دأبت الدبلوماسية الرئاسية، منذ تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى، على تكثيف تحركاتها في الدائرة الإفريقية، وكان لجنوب السودان أولوية على الأجندة المصرية. فمنذ مطلع 2016، لا تتوقف مصر عن إرسال قوافل المساعدات الإنسانية لدولة جنوب السودان.
آخر تلك القوافل الإغاثية ما أعلنت عنه وزارة الدفاع المصرية من إرسال طائرة عسكرية إلى مطار جوبا، محملة بنحو 20 طنا من المساعدات الطبية والدوائية والغذائية، كتعبير رمزي، ورسالة صداقة، وأخوة، واعتزاز، بين دولتي مصر وجنوب السودان.
كما أن التشابكات الإقليمية للأمن القومى المصرى بإفريقيا تؤسس لحتمية تأمين ودعم جنوب السودان. فعقب استقلال الجنوب في عام 2011 دعمت مصر هذا البلد في العديد من المجالات التنموية، كما قامت بجهود الوساطة لرأب الصدع الحادث هناك، لكن الأمور تعقدت، وكانت لها تأثيرات سلبية فى الأوضاع الاقتصادية، والأمنية، والسياسية، حيث عجزت الضغوط الدولية عن إيجاد تسوية في جنوب السودان.
وفي ذلك الإطار، عقدت القاهرة سلسلة من الاجتماعات بمقر المخابرات العامة، خلال الفترة من 13 إلى 16 نوفمبر الجاري، برعاية الرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي، والأوغندي يوري موسيفني، وضمت الاجتماعات ممثلين للحركة الشعبية لتحرير السودان بشقيها الحكومي وقادة سابقين. وأسفرت الاجتماعات عن التوقيع على الاتفاق الذي يعد خطوة مهمة على طريق دعم السلام ووقف الحرب في جنوب السودان. ويطرح ذلك الاتفاق عددا من التساؤلات، من أبرزها دلالات ذلك التحرك المصري، وهل سيعزز "إعلان القاهرة" فرص السلام بالجنوب السوداني، أم سيكون امتدادا لاتفاق أروشا؟.
علاقات ممتدة:
فور إعلان "جنوب السودان" دولة مستقلة في عام 2011، سارعت القاهرة إلى إعلان دعمها للدولة الوليدة، وإقامة علاقات دبلوماسية معها، وشهدت العلاقات بين البلدين تطورًا كبيرًا، عقب الاستقلال، حيث بدأت بمشاركة وفد مصري رفيع المستوى في احتفالات إعلان الدولة الذي أقيم في جوبا.
كذلك، أرسلت مصر أكبر قوة من قوات حفظ السلام الدولية في جنوب السودان، وشاركت في تطوير المشروعات، ودعم التنمية في دولة الجنوب، كما قامت بوضع حجر الأساس لجامعة الإسكندرية في الجنوب، ومنحت أبناء الجنوب منحًا دراسية سنوية بالجامعات المصرية، وأقامت عيادة طبية بولاية "جوبا" الجنوبية، بالإضافة إلى البدء في تطهير مياه النيل، بالتوازى مع المشروعات الخدمية، والبنية التحتية.
ولم يكن فقط البعد الاستراتيجي ما يدفع القاهرة إلى إقامة علاقات قوية مع جنوب السودان، نظرا لارتباط الأخيرة بملف مياه النيل، وعمق الأمن القومي المصري بإفريقيا، بل إن هناك أبعادا أمنية وعسكرية واستخباراتية جمعت ما بين الدولتين، حيث أبدت مصر استعدادها لمساعدة الأجهزة الأمنية في جنوب السودان على رصد الوجود الصومالي وعلاقاته مع حركة الشباب المجاهدين.
ولعل المخاوف المصرية من استئثار إثيوبيا وأوغندا بالسيطرة على الأمور في جنوب السودان، خاصة المتعلق منها بملف مياه النيل، دفعت القاهرة إلى إيجاد موضع قدم بـ"جوبا". وهو ما اتضح من خلال المشروعات التي أطلقتها مصر عام 2014، فيما يخص استغلال الفوائد المائية في مناطق المستنقعات، وبحر الغزال في الجنوب، من خلال تفعيل مشروع المنحة المصرية لإزالة الحشائش العالقة، وإحياء مشروع قناة جونجلى في جنوب السودان.
