تعد التجربة السنغافورية من أهم التجارب في مكافحة الفساد، خاصة أن دولة سنغافورة تحولت بعد تطبيق استراتجيتها في مكافحة الفساد من دولة كانت تعد واحدة من الدول الأكثر فسادا، في ستينيات القرن الماضي، إلى دولة تعد في الوقت الراهن من أفضل عشر دول في مجال مكافحة الفساد، بحسب مؤشر مدركات الفساد، الصادر عن منظمة الشفافية العالمية.
وإذا كان كثير من السياسات المصرية في مكافحة الفساد ينهار على صخرة التنفيذ، فإنه يمكن الاستفادة من التجربة السنغافورية لمعالجة أسباب التعثر في الاستراتيجية المصرية المستخدمة، والتي لم تنتج ثمارها حتى الآن في كثير من القطاعات، وهو الأمر الذي يطرح تساؤلا مهما يتعلق بمدى تأهيل البيئة المصرية في تطبيق هذا النموذج، وحدود نجاح تطبيقه في مصر.
- إجراءات علاجية:
يقوم إطار مواجهة الفساد في سنغافورة على أربعة أعمدة رئيسية، هي: قوانين فعالة لمواجهة الفساد، وجهاز فعال لمكافحة الفساد، ونظام تقيمي وعقابي قوي، وجهاز إدارة عامة كفء. ويمكن تحديد ملامح تلك المحددات الأربعة على النحو الآتى:
شمولية الإطار القانون، حيث تم إصدار قانون منع الفساد والمعروف بـ PCA, قانون منع الفساد عام 1960، وتم إجراء العديد من التعديلات. وهدف هذا القانون تغليظ العقوبة على الفاسدين. ففي ظل حالة الفقر التي واجهتها سنغافورة في ستينيات القرن الماضي، أصبح بديل زيادة الرواتب نوعا من الرفاهية. من هنا، كان بديل تغليط العقوبة هو الحل المناسب، وقد وصلت درجة العقوبة إلى السجن لمدة خمس سنوات، أو غرامية مالية بلغت في أحد التعديلات 100000 دولار.
بالإضافة ما سبق، وبحسب القانون، فإن كل ما ثبت إضراره بالمال العام عليه أن يقوم برد ما أهدره، سواء رشوة أو اختلاس، مع فرض عقوبات محددة تراها المحكمة. علاوة على ذلك، تم استحداث جملة من القوانين، مثل قانون إعلان الأموال والممتلكات، إذ يلزم كل مسئول حكومي أن يقدم بياناً كل عام بتاريخ تعيينه في المنصب الذي يشغله، وعن حجم أمواله واستثماراته في البنوك والمؤسسات، بما في ذلك الأموال العائدة لزوجته وأبنائه .
ويعد أهم ما ميز الإطار القانوني لمواجهة الفساد هو المرونة بحيث أدخلت تعديلات عديدة استجابة للتغيرات في البيئة، علاوة على شموله لجميع أنواع الفساد، عاما كان أو خاصا. ففي القطاع الخاص، أعطي القانون لرؤساء الشركات الخاصة الحق في رفع دعوى مدنية بالمطالبة برد المال الذي أهدره الموظف بها، وذلك بجانب العقوبة التي تعرض لها من المحكمة. ويلاحظ كذلك شمول تطبيق القانون لكل مواطني سنغافورة حتى من العاملين بالخارج، سواء في السفارات، أو في منظمات خارجية تابعة لسنغافورة، وعدّ أي انتهاكات خارجية للنزاهة بمنزلة انتهاك يحدث داخل سنغافورة.
تعظيم دور الأجهزة الرقابية، حيث تم إنشاء مكتب مكافحة التحقيق في ممارسات الفساد عام 1952 كجهة رئيسية لمكافحة الفساد، تتبع رئيس الوزراء مباشرة، وتعمل بمنطق عد التسامح مع ممارسات الفساد zero tolerance أيا كان نوعه، أو درجته، وبمنطق رافض لأي استثناءات للسلوك الفساد، أيا ما كان مرتكبه ، مع إعطاء سلطات واسعة لأعضائها في الممارسات الفاسدة في الكشف عن الجرائم، ومنها مراقبة التغييرات التي تطرأ على حياة الموظفين، وإمكان الاطلاع على حساباتهم المصرفية بناء على تفويض من النائب العام بسنغافورة، علاوة على صلاحيات لأعضاء مكتب تحقيقات ممارسات الفساد في القبض على المتهمين بممارسات الفساد، أو البحث عنهم ،علاوة على إعطاء أعضاء هذا المكتب صلاحية طلب حضور الشهود وسؤالهم بما يخدم التحقيق المتعلق بقضايا الفساد. تتمثل النقطة المهمة في جعل هذا المكتب هو الجهة الوحيدة للتحقيق، والتي تصب فيها جهات التحقيق الأخرى.
