وجّه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تحذيرا لتركيا في 31 يناير 2018 من أن عملياتها ضد المسلحين الأكراد في شمال سوريا "يجب ألا تصبح ذريعة لغزو سوريا" وحثها على أن"تنسق خطواتها مع حلفائها". وقد ردت تركيا على هذا التحذير في اليوم التالي له، واصفة إياه بـ "الإهانة"، واستنكر وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو بالقول: "لا فرنسا، ولا أي دولة أخرى، يمكنها إعطاء دروس لتركيا، إنهم يعلمون جيدا ما هو هدف هذه العملية، مضيفا: "نحن نستخدم حقنا في الدفاع عن النفس، وهذا يتماشى مع قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وهو ليس غزوا، ويجب ألا يكيلوا بمكيالين"، وهو ما يتطلب البحث في دلالات التصريح الفرنسي بخصوص عملية عفرين.
بداية، تحرّكت فرنسا مباشرة مع إطلاق تركيا عمليّة عفرين "غصن الزيتون" ضدّ وحدات حماية الشعب الكرديّة، وطالبت بعقد قمّة طارئة لمجلس الأمن، من أجل وقف التدهور الأمنيّ في الإقليم، والغوطة الشرقيّة، وإدلب. وبالفعل اجتمع أعضاء المجلس يوم 22 يناير 2018، بعد ثلاثة أيام من دخول القوات التركية إلى عفرين، وقد وأعلن وزير خارجية فرنسا، جان إيف لو دريان، أن الاجتماع لإجراء مشاورات حول الأوضاع ولبحث التطورات في سوريا، بما فيها العملية العسكرية التركية، ولتقييم المخاطر الإنسانية العالية، داعيا إلى وقف المعارك والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى الجميع في مناطق عفرين، وإدلب، والغوطة الشرقية.
دلالات الدور الفرنسي:
1- استعادة فرنسا مكانتها على الساحة الدولية: يمكن تفسير الدور الفرنسي تجاه ما يحدث في عفرين بأن ثمة توجهاً لفرنسا لاستعادة مكانتها على الساحة الدولية، حيث كشف استطلاع سنوي، يدرس مدى تأثير النفوذ العالمي غير العسكري للدول، أن فرنسا احتلت المرتبة الأولى في الدول الأكثر تأثيرا في العالم كقوة ناعمة، متجاوزة بذلك بريطانيا والولايات المتحدة، وهو ما يوضح رغبة الرئيس الفرنسي ماكرون في إنعاش الدبلوماسية الفرنسية، إلى جانب الشبكة الدبلوماسية الواسعة لفرنسا، من حيث العضوية في مؤسسات دولية ومتعددة الأطراف.
ولذا، وجهت فرنسا الدعوة للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، لزيارة فرنسا لافتتاح معرض في فرساي بمناسبة حلول الذكرى الـ300 لزيارة القيصر بطرس الأكبر فرنسا عام 1717، وقد كان هدف ماكرون من هذه الزيارة فتح صفحة دبلوماسية جديدة في العلاقات المتوترة بين موسكو وباريس، على خلفية السياسة الروسية في سوريا وأوكرانيا.
كما وجه الرئيس ماكرون الدعوة لنظيره الأمريكي، دونالد ترامب، للمشاركة في احتفالات العيد الوطني في 14 يوليو 2017، أو ما يعرف بـ"عيد الباستيل" وقد رأي بعض المراقبين أنها محاولة من ماكرون للعب دور الوسيط مع ترامب لتفادي ازدياد عزلة الولايات المتحدة على الساحة العالمية، والتأثير في توجهات الرئيس الأمريكي، عبر عناصر الدبلوماسية الفرنسية الناعمة، خاصة بعدما أعلن ترامب في يونيو 2017 انسحاب بلاده من اتفاق باريس للمناخ، وهو الأمر الذي أثار انتقادات واسعة من مختلف قادة الدول الأوروبية.
