أسباب كثيرة باتت تهدد المستقبل السياسي للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان.. تتعاظم دلالاتها ونتائجها قبل الاستحقاق الرئاسي الفاصل (نوفمبر 2019).. لجأ أردوغان تحت ضغط هذه الأسباب إلى فتح جبهات خارجية في محاولات يائسة منه للهروب مما ينتظره، بعد تعدد خصومه على هذا النحو، ووصول العلاقات التركية الإقليمية إلى مرحلة من الاحتقان غير المسبوق.
صحيح أن أردوغان شرع منذ وصوله للرئاسة (28 أغسطس 2014) في خطة ممنهجة للعصف بمنافسيه السياسيين، لكن هل نجح في تجفيف منابع المعارضة، وإسكات كل الأصوات المنتقدة له؟ هل صار بلا منافس حقيقي في المشهد العامّ التركي؟ أم أن كل ما يحدث مجرد حالة خادعة، وهدوء يسبق عاصفة منتظرة، يقترب منسوب الصبر فيها من نهايته الحتمية؟
القراءة الموضوعية لما يحدث في المشهد التركي تشير إلى واقع شديد الاضطراب.. قريب الشبه من مضامين "المسلسلات المدبلجة"، التي تروجها المخابرات التركية (ترسيخًا للقوة الناعمة، ومحاولة اكتساب أنصار جدد حول خلافة إسلامية مزعومة).. أصبح أردوغان يؤدي دور "العراب" في مسلسل درامي دموي واقعي، تتقاطع فيه السياسة والدين، مع الاقتصاد وشبكات المافيا.
يواصل الرجل (القادم من قاع المجتمع إلى قمة السلطة) نزعته الاحتكارية بالعمل على تمكين حاشيته في المؤسسات الاقتصادية والمواقع القيادية والسيادية، وتوظيف حزبه الحاكم (العدالة والتنمية) في إزاحة أحزاب تقليدية (بالتحريض، وتلفيق الفضائح) الأمر الذى زادت وتيرته قبل الانتخابات الرئاسية المرتقبة.
سياسة أردوغان المثيرة للجدل، تبدت ملامحها في خريطة تحالفاته الخارجية منذ وصول حزبه (العدالة والتنمية) للسلطة في نوفمبر عام 2002.. في الداخل، اعتمد على شبكات مصالح ضخمة مدعومة منه شخصيا (جمعية رجال الأعمال والصناعيين اﻷتراك/ الموسياد.. وجمعية رجال الأعمال والصناعيين المستقلين/الموصياد) تؤدى دورًا مهمًّا في عملية الهيمنة على القطاعات المؤثرة في الداخل التركي.
شرعت حاشيته في تأسيس شبكات إعلامية خاصة، وشراء وسائل إعلام قائمة بالفعل، بينما يواجه الرافضون لسياساته (أقليات، وأحزاب، ووسائل إعلام...) أشدّ أنواع التنكيل والعصف (أمنيًّا، وعسكريًّا)، حتى إن تركيا أصبحت (بحسب مؤسسات ومنظمات دولية) تتصدر قائمة البلدان المعادية للحريات العامة، بحكم عدد السجناء السياسيين، واختفاء نحو 170 مؤسسة إعلامية منتقدة لسياساته.
يلعب أردوغان عشرات الأدوار المركبة، ليس فقط للتحايل على شعبه، لكن للتغرير بمحيط تركيا الإقليمي، ويمكننا في هذا الشأن الوقوف أمام جملة من المعطيات الكاشفة عن حالة القلق الحاصلة في دوائر صنع القرار التركي بسبب تآكل رصيده الداخلي، وسياسته الخارجية التي تقود البلاد نحو عزلة واضحة، ممزوجة بضياع الهيبة.
ملفات كثيرة كاشفة لعملية "التدمير الشامل"، التي يقودها أردوغان في الداخل التركي (تفخيخ المشهدين السياسي، والحزبي.. تعقب مؤسسات وطنية رسمية، لا يزال بعضها صامدًا للحفاظ على الأمن القومي). يكفى مثلا النتائج المترتبة على أكذوبة "الانقلاب الفاشل" (ليلة 14 يوليو 2015)، التى وجد فيها أردوغان فرصة ذهبية، لإعادة هيكلة و تشكيل المؤسسات التركية (خاصة القوات المسلحة) بما يتوافق مع سياساته.
أردوغان يتحين الفرص منذ عام 2007، لمنع الجيش من الحفاظ على حالة التوازن في المشهد التركي، بحكم دوره كحام للدستور.. تم تدبير قضيتين سابقتين للتحريض على المؤسسة العسكرية، والزعم بأن هناك منظمة إرهابية من القوميين العلمانيين داخل القوات المسلحة، تخطط لانقلاب عسكري وتنفيذ اغتيالات وتفجيرات للإطاحة بالحكومة، قبل أن يتكشف للجميع أن كليهما ملفق!
