اختتمت روسيا، في سبتمبر 2017، مناورات "زاباد 2017"، أو "غرب 2017"، التي استمرت أسبوعا كاملا، وشارك فيها كل من روسيا البيضاء "بيلاروسيا"، وعدد من دول شرق أوروبا.
أجريت تلك المناورات على الحدود الروسية الغربية المطلة على دول البلطيق وبولندا، مما أثار مخاوف تلك الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، الذي أكد مسئولوه أن الحلف سيتابع هذه المناورات عن كثب، حتى لا تستغلها موسكو لضم أجزاء جديدة من دول البلطيق.
قلق غربي:
ثمة عدة عوامل تتسبب في القلق الغربي من المناورات، لعل أهمها:
طبيعة المناورات: أصدرت وزارتا الدفاع الروسية والبيلاروسية بيانا مشتركا، أوضح أن مناورات "غرب 2017" بدأت في تسعة حقول تدريب، تمتد بمحاذاة حدود البلدين مع دول شرق أوروبا، ستة منها داخل أراضي بيلاروسيا، وثلاثة في روسيا. وتقوم هذه المناورات على محاكاة ظروف معركة حقيقية لتعزيز التنسيق والتعاون بين قوات البلدين ضد خطر خارجي. وقد شارك فيها أكثر من 12 ألف عسكري بيلاروسي، وسبعة آلاف روسي، أجروا تدريبات على 70 مقاتلة ومروحية، و680 آلة وعربة عسكرية، بما فيها 250 دبابة، و200 مدفع، و10 سفن حربية، إضافة إلى عدد كبير من راجمات الصواريخ والقاذفات المحمولة على العربات. ورأـت موسكو ومينسك (عاصمة بيلاروسيا) المناورات تعزيزا للتعاون المشترك بينهما، وتنفيذا للاتفاقات الموقعة في إطار الاتحاد الروسي– البيلاروسي، الذي أقر سياسات خارجية وأمنية ودفاعية موحدة.
دلالات معنوية: مناورات "غرب 2017" تحوز أهمية معنوية كبيرة داخل المجتمع الروسي، فهي أضخم مناورات تجري على مدى العام، وتسمى مناورات الخريف، وبدأت في الستينيات من القرن العشرين خلال مرحلة الحرب الباردة كنوع من استعراض القوة، وكان يشارك فيها كل دول الاتحاد السوفيتي السابق، وتوقفت تلك المناورات منذ عام 1990، ثم عادت موسكو لإجرائها مرة أخرى عام 1999. وخلال العام الجارى، شاركت فيها بيلاروسيا الدولة المؤيدة لعودة الاتحاد الروسي مرة أخرى.
تفوق روسي على الناتو: تؤكد المناورات تفوق روسيا ميدانيًا قوات الناتو، حيث يفوق عدد الجنود الروس المشاركين فيها مثيلهم في الناتو بأكثر من 1500 جندي. وقد يكون الرقم الحقيقي للمشاركين في تلك المناورات أعلى بكثير مما هو معلن، حيث يرجح خبراء عسكريون أوروبيون أن العدد الحقيقي المشارك في المناورات يبلغ نحو 100 ألف جندي، وأن موسكو أخفت العدد الحقيقي حتى لا تلتزم بالسماح للمراقبين الأجانب بحضور تلك المناورات على نحو ما تمليه التزاماتها كعضو في منظمة الأمن والتعاون الأوروبي.
الموقع الجغرافي: اختيرت الحدود الغربية الروسية لتكون موقعًا لإجراء المناورات، وهي الحدود المطلة على دول البلطيق (استونيا، ليتوانيا، لاتفيا) وبولندا، حيث يبلغ طول الحدود المشتركة بين تلك الدول وروسيا نحو 100 كم. وإذا كانت دول البلطيق هي الدائرة الأضعف في إقليم "الناتو"، فإن هذه الحدود هي أضعف نقطة فيها. وتخشى دول البلطيق من تكثيف الوجود العسكري الروسي على حدودها، مما يمثل تهديدًا مباشرًا لها، وربما تقوم موسكو بضم جزء من أراضيها لروسيا كما فعلت مع جزيرة القرم عام 2014، خاصة وأن قوات "الناتو"، بالإضافة إلى كتائبها المتعددة الجنسية المتمركزة في (استونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، وبولندا) وعدد الجيوش المحلية في تلك الدول، تعد الأقل عدداً وكفاءة من القوات الروسية التي يمكن أن تهاجم تلك الدول حال أرادت موسكو.
تكثيف الوجود العسكري الروسي: تكثف موسكو من وجودها العسكري، برا وبحرا وجوا، في المناطق الحدودية المتاخمة للدول الأوروبية، حيث أجرت خلال عام 2017 عدداً كبيراً من التدريبات عالى المستوى في المناطق العسكرية الغربية والجنوبية، التي تقع على الحدود مع دول الناتو (البلطيق) وأوكرانيا. وكذلك تكثف من وجودها العسكري شرقًا في المناطق التي تحتضن مواقع تدريبات مهمة على الحدود مع منغوليا، والصين، وكوريا الشمالية. ويجري الناتو تدريبات أقل في دول البلطيق من التدريبات الروسية ومعظم عمليات الحلف تدور في ألمانيا، حيث تتمركز غالبية القوات الأمريكية في أوروبا.