ردع النيات، حيث تم تطبيق أحكام وأنظمة رادعة للسلوك الفاسد، فقد ضمن النظام القضائي وضع أحكام غير مهادنة أو متسامحة مع السلوك الفاسد، وذلك دون الإخلال بنظام عدالة شفاف يضمن في الوقت نفسه وجود دفاع عن المتهمين، وفي الوقت ذاته هناك نظام ادعاء قوي. أسهم النظام القضائي واقتناعه بأهمية دوره في مواجهة الفساد في وضع أحكام أسهمت إلى حد كبير في ردع من لديه نيات محتملة لارتكاب سلوك فاسد.
البرامج الإصلاحية الشاملة، حيث تم وضع مجموعة من البرامج الإصلاحية لضمان جهاز إداري كفء على محورين، الأول: الإجراءات، ومنها: يجب على الموظف العام ألا يستعير أموالا من أي شخص له تعاملات رسمية مع هذا الموظف، وألا تتجاوز المديونيات غير المأمونة للموظف العام أكثر من راتب ثلاثة أشهر، وألا يستخدم الموظف العام ما لديه من معلومات لأغراض خاصة، مع إعلان الموظف لذمته المالية مع بداية التعيين مع تطبيق ذلك بشكل سنوي, مع حظر قبول الموظفين لأية هدايا من المواطنين تحت أي مسمى.
أما المحور الثاني والأخير، فيدور حول تصميم نظام إدارة عامة كفء يقوم على مبادئ النزاهة، ووضع الأشخاص المتمتعين بالسلوك المستقيم، مع الاستجابة لمطالب الجمهور والمتعاملين مع هذا الجهاز، بالإضافة إلى بعض الإصلاحات في الجهاز الإداري، تعد وقائية، سيتم تناولها ضمن بعض الإجراءات الوقائية.
- طرق الوقاية:
لقد وضعت التجربة السنغافورية في مكافحة الفساد مجموعة من الإجراءات العلاجية، يمكن رصد أهمها على النحو الآتى:
• تم إجراء تعديل لعدّ الشخص مدانا بتهمة الفساد، حتى ولو لم يتلق رشوة، ما دامت القرائن بينت نياته للشروع في ارتكاب الفساد، أو حتى لو قبل الرشوة ولم يثبت تقديمه مقابلا لها.
• رفع رواتب الموظفين في الدولة بشكل يجعلها كافية لتوفير مستوى حياة كريمة. وفي الواقع، لم تأت هذه الخطوة إلا في ثمانينيات القرن الماضي، وبشكل تدريجي بعد أن شهدت سنغافورة تحسنا ونموا اقتصاديا ملحوظا. وكان القادة السياسيون وكبار رجال الإدارة أول من شهدوا تحسنا في الرواتب. بجانب ذلك، أصبحت الرواتب تنافسية، أي ترتبط بالأداء، ولا تطبق على الجميع.
• تبسيط الإجراءات الإدارية وتقليلها من خلال برنامج العملية الصفرية The Zero-In-Process (ZIP)، وبمقتضاها تم تقليل الإجراءات، مع تحديد جهة واحدة لتقديم الخدمة يتوجه إليها المواطن عوضا عن التشتت بين أكثر من جهة للحصول على الخدمة، وهذا شبيه في مصر بما يسمى بتجربة الشباك الواحد. بجانب ذلك، تم وضع مدونة إجراءات إدارية واضحة.
• تصميم آليات مختلفة لمعرفة رد فعل وآراء الموطنين والموظفين، وممثلي القطاع الخاص بشأن مقترحاتهم بخصوص تطوير الخدمات، وتقليل فرص الفساد في الجهاز الإداري.
• إيجاد أنظمة شفافة تؤدي إلى حد كبير من تقليل الأسرار التي يملكها الموظف العام بسبب وظيفته.
