ثمَّة شفرة علنية، لم يغيِّرها الجيش المصري منذ إعادة تأسيسه وتنظيمه في العصر الحديث وحتى الآن.. يتضح دور هذه الشفرة وأهميتها في خلفية أي مشهد صعب يتعرض له الوطن؛ (الأرض، والشعب).. تشغل بدورها خصوم وأعداء الدولة المصرية.. يبحثون في طبيعتها، ومكوناتها، وسر نجاحها المتواصل على نحوٍ لا تخطئه عين، ويحاولون بشتى الطرق التداخل معها للعبث بها، وإعاقتها، أو حتى فهم إشاراتها دون جدوى.
في كل المحطات التاريخية ظلَّت هذه "الشفرة العلنية" مصدرًا للدهشة والتعجب، ربما لقدرتها على الصمود، وتحدي التحدي، فضلًا عن كونها همزة وصل لا تنقطع مع الشعب، الذي يتناغم معها، ويستخدمها وقت الحاجة للخروج من مشكلات.. من خلالها، تصبح المستحيلات حلولًا سهلة، وميسرة (سلمًا، وحربًا) وفي كل مرة تتمدّد حالة الدهشة، التي تعبر عنها جملة تقليدية مفادها: «إنهم المصريون».
على أبواب الذكرى السابعة لـ"25 يناير 2011" يتحتم علينا الوقوف أمام هذه الشفرة العلنية للجيش.. لم يكن التفاعل الجماهيري (متعدد الأسباب، والتوجهات) الذي حدث في الأيام الأولى، آنذاك، نهايةَ المطاف.. تعلقت الأنظار بموقف المؤسسة العسكرية.. ماذا ستفعل مع القوى المتصارعة (الحزب الوطني الحاكم، وقوى المعارضة الوطنية، وجماعات تتقاطع مع أطراف داخلية وخارجية) ورغبة شعبية في معالجة حالتي الجمود السياسي والاقتصادي، بمنغصاتهما الاجتماعية.
وفقًا لموروث تاريخي، تراهن الأغلبية الشعبية على القوات المسلحة.. تستدعيها للمشهد العام في كل مرة.. تطالبها (كما حدث قبل 7 سنوات) بسرعة للخروج من ثكناتها.. بالمبادرة لإنقاذ الشعب من خصومه وأعدائه.. المدنيون (على اختلاف أفكارهم، ومذاهبهم السياسية) تتعدد أمامهم الخيارات.. تحكمهم مصالح وارتباطات.. وحدها، المؤسسة العسكرية المصرية تصبح أمام خيار واحد، ووحيد عندما يتعلق الأمر بالشعب.. ظهرت بوضوح حينما بدأت الأمور في التأزم في 25 يناير، قبل خروجها عن السيطرة لاحقًا.
العالم كله، الأعداء قبل الأصدقاء، يثمنون موقف المؤسسة العسكرية.. يحكمهم في ذلك موقفها النزيه.. لم تتدخل لقمع المتظاهرين والمحتجين.. لم تقف على الحياد مراقبًا للأوضاع حتى تنحاز للطرف الذى يحسم المعركة.. لم تتنكر للشعب، ومطالبه.. أتذكر، وأنا أتنقل (بحكم مهام والتزامات مهنية) بين المثلث الملتهب (التحرير.. عبد المنعم رياض.. شارع عبد الخالق ثروت، حيث نقابتا الصحفيين والمحامين، ونادي القضاة) كيف كان حال الجموع الحاشدة يوم ما يسمى بـ"جمعة الغضب" (٢٨ يناير ٢٠١١).
حالة القلق الشعبي التي تمددت حينها (مدعومة باحتقان، تغذّيه قوى تنظيمية ومجموعات شبابية، متعددة الأهواء) كانت تدفع بالمجتمع كله نحو حالة انفلات شاملة، لولا نزول عناصر القوات المسلحة.. خطوة مثلت بارقةَ أملٍ، قابلها المصريون في الميادين بالهتافات، والترحيب، ليس لأن هذه العناصر توفِّر الحماية للمدنيين، لكن لأن الشفرة العلنية للقوات المسلحة لم تتغير في زمن الرئيس الأسبق حسني مبارك، بكل ما شهده من متغيرات وأزمات.