2- سوريا بمنزلة بوّابة فرنسا للعودة إلى الشرق الأوسط: تعد سوريا بمنزلة البوّابة التي تسعى فرنسا من خلالها للعودة إلى الشرق الأوسط، بعد تضاؤل حجم نفوذها خلال السنوات الأخيرة في هذه المنطقة. وقد سبق موقف فرنسا من عملية عفرين مطالبة الرئيس ماكرون التخلّي عن الخطاب الفرنسيّ الذي ساند المعارضة السوريّة في عهد الرئيس السابق، فرانسوا هولاند، والذي أصرّ على رحيل الأسد من الحكم قبل الدخول في العمليّة الانتقاليّة. لذلك، أكّد ماكرون أنّ رحيل الرئيس السوريّ ليس شرطاً للبدء بالمفاوضات، بل وصفه بأنّه سلوك "غير فاعل".
في السياق ذاته، تمكن الرئيس ماكرون من تحقيق نجاح دبلوماسي مهم في ملف القضية الليبية، بعد أن تمكن من جمع الطرفين الأساسيين، رئيس حكومة الوفاق الوطني، فايز السراج، وقائد الجيش الليبي الوطني، خليفة حفتر، معاً في 25 يوليو 2017 في ضاحية "سال سان كلود" غربي باريس.
كما تدخلت فرنسا كوسيط لحل الخلاف الناتج عن تقديم رئيس الوزراء اللبناني، سعد الحريري، استقالته، معلنا إياها من المملكة العربية السعودية، حيث كان أول دولة يتوجه إليها الحريري يوم 17 نوفمبر 2017، ليعود بعدها إلى القاهرة، ثم إلى بيروت.
3- مد نفوذ فرنسا إلى سوريا: من المتوقع أن يفتح موقف فرنسا من عمليّة "غصن الزيتون" المجال أمامها لخوض معركة دبلوماسيّة تمنحها فرصة لمدّ نفوذها في سوريا، خصوصاً مع عدم فصلها بين مختلف الملفّات الشائكة التي تحيط بالنزاع السوريّ. وهذا ما أظهره الانتقاد الضمنيّ الذي أطلقه لودريان، وزير الخارجية الفرنسي، تجاه الروس في حديث إلى صحيفة "لو فيجارو" الفرنسيّة بالقول: "لا يستطيعون حلّ الأزمة بمفردهم".
4- أن يكون لفرنسا دور في إعادة إعمار سوريا: وكما أفاد لودريان إلى أنه يجب إعادة إعمار سوريا يوماً، مضيفا بأن وسائلهم لن تكفي لتحقيق ذلك، مما يعني سعي فرنسا استخدام ورقة تمويل عمليّة إعادة الإعمار بعد نهاية الحرب السوريّة.
5- قبول فرنسا بحكم ذاتي للأكراد في عفرين: وقد أوضح وزير الخارجية لودريان عن أنّ الأوروبّيّين لن يشاركوا "في إرساء الاستقرار وإعادة الإعمار إلا في المناطق التي يسودها حكم مقبول على صعيد الحقوق الأساسيّة"، وهي إشارة إلى المناطق التي يسيطر عليها الأكراد، كما لفتت النظر إلى ذلك "وكالة الصحافة الفرنسيّة". فالناشطون من بين الأكراد على مواقع التواصل الاجتماعيّ يشدّدون على أنّ المجلس التنفيذيّ الخاص بعفرين، وهو المجلس الأعلى في الإقليم، تترأّسه امرأة، هيفي إبراهيم مصطفى. كما شدّدوا على دور المرأة في الحياة السياسيّة والإداريّة داخل الإقليم، إذ إنّ اللجان المحلّيّة تتضمّن رئاسات مشتركة بين الرجال والنساء. كذلك، يشيدون بالنظام الديموقراطي الذي يجدّد مؤسّسات الحكم داخل أقاليمهم، كما حدث في المرحلتين الأخيرتين من الانتخابات المحلّيّة والإقليميّة في سبتمبر وأكتوبر2017، داخل "روج آفا" السوريّة التي تضمّ المناطق ذات الغالبيّة الكرديّة، مما يعني أن ثمة توافقا في وجهات النظر بين فرنسا والولايات المتحدة لمنح الأكراد حكم ذاتي، ووجود خلاف مع النظام السوري، ومع روسيا وإيران في هذا الصدد.
