، والذى يضيف اليه الماركاسيون حلما جديدا، هو السيطرة على منابع البترول فى الخليج، الامر الذى اصبح فى أمس الحاجة الى شرطى جديد له مواصفات جديدة، لا يشكل فحسب حاجزا فى مواجهة الخطر السوفيتى على المصالح الامريكية، بل قد يجعل السوفيت انفسهم فى حالة دفاع عن النفس.
ومن الحقائق اليقينية المؤكدة ان استيعاب الشاه نفسه للواقع الجديد، وهذه المعطيات التى خلقتها حرب اكتوبر، قد بعث فى نفسه شعورا متزايدا بالقلق على مصير دوره كشرطى فى المنطقة وعلى جدوى ترسانة السلاح التى ينفق عليها ثلث ميزانية إيران، وعلى طموحه الاقليمى فى منطقة الخليج، اذا ما نزع الفتيل من الصراع العربى- الإسرائيلى، وتطور الأمر إلى حل يرتضيه الجانبان، وتفرغ العرب بعد ذلك لقضايا أخرى قومية ومصيرية بالنسبة لمستقبلهم كافة، وذلك كقضايا التنمية والديمقراطية واسترداد ما بقى لهم من أراض سليبة ضمت الى دول اخرى غير عربية فى ظروف تاريخية معروفة، ويهم الشاه منها بصفة خاصة منطقة عربستان أو خوزستنان كما يحرص على تسميتها، وحرصه على تغيير معالمها وأسمائها العربية وكذلك مصير الجزر العربية الثلاث فى مياه الخليج، وهى طنب الكبرى، وطنب الصغرى، وأبو موسى، وهى الجزر التى استولى عليها بالقوة قبل يوم واحد من رحيل البريطانيين من شرق السويس عام 1971. ومن شأن هذا كله ان يثير قلقا عميقا يأخذ نفس الشاه من كل اقطارها حين يرى الريح العاصفة وهى تندفع بسرعة نحوعرشه والتى حاول بعلاقته بالرئيس السادات ان يكسر من حدة اندفاعها ببناء الجسور من جديد مع العالم العربى.
ولقد كان احد الحلول أو البدائل المطروحة امام مخططى السياسة الأمريكية أن يقوم أحد الضباط فى الجيش بانقلاب عسكرى يخلع به الشاه بحيث ينتهى الامر بتنصيب اردشير زاهدى السفير الإيرانى فى الولايات المتحدة رئيسا للجمهورية، بعد أن يكون الانقلاب الجديد قد مهد له الطريق لاجراء بعض التغييرات التى تثير حماس جماهير وتمتص غضبهم وتفرغ شحنة التوتر التى عبأت المجتمع الإيرانى بعوامل الانفجار، وعلى اساس انه حين يصبح اردشير زاهدى رمزا للتغيير الجديد، يكون كمن يقدم ترضية للشعب الإيرانى تكفيرا عما يراه الإيرانيون من ذنب له، هوان والده الجنرال زاهدى قد ارتكب جرما لا يغتفر، حين استخدم لضرب الحكم الوطنى فى عهد مصدق بالاضافة الى كون اردشير رجل الولايات المتحدة وزعيم المثقفين والتكنوقراط الإيرانيين، الذين يحملون عبء بناء الدولة العصرية فى إيران على النمط الغربى الامريكى.
الا ان هذا البديل قد استعبد لان الجيش كان فى نظر الشعب الإيرانى هو السيف الذى سلطه الشاه وامريكا على رقابه، واستخدم لاجهاض مبادرته الثورية، ولان اردشير زاهدى يعد عميلا للولايات المتحدة، ومما يثير الشبهة ويفضح هوية التغيير، لذلك فقد استبعد من الخيار.
أما البديل الثالث الذى كان مطروحا، فيقضى باختيار احدى الشخصيات الوطنية الاخرى التى لا تحوم حولها الشبهات ولا يعتقد الناس بعمالتها للولايات المتحدة وبحيث تمثل هذه الشخصية التيار الوطنى القومى فى البلاد وفى نفس الوقت تحافظ على النمط الغربى للدولة العصرية فى إيران وتبقى عليها بعيدا عن التيار الشيوعى أو النفوذ السوفيتى.