• تحديد أجل سنة كحد أقصى، يجب الانتهاء فيها من القضايا من حيث التحقيق والإحالة إلى المحاكم للفصل فيها، أو حفظ الأوراق.
• تدخل الهيئة العامة لمكافحة الفساد كتدبير وقائي لمنع موظف ما من تولي منصب قيادي بسبب شبهات سابقة بالفساد.
• حظر استعمال الصفة الوظيفية في الأماكن والمراجعات بالنسبة للقضاة وأعضاء النيابة العامة والموظفين كافة إلا بالقدر الذي يستدعيه ذلك .
• إيجاد نظام مفتوح للمشتريات الحكومية، يمكن الاطلاع عليه من خلال مركز الأعمال الإلكتروني.
• اتباع سياسة الإفصاح عن الممارسات الفاسدة، خاصة حالات كبار المسئولين بما يحقق الهدف من تعزيز ثقة المواطنين في الحكومة. فعلى سبيل المثال، تمت إدانة وزير الخارجية الأسبق Wee Toon Boon,عام 1975، مما زاد ثقة المواطنين في الحكومة، ومن ثم التبليغ.
- دروس مستفادة:
هناك عدة دروس في التجربة السنغافورية في مكافحة الفساد، يمكن الاستفادة منها في الحالة المصرية، وهي:
أولا: وجود إرادة سياسية على أعلى مستوى، تؤمن بمواجهة الفساد، وتمثل قدوة في اتباع السلوك النزيه.
ثانيا: شمولية قوانين مكافحة الفساد، بمعنى أن تطبق سياسات وإجراءات مكافحة الفساد على أي من يثبت تورطه في سلوك فاسد، بغض النظر عن مكانته أو نفوذه. فإذا ما حدث عكس ذلك، فإن استراتيجية مكافحة الفساد تفقد مصداقيتها، وتأتي بنتائج عكسية، وكذلك يتم تطبق قوانين مكافحة الفساد على المنظمات كافة في الدولة، سواء عامة أو خاصة.
ثالثا: أن تكون سياسات واستراتيجيات لمكافحة الفساد شاملة وجذرية Radical . حيث إن الفساد لا يصلح معه اتباع سياسات تدرجية تراكمية جزئية( وهو ما يتفق مع دراسة لكاتب المقال عن الفساد في قطاع الإسكان من أن البديل الأفضل لمواجهة الفساد يتمثل في الشمولية والجذرية ).
رابعا: أن تكون الجهات المعنية بمكافحة الفساد منزهة عن أي شبهة فساد، ويمكن ضمان ذلك بتبعيتها لقيادة سياسية نزيهة مشهود لها بباع طويل من النزاهة ومكافحة الفساد.
خامسا: إجراء مراجعات مستمرة لسياسات وقوانين، وإجراءات مواجهة الفساد، وإجراء التعديلات المطلوبة من أجل مواجهة المستجدات في السلوك الفاسد، والذي عادة ما يتجدد باستمرار بتجدد الظروف. فعلى سبيل المثال، من المتوقع أن ينجم عن سياسات التقشف في الإنفاق، ورفع الدعم ارتفاع من يدخلون تحت خط الفقر من الموظفين العموميين، وهو ما قد يستتبعه وجود فرص محفزات لانتشار وتفشي الفساد، وهو ما يستلزم مراجعة الأنظمة الإدارية الحاكمة لمواجهة الفساد المحتمل.
سادسا: إذا كان من الأهمية زيادة الأجور كمدخل لمواجهة الفساد، فانه أحيانا ما يفرض الوضع الاقتصادي ضرورة وضع أنظمة صارمة لموجهة الفساد إلى أن يتحسن الوضع بشكل يعقبه زيادة الرواتب بشكل تنافسي. وإلى أن يحدث هذا الوضع، ففي فترة الفقر الاقتصادي يمكن أن يهرب الأكفاء من الموظفين إلى القطاع الخاص، بينما يبقى الأقل كفاءة في القطاع الحكومي، وأحيانا ما يكون هؤلاء هم الفرص المحتملة للاستسلام للفساد من أجل تعويض فارق الرواتب مع مستوياتهم الحياتية.
سابعا: إلزام من تثبت عليهم تهم فساد برد المبالغ التي أخذوها، مع وضع عقوبات تمنع تمتع الفاسد بالمال العام.