الهدف من هذا العنوان كما ذكرنا في المقال السابق، هو تفسير كيفية الوصول بالناتج القومي المصري إلى تريليون دولار فى المرحلة الأولى لنمو الاقتصاد الوطني، وهذا لن يتأتى بسهولة، بل يحتاج إلى فكر، ثم تخطيط، يليه تنفيذ دقيق جدا. المؤكد أن بناء مصر يحتاج إلى تطوير قطاعات جديدة، قد تكون جزءا رئيسيا في إدارة عجلة الاقتصاد القومي، وما تقوم به الدولة من مشروعات. وتتمثل أهم هذه القطاعات في التعليم، والسياحة، وقطاع الاتصالات والمعلومات، وغيرها، وسوف نتطرق إلى تفصيل ذلك، ونبدأ بقطاع التدريب المهني في مصر.
قطاع التدريب المهنى:
يعد تدريب الكوادر البشرية الفنية أحد أهم تروس المنظومة التنموية بالكامل لإعادة الأمور إلى نصابها الصحيح. فبعد تدهور الأوضاع في التعليم الصناعي، والذى وصل به الحال إلى أنه أصبح قطاعا عقابيا لمن لم يحصل على معدل تقييم جيد، ثم يتحول الطلاب بداخله إلى مجرمين ومدمنين، وبعضهم اتجه إلى التطرف، ويؤكد ذلك معدلات الجريمة فى المعاهد المختصة بعلم الجريمة، حيث لا توجد أدوات، ولا معدات للتدريب، ولا إدارة، ولا مدرسون. وتتمثل أهم أدوات تطوير التعليم الفني وتنمية المهارات في:
مشروع مبارك – كول:
من المفترض أن يكون البداية الصحيحة للتدريب الفنى فى مصر، لكن للأسف الشديد كل نجاحات هذا المشروع، على صفحات الجرائد فقط، أما على أرض الواقع، فلا يوجد شئ. الطلاب الذين كانوا يذهبون للتدريب الفنى فى المصانع، كانت تستخدمهم المصانع في أعمال النظافة، وبالتالى تحولت إلى ما يشبه المدارس الصناعية المصرية .
الأكاديمية الوطنية للتدريب:
هى أكاديمية حديثة صدر قرار جمهورى بإنشائها في مدينة السادس من أكتوبر، ومن المفترض أنه قد تم إعداد المناهج الخاصة بها على أن تبدأ العمل الفعلى قريبا. وكم كنت أتمنى أن تخضع للهيئة الهندسية للقوات المسلحة، وتكون تحت إدارة صارمة لضمان نجاحها، لأن هذه الأكاديمية يتوقف عليها مستقبل دولة بالكامل، وشعب سيصل تعداده إلى 150 مليون نسمة تقريبا عام 2050.
التعليم الصناعي أو المهنى:
يجب أن يتواكب معه نهضة مجتمعية ترفع من شأنه، لأن المجتمع المصري كان فاقد بوصلة الصواب منذ عقود طويلة، نتج هذا عن عقود من التهميش، والتجهيل المتعمد للدولة المصرية بالكامل، خاصة فيما يتعلق بالأيدى العاملة المدربة، التي تعد أقوى تروس إدارة الاقتصاد في مصر وغيرها.
قطاع التعليم العام والعالى:
يصطدم تطوير هذا القطاع بمنظومة بشرية بداخله، غير قابلة للتطوير، بالإضافة إلى وجود نظم إدارية عقيمة تقف عقبة فى طريق التطوير، وحتى التشريعات، والقوانين التي من المفترض تعديلها تصطدم، أيضا، بمنظومة تشريعية ليس لدي عناصرها الإدراك الكامل لخطورة ما يتصدون له.
لمن لا يعلم أن قطاع التعليم يمثل إحدى أهم محميات تنمية عقول الدول التى ترغب في النهوض من كبوتها، والاستيقاظ من غفلتها، لكن هناك من يعملون عكس توجه الدولة، ويريدون استمرار الأوضاع كما هى، إما لأغراض مصالح شخصية مباشرة، أو غير مباشرة، وفى كل الحالات يجب التخلص الفورى منهم لعودة الأمور إلى نصابها الصحيح. حيث إن التعليم، يمثل في الوقت الراهن أحد مصادر الدخل القومي لدول كثيرة، فهو صناعة مؤسسية أيضا، وهذا ما يجب أن يدركه المخطط المصرى.
قطاع التنمية التكنولوجية والمعلومات:
تمثل صناعة تكنولوجيا المعلومات، أو ما يطلق عليها البرمجيات الإلكترونية للدول التي ترغب فى أن تلحق بقطار الثورة الصناعية الرابعة، كما تعد هذه الصناعة أحد مصادر الدخل القومي لدول متعددة. وتعد الهند، التى تجاوزت صادراتها 60 مليار دولار من البرمجيات، إحدى أهم هذه الدول، وبالطبع وصلت الهند لهذا الرقم بفضل إقدامها على الاستثمار في هذا القطاع برؤية استشرافية للغد واحتياجاته. لذلك من الضروري أن تكون المناطق التكنولوجية، التى أعلنت عنها الدولة المصرية، بداية تمركزها فى الشرق الأوسط لصناعة ضخمة، تضع في خطتها النموذج الهندى في تلك الصناعة .
قطاع السياحة:
لا تزال مصر عاجزة تماما عن استثمار ما تملك فى هذا القطاع، الذى يمثل روح مصر الحضارية والثقافية، حيث التنوع الحضارى والثقافى بين الحضارة الفرعونية، والتى تميز مصر عن كل دول العالم، حيث تعد مصر، الدولة الوحيدة التى يوجد باسمها علم هو علم المصريات، بالإضافة إلى أن مصر تمتلك نحو خمس آثار العالم، منها الفرعونى، والرومانى، والقبطى، والإسلامى، وسياحة الشواطئ، وسياحة السفارى عبر الصحارى، ومع كل هذا لم يتعلم المصريون صناعة السياحة، بمن فى ذلك المسئولون على مدار عقود طويلة، بل تم إبلاء الأمور لغير أهلها دائما.
وإذا كنا نود أن نتحدث عن السياحة فى مصر، فيجب أن نعمل على برنامج واضح من الآن، ولا مانع أن تشارك فى إعداده، وتصميمه مؤسسات دولية متخصصة للوصول بعدد السياح إلى 200 مليون سائح، بحلول 2050، وخلاف ذلك، فإننا سنظل نترنح وننتقل من فشل إلى فشل لا نرغب فيه نهائيا ولا ترغب فيه الدولة المصرية.
قطاع الإتصالات:
بغض النظر عن تبعيته لإحدى الوزارات المصرية، فإن إدارة هذا القطاع الحيوي في مصر تفتقر إلى الفكرة التنافسية بين الشركات العاملة في هذا المجال، من حيث جودة الخدمات الفنية، أو المنافسة السعرية، أو المزايا، بل التركيز دائما على نسبة الدولة والتى يمثلها جهاز إدارة الاتصالات.
لقد تركت الدولة هذا القطاع الحيوي دون تنمية، وأدخلت القطاع الخاص على أمل أن تحديثه وتنميته، لكن للأسف الشديد، بعد عقود تراجعت الأمور بشكل كبير عوضا عن تقدمها، وحتى الآن لم أعرف إجابة عن هذا السؤال: لماذا تتخلى دولة عن قطاع رابح، وتلقى به فى براثن الغير إلا إذا كان الأمر غير طبيعي، وبعيدا عن فكرة توجه إدارة الدولة يمينا أو يسارا؟.
أتمنى أن تكون عودة الدولة إلى القطاع مرة أخرى بداية مبشرة، ليس لجنى الأرباح والأموال فحسب، بل لتحسين مستوى الخدمة، وإنفاق استثمارات جديدة على مستوى الخدمات والهواتف الثابتة، والهواتف المحمولة، والذكية التى يعانى مستخدموها من سوء الخدمات فى معظم الأوقات.كما أرجو أن يكون لدى هذا القطاع رؤية واعدة بطرح اكتتاب للاستحواذ على شركات أخرى عاملة داخل السوق المصرى عن طريق الشركة القابضة للاتصالات.
قطاع الطاقة:
البترول:
يحظى هذا القطاع الحيوي باهتمام بالغ من القيادة السياسية العليا للبلاد، ويعول عليه بما يملك من خبرات وكوادر، وما يتمتع به من بنية تحتية مهمة، تؤهله في المرحلة القادمة للعب دور بارز في معادلة الموازنة العامة للدولة. حيث إن الاتفاقيات الجديدة الموقعة، والحقول التي تم اكتشافها تبشر بأمل كبير على الصعيد الوطني قد تساعدنا على تحقيق الاكتفاء الذاتى من الغاز الطبيعي، ثم فى مرحلة لاحقة من النفط بما يخفف عبئا كبيرا على الموازنة العامة للدولة، واستخدام كل تدابير النقد الأجنبي للاستيراد وتوجيهها لقطاعات أخرى أكثر احتياجا، ثم إلى الهدف الأكبر وهو إيجاد أسواق خارجية لصادرات الغاز الطبيعي المصرى بحلول 2020، أو على الأقل توقيع عقود تصدير آجلة فى هذا العام.
ورغم التطور في استكشافات الغاز الطبيعي، إلا أننا لا نزال في حاجة ملحة لضخ استثمارات جديدة في توصيل الغاز الطبيعي للمنازل، وكذلك فتح آفاق جديدة، وفكر جديد، لتوزيع اسطوانات الغاز الطبيعي عن طريق وزارة البترول بسعر موحد، وليس عن طريق وزارة التموين، التى يعقبها فى التوزيع عدة وسطاء لتصل الاسطوانة للمستهلك بأضعاف السعر.
إذا كانت وزارة التموين تملك 1000 منفذ تقريبا لتوزيع اسطوانات الغاز على مستوى الجمهورية، فإن وزارة البترول تتعامل مع أكثر من 4000 محطة على مستوى الجمهورية، فأيهما أيسر، وأفضل، وأرقى، من هنا أعود مرة أخرى لأتحدث عن الفكر الذي يعد أهم أدوات إصلاح الاقتصادات البطيئة.
الكهرباء:
مما لا شك فيه أن قطاع الكهرباء في مصر يمر بمرحلة تحديث، وإنشاءات غير مسبوقة، ليس فى مصر فقط، بل على مستوى الشرق الأوسط بأسره، وبعض الدول المتقدمة فعليا. لكن قطاع الكهرباء لديه مشكلة كبرى في التعامل مع الجمهور، سواء على مستوى وحداته، التى تتعامل مع الجمهور في التعاقدات، أو فى الأعطال، أو الإدارات التى تصدر فواتير الكهرباء. هناك خلل كبير فى مسألة ربط التسعير بالاستهلاك الفعلى، وهذا الخلل، إما فى القراءات، أو فى قرار بأن هناك متوسط استهلاك إلزامى على الجميع، وذلك إذا كان صحيحا، يجب أن تصارح به الوزارة، والحكومة وبصورة مباشرة. وإذا لم يكن صحيحا فلتكن القراءات الكشفية إلكترونية مرتبطة بين الكشاف ومراكز الرصد، سواء في الحال أو بالعودة لاحقا للإدارة، حتى نتجنب الخلل الذى يدفع إلى مزيد من الغضب والاحتقان.
قطاع الطاقة الجديدة والمتجددة:
الطاقة الشمسية .. طاقة الرياح:
لابد من أن نصل بإنتاج هذا القطاع فى غضون 5 سنوات إلى إنتاج ما يربو على 60% من احتياجات مصر من الطاقة النظيفة، ونحافظ على هذا المعدل ونستثمر فيه للحفاظ عليه، حتى مع ارتفاع الاستهلاك بسبب زيادة عدد السكان، وتصدير الفائض منها، لأن إضافة الفائض لقطاع التصدير تعد رقما جديدا للصادرات المصرية، وكذلك إضافة للناتج القومى.
قطاع الطاقة النووية:
هو الحلم القديم الجديد لمصر، ونترقب توقيع العقد النهائي للمحطة الأولى مع الجانب الروسى، حيث يمثل ذلك مستقبلا كبيرا لمصر، سواء فى قطاع الطاقة أو تطوير منتجات أخرى، كما أن سرعة الإنجاز لكامل المشروع تمكننا من التصدير المباشر عن طريق شبكات الربط الموحد، أو بإنشاء خطوط ربط مستقلة.كما يجب التفكير بمشروع مماثل للضبعة النووى بالجنوب الشرقي لمصر، ومشروع آخر فى الشمال الشرقي.
قطاع التعدين والثروة المحجرية:
تعد مصر الدولة الثالثة فى العالم من حيث ثروتها المحجرية، والتى لم تستغلها بعد، ولم تُسن قوانين تمكن الدولة المصرية من تنظيم العمل بها، فليس من المقبول أن تستمر الدولة بالعمل بقانون صادر عام 1956.
قطاع الصحة:
منذ عقود يكافح المواطن المصرى للحصول على خدمة مميزة بتكلفة تناسب إمكانياته المحدودة، أو البحث عن شركات للتأمين تقدم خدمات علاجية، وللأسف الشديد هذه الخدمات غير موجودة إلا عن طريق نقابات معينة، ولا تزال المستشفيات العامة مهملة من عقود طويلة. ويأمل المواطنون في الانتهاء من قانون التأمين الصحي الجديد للتخلص من الإتجار بهم، وبأرواحهم فى مؤسسات طبية غير مسئولة. ورغم أهمية ما أشرنا إليه في قطاع الصحة، إلا أن الأمر ليجب أن يتوقف عند هذا الحد، بل يجب جذب استثمارات مباشرة جديدة لإنشاء مدن طبية متخصصة في كافة التخصصات العلاجية لأن الطب أصبح صناعة، وهو أحد مصادر الدخل القومي لبعض الدول. على سبيل المثال، تايلاند تستقبل سنويا 2.5 مليون مريض عربى، ونحو 10% من سكان إفريقيا يعالجون خارج بلادهم، إذن الأمر بحاجة لعمل جاد، وجهد شاق يعتمد رؤية تضمن نجاح التوجه والتنفيذ العاجل.
قطاع الصناعات الدوائية:
تمثل الصادرات في هذا القطاع الحيوي أمرا بالغ الأهمية، وتفتح لنا مجالا للتدريب، والتشغيل ، والاستفادة بعوائد ذات قيمة كبيرة، خاصة إذا كانت شروط التسهيلات المصرية للشركاء الأجنبية تتضمن بند أن الأموال المتداولة من ناتج التصدير تكون حسابات البنوك المصرية.
قطاع الثروة السمكية:
هذا القطاع المهم يعانى الإهمال الشديد على مستوى المؤسسات، حتى أصبح عاجزا عن تلبية احتياجات السوق المحلى، بما دفع دولة بحجم مصر إلى الاستيراد المباشر. أناشد المسئولين، مع تنفيذ المشروعات الجديدة تطوير البحيرات، وأحواض قناة السويس، وبركة غليون فى كفر الشيخ، الاهتمام بإنشاء مشروعات لتربية الأسماك على كافة الشواطئ غير المستغلة، ومن الممكن التعاون فيها مع القطاع الخاص بمشاركة جهاز الخدمة الوطنية للقوات المسلحة، حتى تكون تحت إشرافه، حتى لا يتعرض أمن البلاد للخطر.
في النهاية، يمكن القول إن النماذج التى سبق ذكرها تمثل نماذج توضيحية لما نقف نحن عليه، وما نقوم به، وما يتعين علينا القيام به أيضاً للوصول إلى التريليون الأول، الذى يمكننا أن يكون لدينا احتياطى نقدى يمثل مالا يقل عن 35% من إجمالي الناتج القومي- أى مبلغ يعادل 350 مليار دولار - و عند تحقيق هذا يجب إعداد مخطط طموح لتحقيق رقم 2 تريليون دولار ناتج قومى، واحتياطى نقدى يقدر بـ 700 مليار دولار. إن هذا الأمر ليس مستحيلا نهائيا، فقط يحتاج الأمر إلى تخطيط دقيق جدا وتنفيذ شديد الصرامة، ثم توافر إرادة قوية وإدارة رشيدة، هذا الأمر يدعو إلى الإقدام، والعمل، فالوطن رغم المصاعب الكبيرة مستعد لتقديم كل شئ من أجل النهوض بالدولة المصرىة، سواء على مستوى المواطنين، أو القيادة، وذلك يحتاج إلى مزيد من الثقة، مع مزيد من العمل.