التصعيد العسكري الروسي- الأمريكي بالبلطيق: تعد مناورات "زاباد 2017" حلقة في سلسلة حلقات من التصعيد العسكري المتبادل بين موسكو وواشنطن، الذي كان مسرحه دولة البلطيق خلال عام 2017. ففي يونيو 2017، اعترضت مقاتلة روسية من طراز (سوخوي – 30) طائرة تجسس أمريكية اقتربت من الحدود الروسية فوق البحر الأسود. ووجهت المقاتلة الروسية تحذيراً إلى قائدها قبل اختراق الأجواء، مما دفعه إلى تغيير مسارها والابتعاد. وأعلنت وزارة الدفاع الروسية في يوليو 2017 أن مقاتلة من طراز "سوخوي – 27" اعترضت فوق بحر البلطيق قاذفة استراتيجية أمريكية اقتربت من الحدود الروسية، وأجبرتها على مغادرة المنطقة. أتى ذلك كرد فعل من موسكو التي اعترضت على انضمام "مونتينيجرو". كما شهد يوليو 2017 أيضا إجراء استونيا مناورات عسكرية بمشاركة قاذفات استراتيجية أمريكية من طراز (بي – 1، بي – 52)، في إطار تدريبات مشتركة يجريها الحلف الأطلسي في بحر البلطيق، مما استفز موسكو، التي قامت بدورها بالإعلان عن إجراء "مناورات زاباد 2017" على حدود دول البلطيق للرد على استفزاز الناتو وواشنطن المستمرين لها.
ردود الفعل:
روسيا: سعت موسكو إلى تبديد مخاوف دول الناتو من إجراء مناورات "زاباد 2017"، وأكد نائب وزير الدفاع الروسي، ألكسندر فومين، أن المناورات لا تستهدف بلدان الأطلسي، وأن بلاده لن تسعى لأي تصعيد عسكري، واتهم الناتو بأنه نشر قواته قرب الحدود الروسية قبل هذه المناورات في دول البلطيق. وهو ما حدث بالفعل، حيث نشر الحلف أربع كتائب (4000 جندي) في دول البلطيق. كما أكد "فومين" أن المناورات مخطط لها مسبقاً، وليست اعتداء كما يزعم عدد من الدول.
بيلاروسيا: في مسعى منها لتهدئة حلف "الناتو"، وجهت دعوات إلى مراقبين من سبع دول هي (أوكرانيا، وبولندا، وليتوانيا، ولاتفيا، واستونيا، والسويد، والنرويج) لحضور المناورات والتأكد من طبيعتها غير العدائية، وهو ما حدث بالفعل. وحضر عدد من المراقبين لمتابعة سير المناورات.
بولندا ودول البلطيق: وهي الدول الأكثر تأثرًا وخوفًا من طبيعة المناورات، نظرًا لأنها تجري على حدودها. فقد دعت رئيسة الوزراء البولندية، بياتا ماريا سيدلو، حلف الناتو للتكيّف مع "التهديدات الجديدة" الممثلة في المناورات "الروسية- البيلاروسية" وخطر الإرهاب، بينما أصدرت وزارة الدفاع في ليتوانيا تقريراً عن التهديدات الموجهة إلى الأمن الوطني بالبلاد رأت فيه أن تدريبات "زاباد2017" تشكل خطراً مميزاً على أمنها القومي، الأمر الذي اعترضت عليه موسكو ومينسك. ومن جانبه، أعرب رئيس الوزراء الاستوني، يوري راتاس، أكثر من مرة عن قلقه من طبيعة التدريب الروسي، واتهم موسكو بعدم الشفافية في التعامل مع "الناتو".
حلف الناتو: أكد الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرج، أن الحلف سيراقب بدقة مناورات "زاباد 2017" للتحقق من احترام الجانب الروسي التزاماته بتوخي الشفافية خلال التدريبات العسكرية، واتهم موسكو بتقويض الاستقرار والأمن في أوروبا، لأنها قامت عام 2014 بضم القرم بشكل غير قانوني، وتعد تصريحات ستولتنبرج ضد موسكو اتهامات مباشرة أدت لتوتر في العلاقات بين الطرفين. ومن جانبها، اتهمت وزيرة الدفاع الفرنسية، فلورانس بارلي، موسكو باتباع استراتيجية ترهيب ضد دول الناتو، بينما وصفت نظيرتها الألمانية، أورسولا فون دير ليين، المناورات "باستعراض القوة".
وقد قامت واشنطن بإرسال طائرتين قاذفتين من طراز (بي 52) قادرتين على حمل أسلحة نووية إلى دول البلطيقبغية تعزيز انتشار القوات الأمريكية على الحدود الروسية - الأوروبية قبل بدء المناورات. كما أرسلت كإجراء احترازي، ما يقرب من 600 جندي مظلي خلال فترة التدريبات "زاباد 2017" تولت حراسة المجال الجوي لليتوانيا، ولاتفيا واستونيا التي تفتقر إلى القوات الجوية وأنظمة الدفاع الجوي.
من الطرح السابق، نجد أن، موسكو تسعى لإرساء موازين جديدة للقوة العسكرية في أوروبا، اعتمادًا على قوتها ونفوذها المتصاعدين، لتغير بذلك موازين القوة التي فرضت عليها عقب تفكك الاتحاد السوفيتي، وتدشن لنظام عالمي جديد يكون متعدد الأقطاب تكون هي أحداه باعتراف دولي.