أعادت حاشية أردوغان تكرار السيناريو للمرة الثالثة، بشكل أوسع في صيف عام 2015، فيما عرف بمحاولة "الانقلاب الفاشلة".. كل أصابع الاتهام تشير إلى أردوغان نفسه، كونه (بأسلوب البحث الجنائي) المستفيد الوحيد مما حدث.. عصف بكل معارضيه دفعة واحدة، بزعم مشاركتهم في المحاولة.. سارع بالتصديق الفوري على اعتقال وفصل أكثر من 175 ألفا من المسئولين والقيادات في معظم المؤسسات التركية (التنفيذية، والتشريعية، والقضائية)، فتحولت بلاده إلى أكبر سجن في العالم.
بادر بإغلاق 18 قناة تليفزيونية و3 وكالات أنباء محلية و23 محطة راديو، فضلًا عن 45 صحيفة و15 مجلة.. عاقب قيادات المجلس الأعلى للقضاء التركي بـ"العزل" من مناصبهم، ومعهم نحو 300 قاضٍ (بعضهم يحقق في قضايا فساد متهم فيها مقربون منه؛ نجله، ووزراء في حكومته، وقيادات في حزبه الحاكم)!
حتى الآن، لا تزال اتهامات الفساد تطارد مجموعات المصالح المقربة من أردوغان، خاصة بيع أرض تابعة لأكاديمية الشرطة في إسطنبول، تقدر قيمتها بنحو مليار دولار أمريكي، والتفريط فيها بأقل من نصف ثمنها (دون مناقصة رسمية) لمستثمرين من قيادات التنظيم الدولي للإخوان، يتصدرهم رجل الأعمال المصري (الحاصل على الجنسية التركية) أسامة قطب.
خسر أردوغان بسبب هذا الملف الشريحة الأكبر من الشباب التركي، المعترض على اتساع رقعة الفساد في البلاد.. لا ينسى هؤلاء "المعالجة الدموية"، التي تمت بقرار مباشر منه خلال احتجاجات ميدان "تقسيم" (28 مايو 2013) التي شكّلت اعتراضًا شعبيًّا على سياسات حكومة "العدالة والتنمية" الموالية لرجال الأعمال، وخطط أردوغان المنحازة للأغنياء، وإسناد المشروعات لمقربين منه (بالأمر المباشر).
يتذكرون كيف عصفت الشرطة التركية بالمحتجين في محيط حديقة "جيزي" بمدينة إسطنبول، قبل تمدد حالة الغضب في العاصمة أنقرة، ومدن استخدمت خلالها قوات الشرطة القوة المفرطة في المواجهة، وأسفرت عن آلاف المصابين والمعتقلين، قبل أن يعترف أردوغان بتجاوزات الشرطة.
زيادة معدلات الفساد كانت القشة التي قصمت ظهر البعير في علاقة أردوغان بالقوى السياسية والحزبية، المعترضة أساسًا على سياساته (الداخلية، والخارجية) وقد تلقت نيابة أنقرة مؤخرا من زعيم المعارضة، كمال كليجدار أوغلو، وثائق بنكية تُظهر تورط أفراد من عائلة أردوغان في عملية نقل أموال ضخمة خارج البلاد.
حزب الشعب الجمهوري (أكبر الأحزاب التركية المعارضة) يرى أن البلاد تعيش مناخًا من الفساد والخوف في ظل حكم قمعي، وانتقادات متتالية من حلفاء تركيا ومنظمات حقوقية دولية لما تعيشه البلاد من عمليات تضييق، وتآمر على المؤسسات الوطنية (الجيش، والقضاء، والأمن، والإعلام، والتعليم). وعليه يطالب الحزب بمواصلة النضال لحين إنهاء حكم أردوغان.
نجح حزب "الشعب الجمهوري" في إحراج "العدالة والتنمية" خلال الانتخابات البرلمانية (يونيو 2015) لكن أردوغان بادر بالانقلاب على النتيجة، وسارع بإجراء انتخابات جديدة طمعًا في حصول حزبه على نسبة تمكنه من تشكيل الحكومة، ومن ثم تمرير الصلاحيات الرئاسية التي يقاتل من أجلها (وهو ما حدث بالفعل)، ما دفع الحزب للتقارب مع حزب "الشعوب الديمقراطي" (المؤيد للأكراد) للحد من هيمنة أردوغان، الذى أمر بشن حملة أمنية واسعة ضد أكراد تركيا جنوب البلاد بعد هذا التقارب.