جددت المؤسسة العسكرية (قبل أن يعلن مبارك تنحيه) انحيازها للشعب.. هي حالة وطنية فريدة، لا تقبل المزايدة.. يدرك أبعادها ومعانيها من وثّق حالة الدفء التي استشعرها المواطنون (شاشات الفضائيات، المعادية قبل الرسمية كانت شاهد عيان) وهم يحتمون بعناصر الجيش ومعداته العسكرية.. البيان العسكري (١ فبراير ٢٠١١) كان الرسالة الأكثر وضوحًا: "نحن نتفهم مطالبكم.. ونحميها".. لم يكن رسالة للشعب فقط، بل توجيهًا حاسمًا من "القيادة العامة" لأفراد القوات المسلحة (القادة.. الضباط.. ضباط الصف.. الجنود) بتوفير الحماية للشعب.. كل الشعب.
بتوافق (غير مخطط) مع الإرادة الشعبية، كانت القوات المسلحة عاملًا مهمًا في نجاح حالة التغيير.. في الترسيخ لعملية الانتقال الديمقراطي.. شهادة العالم كله (لاسيما منظمات الحقوقية التي تتعايش على تعقب وانتقاد كل ما يجري في مصر) ثمّنت دور المؤسسة في الإشراف على الاستحقاقات الانتخابية (التشريعية، ممثلة في مجلسي الشعب والشورى.. والرئاسية).. حسمت الجدل، ونبّهت الجميع إلى أنّ الجيش والديمقراطية ليسا متناقضين.
حتى في أصعب الظروف، تحافظ المؤسسة العسكرية على أدائها وموقفها الوطني.. تجسد علاقة تاريخية مع الشعب (التي هي جزء منه).. طبيعة تنشئة وتربية عناصره، وعقيدتهم القتالية، تظل دائمًا خطًا أحمر بين المؤسسة العسكرية، وآفة التحزُّب والانتماء السياسي.. تكشفت نواياها (بعد عزل مبارك) من خلال رغبة في إصلاحات دستورية فورية.. يشهد بذلك تفويضها للجنة (أحزاب، وقوى وجماعات سياسية، وائتلافات شبابية) لإنجاز المهمة.
في اللحظات الصعبة يحدث الفرز الوطني.. تكشف عنه المواقف المعلنة.. تؤكده التحركات على الأرض.. الطرف الثالث (جماعة الإخوان، ونخب أمريكية- غربية متنفذة في المشهد العام، آنذاك) كان ضد توجهات القوات المسلحة في ملف الإصلاح.. الطرف الثالث، راح يدعم خيار "الإصلاح الجزئي"، حتى يحافظ على مكتسباته، ويحمي مصالح من يوفرون له الدعم والإسناد من قوى المصالح الدولية.. دعونا لا نتناسى ما حدث في استفتاء 19 مارس 2011 (غزوة الصناديق!!).. وأن نتذكر تدفق أموال غربية وعربية على مصر لاستمالة أطراف جديدة.. اصطف هؤلاء لدعم حالة "ثورة دائمة"، كانت أكثر وضوحًا من أن يتم التعتيم على أهدافها، والتمويه على مراميها.
بالشفرة العلنية بين الشعب والمؤسسة العسكرية (الضامنة لعملية انتقال سلمي، آمنة ومنضبطة) جرى تجاوز أخطر المراحل التي مرّت بها مصر في تاريخها الحديث.. تم ذلك بأقل تكلفة اقتصادية واجتماعية وسياسية وأمنية ممكنة، استنادًا لخطة واضحة ومتكاملة، ووفقًا لجدول زمني محدد.. في الطريق، إلى الخروج الآمن هناك من لم يفهم هذه الشفرة (على علنيتها).. هؤلاء كان لهم رأي آخر.. وصلوا إلى السلطة في ظروف استثنائية.. مصلحة جماعة الإخوان (والقوى التابعة لها، والمتحالفة معها) غذّت حالة تناقض بين الاستدعاء الشعبي للمؤسسة العسكرية، للخلاص من هاوية كانت تنتظر الدولة المصرية، وعمليات ممنهجة تمّت لاحقًا للوقيعة بين المؤسسة وجموع شعبية.
