حملت آخر أيام عام 2017 دليلاً قاطعاً على حقيقة كشفت عنها أحداث تعرضت لها المنطقة العربية منذ عام 2011 .. هذه المرة صدرت الإشارات قوية وعنيفة على النطاق الإقليمي، وتحديدا إيران. بداية مرحلة (التمكين)، وفق الأهداف والمراحل التي حددها حسن البنا لجماعته، جاءت مع "ثورة الياسمين" التي أفرزت وصول (حركة النهضة) الإسلامية برئاسة راشد الغنوشي الى الحكم، تعرضت على إثرها تونس الى أقسى مراحل الركود الاقتصادي .. تلتها مصر التي لفظ شعبها بعد عام ميليشيا مسلحة حاولت سرقة بلده باسم الدين .. ثم ابتلعت التنظيمات الإرهابية -على اختلاف طوائفها الدينية- العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن. نجح بعض هذه الدول في تحقيق انتصار على هذه التنظيمات، والآخر لا يزال يسعى في حروبه ضدها. يختلف الوضع بالنسبة لإيران التي كان يحلم زعيمها الروحي، آية الله خميني، بقيادة العالم الإسلامي وهو يعود الى بلاده رمزا لما سمي الثورة الإسلامية، لكنه اكتفى بتحقيق نصف هذا الحلم كزعيم روحي للطائفة الشيعية في العالم العربي.
عنوان رئيسي يستدعي التوقف أمامه يجمع بين هذه الأحداث رغم اختلاف تفاصيل ظروف كل منها .. موقف الشعوب من جماعات أو مرجعيات استغلت الدين الإسلامي طمعا في السيطرة على مقاليد الحكم في بلادها، سلسلة طويلة من الخداع مارستها على الشعوب قد طرحت نفسها خلالها كنموذج مثالي لحكم هذه الشعوب، نتيجة التزامها بالشريعة الإسلامية!. هذه التيارات لم تتوقف عند "ابتلاع" الحكم، لكنها مضت –عربيا وإقليميا- في أطماعها إلى تقسيم المنطقة العربية، وفقا لمخططها في إقامة الخلافة الإسلامية أو الطائفية.
عاصفة الاحتجاجات التي اندلعت في مدن إيران خلال الأسبوع الأخير من عام ،2017 ولا تزال ملامح مسارها فى مستقبل غير محددة، لها تداعيات مؤثرة فى المنطقة. إيران تمثل الجبهة المضادة للتقارب الذي تشكلت ملامحه أخيرا بين تركيا وقطر والسودان، خلال زيارات رسمية واجتماعات بين قادة جيوش هذه الدول، ثم أخيرا صدمة تنازل السودان عن جزيرة "سواكن" في البحر الأحمر لتصبح قاعدة عسكرية تركية، سبقها إعلان الرئيس التركي أردوغان نقل أفراد تنظيم "داعش" من العراق وسوريا عبر تركيا إلى سيناء. وقوع "سواكن" ضمن دوائر الأمن القومي المصري والسعودي، التي أصبحت حدودها الغربية مهددة، بالإضافة إلى حدودها الجنوبية من إيران عبر ميليشيا الحوثي،هي محاولة ساذجة من الدول الثلاث لفرض طوق حصار على مصر، بالاضافة الى هدف مد نفوذ هذه الدول بقيادة تركيا، مقابل طوق التمدد الإيراني بداية من العراق الى لبنان وسوريا، ثم اليمن. السودان، بكل ما تعانيه من هشاشة على الصعيدين السياسي والاقتصادي، هرولت نحو الوقوع في الفخ، مقابل إغراءات التمويل القطري بهدف الإضرار بمصر.
إقليميا، الاضطرابات لا تقتصر على إيران، التمدد العسكري التركي عبر إقامة قواعد عسكرية في الصومال وأخيرا السودان هي "مسكنات" يلجأ اليها أردوغان بهدف تجميل صورته داخل تركيا بعد محاولاته العقيمة لإعادة الحلم العثماني والفشل الذريع الذي انتهت إليه هذه المساعي في مختلف الدول. لم يجد أردوغان سوى قيادة جبهة نفوذ مقابل التمدد الإيراني ومحاصرة مصر عقابا على إجهاضها حلم أحياء مجد أجداده، وقيادة الطائفية السنية في العالم الإسلامي. ارتفاع الأصوات المطالبة بالعودة الى الحكم المدني بعد كشف الشعوب زيف "العملة" التي تتاجر بها هذه الجماعات والمرجعيات من شأنه تعميق مصادر قلق أردوغان، وهو يسعى لمد نفوذه العسكري، بينما الجيش التركي -وكان ضمن القوى العسكرية المتقدمة- تعرضت عقائده إلى أكبر عملية تحطيم معنوي ومهني وعسكري عقب محاولة انقلاب عام 2013. الأكثر إثارة للدهشة هو الخلط في الموقف السوداني الذي أصبح نظامه يفتقد أي صوت رشيد .. إذ غلب الخلط في فهم طبيعة ومصدر القلق الذي أبدته مصر على أنه يرجع إلى قرب الجزيرة من حدودها .. مصر قادرة على مواجهة أي تهديد يمس أمنها القومي برا وبحرا.. الواقع أن مصر تخشى على مصير السودان من الوجود التركي، بعد أن غاب عن حكامها التاريخ مع غياب الوعي السياسي وتناسوا أن أبشع مراحل الظلم والسرقة والقهر عاشتها المنطقة العربية فى أثناء الاحتلال العثماني. إن المدى الذي سيبلغه تصاعد الاحتجاجات الشعبية في إيران، واذا ما كانت ستحقق أهدافها في إسقاظ نظام الملالي، بالتاكيد سيلقي بظلاله على إضعاف التحالفات التي نشطت تركيا في تكوينها على أساس احتضان مختلف التنظيمات الإرهابية مع تصاعد مد الرفض الشعبي لها بعد كشف الأطماع والفاشية والوخشية التي يجيدون إخفاءها خلف أقنعة الدين.
التأييد الأمريكي للاحتجاجات الشعبية التي عمت مدن إيران، والصادر عن الرئاسة ووزارة الخارجية، بالتأكيد يفرض تساؤلات تغوص بعمق في حقيقة الموقف الأمريكي. أمريكا أطاحت بأقوى حلفائها –شاه إيران- ثم دعمت وصول حكم إسلامي يستدعي من التاريخ نمطاً خطيراً من الصراع الديني القائم على الطائفية .. صراعات قد يستمر تأجيجها لقرون، هو ما رأته أمريكا الوضع الأنسب بما يتواءم مع مصالحها في المنطقة العربية، لذا تبدو الإشادة بالموقف الأمريكي الصادرة عن أكبر تنظيم معارض (مجاهدي خلق) لا تزال مبكرة خصوصا وأن منح الثقة المطلقة للتدخلات الأمريكية باءت نتائجه بالفشل والخراب على هذه الدول. مسار وتداعيات هذه الانتفاضة الشعبية يجب بقاء مصيرها في يد الشعب الإيراني فقط، على أن يضع أمامه مشهدين فاصلين من التاريخ القريب جدا: الأول، صحيفة سوابق واشنطن في تغيير الأنظمة الحاكمة، وفق رؤيتها الخاصة .. ثانيا، كل الحرص على عدم تدمير الدولة الإيرانية، واقتصار التغيير على الإطاحة بحكم الملالي، انطلاقا إلى دولة مدنية تليق بالحضارة الفارسية.
رابط دائم: