يأتي التحرك المصري تجاه الأزمة اللبنانية في توقيت حاسم وشديد الحساسية، ينذر بتفاقم محتمل للأوضاع في الإقليم، خاصة بعد توجيه المملكة العربية السعودية اتهامات لحزب الله وطهران بدعم الحوثيين ومساعدتهما في إطلاق صاروخ باليستي على الرياض. في الإطار نفسه، تصاعدت الاتهامات من الجانب اللبناني للسعودية بأنها تحتجز الحريري، وتضعه قيد الإقامة الجبرية. وتزايد تأزم الأوضاع مع التحركات الأخيرة لعدد من الدول الخليجية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، التي دعت خلالها رعاياها إلى مغادرة لبنان. وفي إطار هذا التصعيد الذي ينذر بانفجار وشيك يهدد أمن واستقرار المنطقة، اتجهت الدبلوماسية المصرية إلى محاولة خلق توافق في الرؤى بين مختلف الدول العربية الفاعلة في هذا الإطار، من خلال مجموعة من التحركات الدبلوماسية المكثفة. وبتكليف من الرئيس عبد الفتاح السيسي، اتجه وزير الخارجية سامح شكري للقيام بجولة لإجراء محادثات في ست دول عربية، على رأسها المملكة العربية السعودية، في هذا الصدد. وتعلق آمال عدة على التحرك المصري الذي يعد بارقة أمل لإمكانية الوصول لحلول للأزمة بعيدا عن التصعيد، والوصول إلى تفاهمات بين حزب الله وتيار المستقبل اللبناني. ولعل التحرك المصري تجاه الأزمة اللبنانية ليس هو الأول من نوعه، فقد لعبت مصر دورا ملموسا وفاعلا في العديد من المراحل الحاسمة التي مرت بها الدولة اللبنانية.
دوافع التحرك المصري في الأزمة اللبنانية:
جاء التحرك المصري السريع حيال الأزمة اللبنانية في توقيت حاسم وشديد الأهمية. وقد استندت التحركات المصرية إلى عدد من الدوافع المهمة، وعلى رأسها:
الأمن اللبناني محدد مهم لأمن المنطقة: لا شك في أن ما يحدث في لبنان سوف ينعكس بصورة مباشرة على أمن المنطقة بشكل عام، خاصة في ظل الحدود المشتركة التي تربط بين لبنان وسوريا، بالإضافة إلى ما يربط حزب الله من مصالح وعلاقات متشابكة مع النظام السوري، وتدخله المباشر في مشهد الصراع السوري. ويتزايد تعقد المشهد عند التطرق للدعم الإيراني لحزب الله، وحالة الاحتقان التي يشهدها الإقليم نتيجة للتدخلات الإيرانية، ومحاولات فرض النفوذ التي تبذلها إيران من خلال العديد من التحركات والتصريحات الاستفزازية التي تسعى العديد من الدول المتضررة إلى التصدي لها. ومن هنا، قد تمثل أزمة لبنان نقطة انطلاق قد تؤدي إلى تفجر الوضع الإقليمي ليشهد حربا طائفية، تكون طهران هي المستفيد الأول منها.
التحرك هو جزء من الدور الإقليمي الفاعل الذي تسعى مصر للقيام به، خاصة في ظل ما حققته الدبلوماسية المصرية من نجاحات ملحوظة في العديد من الملفات الاقليمية، وعلى رأسها الملف الليبي، وملف المصالحة بين حركتى فتح وحماس. ويحمل التحرك المصري رسالة مباشرة إلى طهران تتضمن سعي الدول العربية للتدخل لتسوية الأزمة اللبنانية، وقطع الطريق أمام التحركات التي تسعى لتعزيز الاستقطاب في المنطقة العربية. ولعل وقوف مصر كطرف محايد من الأزمة يدعم تحركاتها في هذا الاتجاه، خاصة في ظل علاقاتها المستقرة مع مختلف أطراف الأزمة.
الحد من محاولات التصعيد، فلا شك فى أن لبنان قد تحول إلى مسرح للتنافس بين عدد من القوى الشرق أوسطية والدولية، وهو التنافس الذي قد يؤدي بلا شك إلى الإضرار باستقرار الدولة التي حرصت على تحقيق درجة من التوازن الداخلي بين مختلف القوى السياسية، ووصلت إلى صيغة من التفاهم صارت الآن في موضع تهديد مع التطورات الأخيرة للموقف، والذي لا شك في أنه سوف ينعكس بصورة مباشرة على استقرار الاقليم الذي يعاني العديد من الاضطرابات التي يصعب احتواؤها.
وقد بدا موقف مصر واضحا في هذا الاتجاه فيما صرح به الرئيس عبد الفتاح السيسي، في مقابلة مع شبكة (سي.إن.بي.سي) الإخبارية، في رد على سؤال بشأن ما إذا كانت مصر ستدرس اتخاذ إجراءات خاصة بها ضد حزب الله أم لا، بأن الموضوع لا يتعلق باتخاذ إجراءات من عدمه، مضيفا أن "الاستقرار في المنطقة هش في ضوء ما يحدث من اضطرابات في العراق، وسوريا، وليبيا، واليمن، والصومال، والدول الأخرى وبالتالي فنحن في حاجة إلى المزيد من الاستقرار، وليس عدم الاستقرار". وتابع قائلا "المنطقة لا يمكن أن تتحمل المزيد من الاضطرابات".
التشاور والتنسيق بين مصر والأشقاء في الدول العربية: بدا بوضوح السعي المصري نحو التشاور مع الدول العربية ذات الفاعلية، والأطراف المؤثرة في الموقف اللبناني في التحرك الدبلوماسي المصري الذي شمل ست دول رئيسية وفاعلة في الملف، شملت كلا من: (المملكة العربية السعودية، والأردن، والإمارات، والكويت، والبحرين، وعُمان) للتشاور، والتنسيق، والوصول إلى تفاهم مشترك يحول دون تفاقم الأوضاع وتصعيدها، خاصة الدول التي وجهت رسائل إنذار مباشرة تضمنت حثّ رعاياها على مغادرة الأراضي اللبنانية تحسبا لتصعيد محتمل، وهو ما انعكس سلبا على مسار الموقف، ودفع الأوضاع إلى مزيد من التأزم.
دلالات التحرك والموقف المصري من الأزمة اللبنانية:
تقوم السياسة الخارجية المصرية على مجموعة من الثوابت الراسخة في التعامل مع مختلف الأزمات التي يشهدها الاقليم، وهي الثوابت التي لم تتغير، وبدت بوضوح في المواقف المصرية والتصريحات الرسمية المصرية بأنها لن تتخلى في تعاملها مع الأزمة اللبنانية عن تماسك الدولة واستقرارها لدعم استقرار الإقليم. وأهم هذه الثوابت:
رفض التصعيد العسكري: إن موقف مصر في هذا الاتجاه لا يزال ثابتا ضد أي حلول عسكرية، ودعم السلام والحوار والتسوية السلمية لأي نزاع أو سوء فهم، وهو ما صرح به المتحدث باسم الخارجية المصرية، الذي أكد أن سياسة مصر الثابتة والراسخة تقوم على الدفع بالحلول السياسة للأزمات مع رفض مختلف أشكال التصعيد، خاصة التصعيد العسكري، وذلك لتفادي نتائج التصعيد من توترات واستقطاب، وعدم استقرار. وقد بدا الموقف المصري واضحا في تصريحات الرئيس عبد الفتاح السيسي بأن مصر لا تفكر في اتخاذ أي إجراءات تصعيدية ضد حزب الله.
جدير بالذكر أنه لا يوجد هناك تعارض مع الموقف المصري الراهن، وما أعنه الرئيس عبد الفتاح السيسي حول التحرك المصري، حال تعرض أمن الخليج للخطر، وإن كانت السياسة الخارجية المصرية تسعى إلى إعلاء الحلول السلمية، والحد من الاتجاهات التصعيدية حفاظا على أمن الإقليم.
دعم تماسك الدولة الوطنية: يبدو من المواقف المصرية حيال الأزمات الاقليمية حرصها على تماسك الدولة الوطنية ورفضها تبني مواقف سياسية بدافع عرقي أو طائفي، وهو موقف ثابت وراسخ لم يتغير، وتطبقه مصر على مختلف تحركاتها الإقليمية والدولية، ويبدو في دعمها للجيوش النظامية، والحفاظ على المؤسسات السياسية والعسكرية الوطنية داخل الدول، والرفض القاطع لسياسات التقسيم. ومن هنا، يبدو بوضوح رفضها لأي تدخلات من شأنها أن تثير انقسامات داخلية. فقد أبلغ الرئيس السيسي رئيس البرلمان اللبناني نبيه بري بـ "أن مصر تعارض أي تدخل في الشئون الداخلية للبنان"، منوها إلى "أن اللبنانيين فقط هم المعنيون بالتوصل إلى الصيغة السياسية التي يرتضونها". ولعل التحرك المصري الأخير حيال الأزمة اللبنانية يأتي قائما على أساس السعي للحفاظ على وحدة الداخل اللبناني وتماسكه، وإعاقة أي تدخلات خارجية لمحاولة التصعيد التي قد ينجم عنها استقطاب وصراعات مذهبية.
التضامن العربي لمواجهة الأزمات الإقليمية المختلفة: في ضوء التصعيد المحتمل الذي بدت ملامحه في القرارات التي اتخذتها السعودية، والإمارات، والبحرين، والكويت، بدعوة مواطنيها لمغادرة لبنان، وهو ما يعد بمنزلة مؤشر على احتمالات وقوع تطورات أمنية، وإجراءات تصعيدية قادمة قد تفضي لحرب سنية- شيعية في الإقليم، بدت الحاجة إلى تدخل قائم على التحرك المتزن لإعاقة التصعيد المحتمل من مختلف الأطراف. ومن هنا، تأتي أهمية التدخل المصري لخلق موقف عربي موحد حيال الأزمة، من خلال دعم التوافق بين الأطراف المختلفة في مواجهة القوى التي تسعى إلى إشعال فتيل الفرقة والاستقطاب، وتقسيم المنطقة إلى محاور متقاتلة بدوافع عرقية ومذهبية.
وسيط محايد: لعل أبرز ما يميز التدخل المصري في الأزمة اللبنانية كونه يتسم بالحيادية، حيث تقف مصر على مسافة متساوية من مختلف أطراف الأزمة، بالإضافة إلى علاقاتها القوية مع مختلف الأطراف الإقليمية الفاعلة، وثقلها الإقليمي، وهو ما يدفعها لأن تحدث تأثيرات ملموسة في المحافظة على الاستقرار والتماسك الداخلي اللبناني، وهو جزء من استراتيجية حرصت السياسة الخارجية المصرية على ترسيخها، وتهدف بصورة رئيسية لتقليل التوترات والاحتقان في المنطقة العربية.