حالة تشتيت مصنوعة تعرضت لها شرائح وقطاعات بين الرأي العام (في ظل غياب واضح لدور النخب المثقفة التي هي عقل المجتمع، وعملية اختراق أجهضت المجتمع المدني).. المخططون لمؤامرة تفكيك مصر أدركوا منذ البداية خطورةَ شعار: "الجيش والشعب إيد واحدة".. زيادة هتافات المصريين بالشعار نفسه لم تأتِ من فراغ.. القوات المسلحة لا تدفع لشركات علاقات عامة دولية أموالًا لتحسين صورتها (كأحزاب، وجماعات عابرة للحدود).. تكتفي فقط بإرثها الوطني- البطولي، ونصرتها الدائمة لنبض الوطن.. يكفي جهودها لوقف عمليات البيع المنظم لمصانع وشركات تمثل الدعم والسند للاقتصاد القومي، ومعارضتها العملية لمشروع توريث الحكم (الممتد بين ٢٠٠٢- 2010) ونتائجه الكارثية.
تكتسب المؤسسة العسكرية مصداقيتها من إرث طويل وممتد.. من حماية لمقدرات المصريين، وحماية تطلعاتهم.. ورغم كونه جزءًا من المؤسسات الرسمية إلا أنه لم ينزلق يومًا لمساحات الجدل، بل يظل دائمًا يتمترس خلف موقف حضاري تعززه التركيبة القيادية (في مستوياتها العليان والمتوسطة، حتى أقل رتبة عسكرية) ظلت دائمًا تحافظ على السجل الحافل للمؤسسة وسط الشعب، بعقلانية التصرف، وأن تنأى بنفسها عما يمكن وصفه بـ"الفساد" و"الإرهاب"، ومن ثم بادلها الشعب الشعور والموقف نفسه.
بالشفرة العلنية، أجهض الشعب مخططًا خبيثًا، حاولت قوى داخلية وخارجية تحويله إلى واقع.. كانوا يرغبون في تفكيك القوات المسلحة (أكبر قوة عسكرية في المنطقة، فضلًا عن تصنيفها المتقدم عالميًا) وتحويلها إلى مجرد فِرَق لمحاربة الإرهاب.. إنها حصافة المصريين التي تدرك أن الجيش (إلى جانب مؤسسة أخرى) الظهير الأهم في الحفاظ على الدولة، فى مواجهة عالم يتآمر على السيادة الوطنية.. هذه المحاولات لم تتوقف حتى الآن.. ما يحدث في سيناء من عمليات استعراضية وجه آخر للمؤامرة، دفعت الرئيس لمطالبة القوات المسلحة بسرعة الحسم.
المصريون يدركون قيمة وأهمية القوات المسلحة، ودورها فى كل الأحداث الكبرى التى مرّت بها مصر (طرد الاحتلال/ الاستعمار عام ١٩٥٢.. تأسيس وإعلان الجمهورية.. الانتصار المؤزر والأكبر فى الصراع العربي الصهيوني عام 1973.. تحريرها لكامل التراب الوطني، وحفاظها على الحدود).. تتحمل مسئولياته في تأمين الداخل، ليس ضد محاولات انفلات (تتحين الفرص لاستهداف المؤسسات والممتلكات العامة والخاصة) لكن عبر التأمين الاجتماعي، القائم على تعزيز عملية التنمية الشاملة.. وسط هذا وذاك تستمر "الشفرة العلنية" بين القوات المسلحة والشعب عصية على كل محاولات الرصد والتحليل، لأنها شعور معنوي راسخ فى ضمائر المصريين، لا فرق بين من هم داخل المؤسسة أو من هم خارجها.