أضف إلى ذلك، توقيع عدد من الاتفاقيات بين الجانبين، منها توقيع اتفاق الإدارة المشتركة لمياه النيل بين البلدين، وينص على إنشاء جبهة مشتركة بين الجانبين تتولى مسئولية إدارة مياه النيل، ويقضي أيضا بإرسال بعثة ري مصرية إلى جنوب السودان لتحديد مستويات مياه النيل هناك.
محاصرة إثيوبيا:
تشير الدلالات الزمنية للإعلان عن إبرام وثيقة القاهرة في جنوب السودان، وذلك عقب الإعلان عن تعثر المفاوضات الفنية لسد النهضة بين مصر من جهة، والسودان وإثيوبيا من جهة أخرى، إلى إعادة إنتاج أدوات جديدة، وهو ما ظهر في تصريح لمجلس الوزراء بأن مصر "ستتابع، وستتخذ ما يلزم" لحفظ حقوق مصر المائية، ملمحًا إلى مسار آخر سياسي وقانوني.
ويعيد ذلك إلى الأذهان الحديث عن الخطط المصرية لحصار إثيوبيا عن طريق إقامة علاقات قوية مع جيرانها، خاصة من الدول الضعيفة نسبيًا أو تلك التي تمزقها الحروب الداخلية، وتؤكد العديد من التحركات المصرية، خلال الآونة الأخيرة على ذلك:
1- حرص الرئيس السيسى على المشاركة في القمم الدورية للاتحاد الإفريقى، وذلك بداية من الدورة الثالثة والعشرين في مالابو بغينيا الاستوائية في يونيو 2014، وصولا إلى الدورة الثامنة والعشرين في أديس أبابا في يناير 2017، بالإضافة لمشاركته لقمة دول حوض النيل في أوغندا.
2- قيام الرئيس السيسي بجولة رباعية في أغسطس الماضي، والتي شملت أربع دول إفريقية، وهي: تنزانيا، ورواندا، والجابون، وتشاد.
3- تفعيل الدبلوماسية الرئاسية، وذلك بزيارة الرئيس السيسي إلى كينيا في فبراير الماضي، بعد شهر من استقباله رئيس جنوب السودان، سلفا كير، في القاهرة، وشهرين من زيارته المفاجئة إلى أوغندا، وكذلك إستقباله للرئيس الإريتري، أسياسي أفورقي، بالقاهرة في نوفمبر 2016.
ومن ثم، فإن خريطة الزيارات المصرية لدول إفريقية تمتد إلى حدود الدول المجاورة لإثيوبيا، مما عزز الاعتقاد السائد بأن القاهرة تسعى إلى تطويق أديس أبابا، عبر الوجود في العديد من الدول الإفريقية، وخاصة أوغندا، وإريتريا، وجنوب السودان، رداً على استمرار تعثر المفاوضات الفنية، برغم توقيع الاتفاق التشاوري الثلاثي بين مصر والسودان وإثيوبيا في مارس 2015.
سيناريوهان مُحتملان:
- السيناريو الأول: قد يحدث تجميداً لإعلان القاهرة، كسابقيه من الاتفاقيات، خاصة أن معيار المصالح الشخصية قد يلقى بظلاله على اتفاقيات التهدئة الإفريقية؛ حيث نجد أن القادة الأفارقة لديهم تخوف من دعم حظر الأسلحة، وفرض العقوبات، ومحاولات تقديم المتورطين للعدالة في جنوب السودان؛ لأن ذلك قد يشكل سابقة في منطقة شرق إفريقيا، يخشى على أثرها هؤلاء القادة الأفارقة من أن تُستخدم هذه الأدوات ضدهم شخصيًا بعد ذلك.
- السيناريو الآخر: من المتوقع أن يؤدي إعلان القاهرة، والذي تضمن قياديين مهمين، الأول: باقان أموم، الأمين العام لحركة الشعبية، والآخر: كوال مانيانج، وزير دفاع جنوب السودان، إلى تسريع تنفيذ اتفاق أروشا، الموقع قبل نحو ثلاث سنوات، والذي يتضمن خطوات لتطوير برنامج شامل للمصالحة الوطنية، وتكوين هياكل انتقالية جديدة لتوحيد الحزب على صعيد القيادة والأعضاء، بالإضافة إلى التأكيد على أهداف إعلان القاهرة المرحلية من عودة اللاجئين والنازحين إلى مناطقهم ودعم الاستقرار، والأهداف النهائية المتعلقة بوقف الحرب، وتحقيق السلام في جمهورية جنوب السودان.