ويمثل ملف "الأكراد" أحد المنغصات لأردوغان، بعدما بادر (أولًا) بمدّ الجسور معهم لأغراض سياسية قبل انتخابات رئاسة الجمهورية عام 2014، ثم وصلت العلاقة لمرحلة القطيعة إثر اعتراض الأكراد على هيمنة أردوغان (بموجب التعديلات الدستورية- الديكتاتورية) على المشهد العام، فرد عليهم بكل عنف، لدرجة اتهامه بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، أكدت أن منطقة جنوب شرق تركيا شهدت دمارا شاملا وقتلا وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، على يد أجهزة الأمن التركية، طالت 30 بلدة وحيًّا، وأدّت إلى نزوح أكثر من 335 ألف شخص من أصل كردى، وتعرض نحو 2000 مبنى للدمار بشكل منهجي، كما تم تسوية أحياء بكاملها بالأرض.
العملية الأمنية ضد ألأكراد (جنوب تركيا) تسببت في استشهاد أطفال ونساء ورجال، جراء الاستخدام المفرط للقوة والحصار والتجويع.. تم توثيق حالات تعذيب واختفاء قسري للسكان المدنيين المطالبين بحقوقهم، والمعارضين في الوقت نفسه لسياسات أردوغان، وسط مزاعم من حزبه وحكومته بأنه يحارب الإرهاب.
يوظف أردوغان ذات المزاعم لشن غاراته على شمال سوريا (الغزو التركي لـعفرين).. تدرك الأغلبية أن الغزو التركي لـ"عفرين" هدفه فوز أردوغان بأصوات القوميين الأتراك (الرافضين لإقامة دولة كردية شمال سوريا) في الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة، كما أن الوجود العسكري التركي (المدعوم من جماعات إرهابية، وميليشيات مسلحة) سيجعل أنقرة (تحديدا الشركات التركية المملوكة لحاشية أردوغان) على قائمة المستفيدين من ملف إعادة الإعمار في سوريا.
مقابل ما يحدث من عصف بالجميع، تفجّر صراع مثير للدهشة بين أردوغان، والرئيس التركي السابق، عبدالله جول، إثر خلافات جذرية حول معالجة بعض الملفات، لاسيما النزعة الديكتاتورية الاحتكارية التي ينتهجها أردوغان، وسط تسريبات تشير إلى أن جول قد يكون منافسا محتملا لأردوغان في انتخابات الرئاسة المقبلة، مدعوما بأصوات المحافظين اليمينيين، والأكراد.
حالة الاضطراب التي يعانيها أردوغان في الداخل، جعلته يعجز عن التفريق بين نزعته الديكتاتورية ومصالح تركيا الاستراتيجية، لاسيما مع الجانب الأوروبي، وها هي هولندا (كقوة مؤثرة داخل الاتحاد الأوروبي، لكونها أحد 6 دول شاركت في تأسيسه، والمستثمر الأوروبي الأكبر في تركيا بنحو 22 مليار دولار، و2564 شركة) تبادر بسحب سفيرها من أنقرة، فضلًا عن توتر علاقات أردوغان مع ألمانيا، والنمسا، واليونان، وقبرص.
لم تفلح تنازلات أردوغان لباريس التى زارها (دون دعوة رسمية)، وكذلك زيارته للفاتيكان (التي تعد الأولى لرئيس تركي منذ 59 عامًا) في حل الأزمات التركية – الأوروبية. ورغم اعتذار أردوغان للبابا فرنسيس عن اتهامات سابقة وجّهها له بعد تصريحات عن دور تركيا في مذابح الأرمن، فقد فشل في إقناع البابا بالتوسط لتركيا لدى الأوروبيين، كما فشل في الحصول على دعم الأوروبيين لعملية عفرين العسكرية (غصن الزيتون) التي تستخدم فيها تركيا أسلحة محظورة دوليا ضد المدنيين شمال سوريا.
الآن، يحاول أردوغان (المأزوم داخليا، وخارجيا) التخفيف المؤقت من لهجته الحادة مع الأوروبيين والأمريكان، بعدما أصبحت قوى وتيارات وشخصيات وازنة (كانت مقربة منه) مرشحة للوقوف ضده، والتصدي لشطحاته ومغامراته، لكن الشروخ الكبيرة في علاقاته على كل المستويات باتت تشكّل في مجملها عوامل تهديد لمسيرته، وتضع تركيا على المحك (عربيًّا، وآسيويًّا، وأوروبيًّا)، والأهم أنها تهدد بإجهاض حلم التحاق الأتراك بالاتحاد الأوروبي للأبد.