تجاوز مسار العلاقات المصرية - الأمريكية، عبر تاريخه الطويل، عدة محطات من الفتور حدثت نتيجة إما لتباين في المواقف، أو اختيارات لم تأت على الهوى الأمريكي. أعاد تطور الأحداث فى الآونة الأخيرة إلى السطح الخلط من الجانب الأمريكي في فهم علاقة التحالف، وتحديدا مع "مصر" التي اكتسبت عبر أربع سنوات الصلابة والقراءة السياسية الحكيمة لكل الأحداث، سواء المحيطة بها، أو التي كادت تعصف باستقرارها. قراءة مستقبل هذا التباين في الرؤى المصرية - الأمريكية تفرض التوقف أمام عدة ملفات، بعضها مستحدث، والآخر قديم، كثيراً ما استخدمته أمريكا كورقة ضغط على مصر.
لا تزال أمريكا تبدو متحفظة تجاه استيعاب حقائق رسختها ثورة 30 يونيو التي أعادت تشكيل خريطة مصر السياسية مع الدول العربية والأوروبية، بعدما لفظت مصر (عصابة) سرقت مصيرها على مدى عام. التحالف العربي الذي التف حول إرادة الشعب المصري، ودعم موقفه عالميا، أعقبته جهود نشيطة للرئيس عبد الفتاح السيسي في العمل على إعادة علاقات مصر مع عدة أطراف دولية وإقليمية، مثل إفريقيا ودول شرق آسيا، ظلت طويلا في طي النسيان. لقد أعاد الرئيس السيسي أيضا انفتاح مصر على تنويع مصادر التسليح. أمريكا التي حرصت، عبر علاقتها بمصر، على محاصرة القرار المصري داخل مساحة محددة تعمد حاليا إلى إما "اختراع" ملفات أو إعادة فتح أخرى كرد على القلق الذي تستشعره نتيجة الخطوات الناجحة التي حققتها مصر على الصعيدين الداخلي والخارجي عبر السنوات الماضية .. والمؤكد أن يقع التقارب الاقتصادي - الأمني بين مصر وروسيا على رأس قائمة الهواجس التي "تُثير" أعصاب أمريكا.
باتت قضايا حقوق الإنسان ضمن الملفات فارغة المضمون التي تعيد أمريكا التلويح بها كل فترة، حتى بعدما قدمت مصر للعالم أدلة موثقة تكشف زيف ما يوصف بتقارير منظمات ما أنزل الله بها من سلطان، كما تحيط بمصادر تمويلها الشبهات، بالإضافة إلى الإصرار الأمريكي على فصل جماعة "الإخوان المسلمين" وفصائلها المسلحة عن التنظيمات الإرهابية، متجاهلة الاعتراف العلني لقادتها بالانتماء إلى هذه الجماعة! أمريكا أيضا تستبعد من حساباتها، وهي تردد كل فترة "النغمة النشاز" حول قطع المساعدات الاقتصادية والعسكرية إلى مصر، والتي وردت ضمن اتفاقيات "كامب ديفيد" - تستبعد المخاطر التي تمثلها هذه التلميحات على مستقبل الاتفاقية، تحديدا حين تظهر بين الحين والآخر على المواقع الاستخبارية الإسرائيلية (ديبكا - فيلكا) تحليلات تشير إلى مخاوف من اندلاع مواجهات عسكرية بين مصر وإسرائيل، رغم ابتعاد هذه الهواجس كليا عن المسارين السياسي والأمني اللذين اختارتهما مصر، والساعيين إلى التهدئة ونشر السلام فى المنطقة.
بادرت أمريكا ، بعدما أعادت إشعال الاحتجاج الشعبي داخل فلسطين، بالإعلان عن طرحها خطة سلام دون إيضاح أي جدوى سياسية لهذه الخطة، في ظل وجود مبادرة سلام عربية اتفقت عليها الأطراف عام 2002. في المقابل، جاء الرد المصري بعيدا عن صخب التصريحات التي تغرد خارج منطقة الواقع. كلمات الرئيس السيسي المختصرة والمباشرة أغلقت كل الأبواب أمام ما قد يثار من شطط في تصريحات صدرت عن مسئولين في الإدارة الأمريكية حول إدخال سيناء في معادلة حل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، ثم اكتمل الرد المصري مع افتتاح مشاريع حيوية تحقق سهولة انطلاق مشاريع التنمية والإعمار إلى سيناء. على صعيد الأمن القومي المصري، حسم افتتاح عدد من الأنفاق العملاقة، كشرايين تواصل مباشر مع سيناء، كل أوهام التعامل مع سيناء كمنطقة منزوعة السيادة.
الرئاسة الأمريكية تعيد -عبر الكونجرس- استخدام وسيلة ضغط رغم ثبوت فشلها سابقا في مصر، من خلال قوانين إنشائية عن الأقليات الدينية تفتقد أي فهم لطبيعة نسيج الشعب المصري مسلمين وأقباطاً. إصرار أمريكا اعتاد على تجاهل الرفض المصري القاطع المساس بوحدة الشعب، وهو ما أعلن مرارا من رأس الكنيسة القبطية -الأنبا تواضروس- وكل منظمات أقباط المهجر، أن أي مشكلات قد تطرأ على الملف القبطي بالتأكيد لا تنتظر التدخل الأمريكي في شأن داخلي تطرح حلوله بين المصريين فقط. التدخل الأمريكي سيكون أجدى إذا ما تصدى للدفاع عن اضطهاد مسيحيين فلسطينيين، والوحشية التي يتعرضون لها على يد الجيش الإسرائيلي.
قرار الرئيس ترامب حول القدس جاء بمنزلة تدمير لمنظمات الأمم المتحدة ومجلس الأمن والتعريض بقراراتهما، إذ إن وجود بعض المآخذ على فاعلية تطبيق قرارات هذه المنظمات لا يلغي خطورة تفكيك دورها في الحفاظ على السلام العالمي. غياب المنطق عن العديد من المواقف الأمريكية فى الفترة الأخيرة يفرض التوقف عند ربط التهميش الأمريكي لهذه المنظمات بمحاولات أمريكا مد تدخلاتها الأمنية على دول المنطقة العربية. قبل تحرير مدن العراق من تنظيم داعش، كشفت صور الأقمار الصناعية للعالم بوضوح عن نقلات داعش، مع كل أسلحته الثقيلة، بسلاسة وعبور الحدود بين مدينتي الرقة والموصل، دون تعرض طائرات المراقبة الأمريكية لهم، ثم خروجهم بالطريقة نفسها من الرقة. كما أن خيوط التواصل بين هذه التنظيمات وأمريكا لم تعد سرا خافيا على أحد، الأمر الذي يضيف إلى خطورة غض النظر الأمريكي عن انتقال أفراد هذه التنظيمات إلى ليبيا وما يمثله من ازدياد الضغط الأمني على الجيش المصري لتأمين الحدود الغربية، أو استدراجه – كدفاع مشروع عن الأمن القومي للأراضي المصرية- إلى مواجهات قد تمتد داخل حدود ليبيا، مع ازدياد توافد أفراد هذه التنظيمات إلى ليبيا.
توجه مصر نحو سياسات متوازنة مع جميع الأطراف منح دورها تأثيرا من شأنه إثارة القلق الأمريكي على الحالة التي تراها الأنسب لمصالحها، وتحديدا منطقة عربية كاملة الانحياز لها، أمنيا وسياسيا.
رابط دائم: