قرار الولايات المتحدة حجب 95.7 مليون دولار من المساعدات التي تقدمها لمصر (30 مليون دولار مساعدات اقتصادية، و65,7 مليون دولار مساعدات عسكرية)، وتأخير إرسال 195 مليون دولار من المساعدات العسكرية السنوية لمصر التي تقدر بـ 1,3 مليار دولار –هذا القرار دفع الكثيرين داخل واشنطن وخارجها للحديث عن مرحلة قادمة من التوتر في العلاقات الأمريكية – المصرية، التي تحسنت بعد سنوات من الاضطراب خلال إدارة الرئيس الأمريكي السابق "باراك أوباما"، لاسيما عقب ثورة الثلاثين من يونيو 2013، ويأتي هذا القرار بعد أيام من الحديث عن إعادة مناورات النجم الساطع التي ألغاها "أوباما" في عام 2014.
بيد أن تلك المخاوف قد بددها اتصال الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" بنظيره المصري "عبدالفتاح السيسي" مساء يوم الخميس (24 أغسطس الجارى)، الذي أكد فيه على علاقات الصداقة بين البلدين، وحرص واشنطن على دعم تلك العلاقات، وتذليل كل العوائق التي يمكن أن تؤثر فيها.
يكشف قرار حجب وتأخير أجزاء من المساعدات العسكرية والاقتصادية لمصر، والاتصال الأخير بين "ترامب" و"السيسي" أن المساعدات الأمريكية
للقاهرة تمزج بين هدفين رئيسيين: أولهما الضغط على النظام المصري لتبني سياسات ترغب الولايات المتحدة أن ينتهجها. وثانيهما، تحقيق المصلحة الأمريكية؛ حيث تمنح المساعدات العسكرية الولايات المتحدة مزايا كثيرة، من أهمها مناورات النجم الساطع، والتي تعد الأكبر من نوعها في العالم، ومزايا عسكرية ولوجيستية، مثل استخدام الأجواء المصرية، وتسهيل عبور قناة السويس للسفن والبوارج الأمريكية، وفضلاً عن التعاون الأمني والاستخباراتي في مجال مكافحة الإرهاب.
وكانت إدارة الرئيس "أوباما" تستخدم ورقة المساعدات العسكرية للضغط على الحكومة المصرية، لكنها كانت تتراجع عن تعنتها، وتستمر تلك المساعدات، وذلك لتحقيق بعض المصالح الجوهرية التى تراها الولايات المتحدة، والمتمثلة فى مساعدة مصر لتأمين حدودها، وكذا أمن سيناء، بغرض منع تدفق الأسلحة إلى قطاع غزة، وأخيرا من أجل مكافحة الإرهابيين الذين يسعون لمهاجمة المصالح الأمريكية والمصرية على حد سواء.
تُظهر تعليقات أعضاء مجلسي الكونجرس الأمريكي (مجلس النواب والشيوخ)، والمسئولين والكتاب والخبراء في مراكز الفكر والرأي الأمريكية بشأن المساعدات الأمريكية لمصر، ومشروعات القوانين التي قدمها عدد من أعضاء الكونجرس السابقين لتعديل هيكل تلك المساعدات عن تيارين رئيسيين، هما على النحو الآتى:
التيار الأول: استمرار المساعدات الأمريكية لمصر: يدعو أنصار هذا التيار إلي ضرورة المحافظة على المساعدات الأمريكية كما هي حاليًا، مع تجنب إحداث أي تغييرات فعلية عليها، لا سيما المساعدات العسكرية، وذلك لمساعدة الجيش المصري فى هزيمة الإرهابيين في سيناء. وتقوم حجة هذا التيار على أن الأمن وليس الديمقراطية هو الذي يشكّل الأولوية القصوى لفئة كبيرة من المصريين، في ظل تزايد العمليات الإرهابية التي لم تعد تقتصر على سيناء، والخوف من أن تؤثر هذه العمليات علي استقرار الدولة المصرية، مثل بعض دول الجوار. لذا أكد على ضرورة استمرار المساعدات والمعدات الأمريكية ذات الصلة بمكافحة الإرهاب إلى مصر، من دون أي تأخير غير مبرر، خاصة مع الالتزام المصري الجدي بمحاربة الإرهاب فى مصر والمنطقة.
ويرى أنصار هذا التيار أن وقف أو تعليق المساعدات العسكرية في ذلك الوقت سيبعث برسالة سلبية لدول المنطقة بشأن الالتزام الأمريكي بمحاربة الجماعات الإرهابية في المنطقة، ومساعدة حلفائها في حربها ضد التطرف والإرهاب الذي يُعد أولوية استراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية، وأحد أركان سياستها الخارجية في منطقة الشرق الأوسط.
ولذلك، حذر عدد من المسئولين العسكريين الأمريكيين الكونجرس الأمريكي، في جلسات استماع عدة، من خطأ تخفيض المساعدات العسكرية لمصر. وفي هذا الشأن، حذر "مايك مولين"، رئيس هيئة الأركان المشتركة الأسبق، الكونجرس من خطأ تخفيض المساعدات العسكرية لمصر، مؤكدًا أنها ذات قيمة عالية جدا للولايات المتحدة، لأنه ليس فى وسع دولة أخرى أن تقوم بالدور المصرى بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط.
وفي السياق ذاته، قال السفير الأمريكي الأسبق في مصر "دانيال كيرتزر" في جلسة استماع أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي في يوليو 2013: "لا فائدة من تقليص الولايات المتحدة الأمريكية للمساعدات التي تقدمها إلى الجيش المصري الذي يتشارك مصالحنا، وأنه الفريق الوحيد الذي يستطيع في المستقبل أن يضمن لنا الاستقرار الداخلي"، على حد تعبيره.
التيار الثاني: إلغاء أو إعادة تقييم المساعدات الأمريكية لمصر. يرى أنصار ذلك التيار أنه يتوجب على الولايات المتحدة الأمريكية، فى الحال، وجوب إلغاء تلك المساعدات أو تقليصها، لا سيما العسكرية منها، نظراً لأن مصر ليست حليفا للولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب المستشري في منطقة الشرق الأوسط، كما يروج الفريق الداعم لاستمرار المساعدات الأمريكية، وبالتالى عدم فائدة تلك المساعدات في التأثير على القرار المصري، وأنها ليست أداة ناجحة في التأثير والضغط على مصر لتنفيذ ما تريده الولايات المتحدة.
ويستند مؤيدو هذا التيار إلى حجج من قبيل أن النظام المصري لا يشارك الولايات المتحدة الأمريكية في قيم الديمقراطية والحرية واحترام حقوق الإنسان، وأن المساعدات العسكرية لا تنعكس على المواطن المصري الذي يكن كراهية للسياسات الأمريكية في المنطقة. بالإضافة إلى أن وقف المساعدات سيتيح فرصة لتغييرات مطلوبة في العلاقات العسكرية المصرية-الأمريكية، بحيث تدفع الولايات المتحدة فقط "مقابل" فى سبيل الخدمات التي تحصل عليها من مصر.
وأخيرا تمكين الولايات المتحدة من تقديم العون والمساعدة لدول أخرى قد تحتاج إلى المساعدة، مثل تونس والمغرب وبعض الدول الإفريقية، والتي ستكون ممنونة للمساعدات التي تقدمها لها الولايات المتحدة، خلافًا لمصر التي لا تقدر المساعدات الأمريكية لها على حد قول أنصار هذا التيار.
وفي مقابل التيار الداعي لإلغاء المساعدات العسكرية والاقتصادية الأمريكية لمصر، يبرز في الوقت الراهن تيار داخل الأوساط السياسية والبحثية الأمريكية يدعو لإعادة تقييم العلاقة ذات التاريخ المديد، والقائمة بين المؤسسة العسكرية المصرية والولايات المتحدة الأمريكية، وإعادة تجديد وتحديث العلاقات الثنائية بما في ذلك المساعدات العسكرية لتتناسب مع الواقع السياسي المصري الجديد، بحيث لا تكون هذه المساعدات لمصر "شيكًا على بياض"، ولا بمعزل عن الواقع السياسي المصري الداخلي. ويدعو أنصار هذا التيار بربط المساعدات بجملة من الشروط التي يجب على القاهرة اتخاذها لضمان استمرارها، وتحويل الجزء الأكبر من المساعدات للاستثمار في الشعب المصري.
خلاصة القول، إن المساعدات الأمريكية لمصر، لا سيما العسكرية، أضحت سلاحا ذا حدين في يد الإدارات الأمريكية المتعاقبة، لكنها لن تخاطر به لأسباب عدة، منها الخوف من التأثير في السلوك الخارجي للجيش المصري، لا سيما في وقت تحاول فيه روسيا توسيع نفوذها في الشرق الأوسط، من خلال بيع أسلحة إلى مصر أو توجه المؤسسة العسكرية إلى تمويل مشترياتها العسكرية بنفسها، وهو الأمر الذي يؤدي إلي تضاؤل نفوذ واشنطن في القاهرة، فضلا عن تهديد استمرار التعاون طويل المدى مع مصر، وخسارة الولايات المتحدة فوائد استراتيجية سبقت الإشارة إليها.
كما أن هناك مخاوف أمريكية من أن يؤثر حجب المساعدات العسكرية فى الداخل الأمريكي، حيث إن وقف برنامج المساعدات العسكرية لمصر سيمثل ضربة قوية قصيرة المدى - على الأقل - للشركات العسكرية الأمريكية التي تتعاقد معها الإدارة الأمريكية في توريد أجزاء من المساعدات العسكرية الأمريكية إلى مصر. ومن المحتمل أن تعاني العشرات من الشركات الصغيرة والشركات الفرعية من عواقب اقتصادية أكثر خطورة من وقف المساعدات العسكرية لمصر.