ولكن هذا البديل قد استبعد بدوره لما رآه مخططو الاستراتيجية الأمريكية من محاذير سيادة التيار القومى، الذى ينطوى دائما داخله على يمين ويسار، وأن زخم الأحداث والتطورات الوطنية والإقليمية والدولية قد تقوى الجناح اليسارى داخل التيار القومى وتمكنه من تحقيق التحالف مع اليسار، مما يفتح الباب امام التسرب الشيوعى والسيطرة الشيوعية على الحكم، أو على الأقل يقوم نوع من التحالف الرسمى بين نظام الحكم القومى والعناصر الشيوعية، كما حدث من قبل فى إيران ذاتها، حين استخدم مصدق ورقة الشيوعيين فأخرجهم من السجون وسمح لهم باستعادة نشاطهم على المسرح السياسى وتحالف معهم ضد الحكم الملكى ممثلا فى الشاه وضد التيار الدينى ممثلا فى آية الله كشانى، الذى ايد الشاه وقاد الحياة النيابية فى ظل حكمه.
وبقى خيار او بديل اخير يتمثل فى التيار الدينى، ليكون غلافا خارجيا لنظام حكم بديل من شأنه إنجاح محاولة التغيير، باعتباره مستوفيا للشروط اللازمة لتحقيق وانجاح الخطة الامريكية الجديدة نحو إيران، وضد الاتحاد السوفيتى، فهو قادر على تحريك الشارع الإيرانى حيث يملك المذهب الشيعى نحو 90% من الجماهير الإيرانية، ويستطيع تحريك الشارع الإيرانى بصوت رجال الدين بما لا يكلف الكثير، لأن الناس لا تقبل ثمنا لكى يكونوا متدينين وكذلك للسلطة العليا لرجال الدين الإيرانيين على رعاياهم، والتى تجعل من الناس منفذين، لا دارسين ولا محللين ولا مراجعين لخلفاء الإمام الغائب، وتجعل الجماهير الشيعية فى يد زعمائها الروحيين سلسة القياد.
كما أن التناقض بين الإيمان والإلحاد يجعل اللقاء صعبا بين حكومة دينية واحزاب شيوعية، كذلك فإن الوضع الاقتصادى لكبار رجال الدين فى إيران يصنفهم ضمن رجال الاقطاع، بالاضافة الى الاعتقاد بأن النمط الإسلامى فى الاقتصاد يقترب من الحرية الاقتصادية، اكثر من اقترابه من السيطرة الكاملة للدولة على النشاط الاقتصادى ومصادر الثروة فى البلاد.
ومما يزيد من اهلية النظام الدينى فى إيران أن رجال الدين بصفة عامة، وأشخاصا منهم بصفة خاصة، كانوا ضحايا حكم الشاه لأنه بالثورة البيضاء استولى على الاوقاف الخيرية بعد ان كانت تحت تصرف رجال الدين. كما ان عددا من رجال الدين خضعوا كإقطاعيين لعملية تحديد الملكية الزراعية، بالاضافة الى تعطيل الشاه لسلطة رجال الدين الزمنية التى يخولها لهم دستور 1906، والذى يعطى لجنة خماسية منهم سلطة مراجعة التشريعات قبل اقرارها من البرلمان، للتأكد من مطابقتها للشرع الإسلامى ولإحكام المذهب الشيعى.
وفوق هذا كله، فإن سياسة تحديث أو تمدين إيران، التى اتبعها الشاه وابوه من قبله، قد تمت بالضرورة على حساب سلطة رجال الدين وضد إرادتهم، بما يخلق عوامل الصدام المستمر بينهم وبين حكم الشاه، وهو الصراع الذى أسفر عن نفى العديد منهم داخل إيران نفسها، كما ادى الى نفى احد زعمائها وهو آية الله خمينى خارج إيران لنحو خمسة عشر عاما.
وبالاضافة الى ان قيام نظام حكم إسلامى فى إيران سيضيق الخناق على الاتحاد السوفيتى فى أفغانستان، فإن حكم رجال الدين لإيران سيجعل الاتحاد السوفيتى فى حالة دفاع عن الجمهوريات الإسلامية التابعة له، وان وجود الدين على حدوده سيضعف بنيته السياسية ويهدد الاستقرار فيه. كما ان اختيار المذهب الشيعى، وهو مذهب الاقلية فى مواجهة الاكثرية السنية، سيزعزع الاستقرار فى المنطقة، ويضعف وحدة الدول الإسلامية اذا ما فشل النموذج الذى سيقوم فى إيران الشيعية، وهو ما كان شبه مؤكد ... لذلك استقر الرأى على استخدام الدين لتغيير الوضع فى إيران.