6- عدم رغبة فرنسا في انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي: ولذا هى تحاول أن تثبت عليها انتهاكات لحقوق الإنسان ليظل هذا الملف عائقا أمام انضمامها للاتحاد، ومن ثم عرض الرئيس الفرنسي ماكرون في 5 يناير 2018 على تركيا "شراكة مع الاتحاد الأوروبي" كبديل عن مساعي انضمامها للاتحاد، بهدف الحفاظ على ارتباط تركيا والشعب التركي بأوروبا، والعمل على جعل مستقبله مبنيا على التطلع إلى أوروبا ومع أوروبا، وهو ما رد عليه الرئيس أردوغان في 4 فبراير 2018، حيث أعرب عن رغبة أنقرة في الانضمام الكامل إلى أوروبا، وأن أي خيارات أخرى لن ترضينا، مشيرا للدور الرئيسي لبلاده في قضية الهجرة، وجهودها في مكافحة المنظمات الإرهابية، مثل حزب العمال الكردستاني، ووحدات حماية الشعب الكردية، وتنظيم "داعش".
7- خلاف داخل حلف الناتو: إن طلب فرنسا لعقد هذا الاجتماع يعكس خلافا داخل حلف الناتو الذي أعلن دعمه في 26 يناير 2017 لتركيا في عملية (غصن الزيتون) التي أطلقتها ضد ميليشيات PKK وPYD، حيث يرى الحلف أن تركيا تعرضت لخسائر كبيرة بسبب الإرهاب. وشدد في هذا الإطار على أن "كافة الدول تتمتع بحق الدفاع عن النفس". وأشار إلى أن تركيا زودت حلفاءها في الناتو بمعلومات حول عملية غصن الزيتون، في الوقت الذي تؤيد فيه بريطانيا، في حين ترفضها أمريكا لأنها تدعم الأكراد، وتدعم انفصالهم عن سوريا، وفي الوقت نفسه تغض الطرف عن العملية، لأنها -كما تم الإعلان عنها- موجهة ضد الإرهابيين.
وذلك على الرغم من أن ما قامت به تركيا تجاه سوريا هو عدوان، وهو ما عبرت عنه وزارة الخارجية السورية في 22 يناير 2017 بالقول: "إن العملية العسكرية التركية في شمال سوريا عدوان صارخ على الجمهورية العربية السورية وسلامة أراضيها، وتشكل انتهاكا لأحكام الميثاق"، كما نوهت الخارجية بأن الجمهورية العربية السورية تؤكد أن وجود أي قوات عسكرية أجنبية على أراضيها دون موافقتها الصريحة هو عدوان واحتلال، وسيتم التعامل معه على هذا الأساس.
8- إفساح المجال أمام المطالبة بمحاكمة أردوغان في المحكمة الجنائية الدولية: وقد ظهر جليا في طلب فرنسا لعقد الاجتماع الطارئ بمجلس الأمن، حيث أوضحت بأن الهدف من الاجتماع، إلى جانب وقف العملية، هو تقييم المخاطر الإنسانية العالية، داعيا إلى وقف المعارك، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية إلى الجميع في مناطق عفرين، وإدلب، والغوطة الشرقية.
أخيرا، يعبر الموقف الفرنسي الواصف لعملية عفرين بالغزو، والذي سجلت به موقفا مخالفا للعديد من الدول، منها بريطانيا وحلف الناتو، أن فرنسا ترغب في أن يكون لها دور جديد على الساحة الدولية، لاسيما في منطقة الشرق الأوسط، فضلا عن رغبتها في العودة بنفوذها إلى سوريا، من خلال التسوية السياسية الجارية، وفي إعادة الإعمار، حتى لو جاء ذلك على حساب دولة عضو في حلف الناتو، والحيلولة دون انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، بل والمطالبة -في خطوة متقدمة- بمحاكمة رئيسها، رجب طيب أردوغان، لدى المحكمة الجنائية الدولية، من خلال إحالته من قبل مجلس الأمن، وذلك بإثبات قيامه بجرائم ضد الإنسانية.